الناظر الصحيح على الجامع الصحيح

حديث: الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وبلقائه ورسله

          50- (كَأَنَّكَ تَرَاهُ): حالٌ مِنَ الفاعلِ، أي: تعبدَ اللهَ مُشبِّهًا(1) بمَنْ يَرَاهُ، قاله الكِرمانيُّ.
          وقال الطِّيبيُّ: («كَأَنَّكَ» إمَّا مفعولٌ مطلقٌ، أو حالٌ مِنَ الفاعلِ، والثَّاني أوجَهُ)، ثمَّ ذَكَرَ وجهَهُ، وقد ذكرتُه في مؤلَّفي الَّذي على «البخاريِّ». /
          (فَإِنَّهُ يَرَاكَ): ليسَ هو نفسَ جوابِ الشَّرطِ؛ لأنَّه ليسَ مسبَّبًا عنه، بلِ الجوابُ مقدَّرٌ(2)، أي: فإِنْ لم تكنْ تَراهُ، فاعبدِ الله، أو اعتبر(3)، فإنَّهُ يَراكَ، كما يقال: «إِنْ أكرمتَني فقدْ أكرمتُك أحسنَ»، أي: إِنْ تعتدَّ بإكرامِكَ فاعْتدَّ بإكرامي، [فقد أكرمتُك]، ويَحتملُ: فإِنْ لم تكنْ تَراهُ فلا تَغْفُل فإنَّه يَراكَ، فإنَّ رؤيَتَه مستلزمةٌ ألَّا(4) تَغْفُلَ عنه؛ [يعني: أنَّهُ مجازٌ في كونِهِ جزاءً]، والمرادُ لازِمُهُ(5)، وهذا قولُ البيانيِّ، والأوَّلُ قولُ النَّحْوِيِّ.
          (مَا): نافيةٌ بمعنى: لستُ أنا أعلمَ منكَ يا جبريلُ بعِلْمِ القيامةِ.
          (عَنْهَا): إِنْ قلتَ: من حقِّ الظَّاهرِ أَنْ يُقالَ: ([ما المسؤولُ] عنه) ليَرجِعَ الضَّميرُ إلى اللَّام قلتُ: كما يقال: (سألتُ عن زيدٍ المسألةَ) يقال: (سألتُه عنِ / المسألةِ)، فالضَّميرُ المرفوعُ راجعٌ إلى اللَّام، والمجرورُ إلى (الساعةِ)، واعْلَمْ أَنَّ الضَّميرَ [في (عنها)] راجعٌ إلى (السَّاعةِ)، فلا بُدَّ مِنْ تقديرِ مضافٍ في السُّؤالِ والجوابِ، نحو: (وَقْت) و(إِبَّان) إِذْ وجودُ السَّاعةِ ومجيئُها مقطوعٌ به، وإنَّما يُسأَلُ عن وقتِها.
          (بِأَعْلَمَ): [9ب] (الباءُ) زِيدَتْ لتأكيدِ معنى النَّفي.
          (إِذَا وَلَدَتِ): أتى بـــ(إِذَا) لأنَّها لِمَا يتحقَّقُ، بخلافِ (إِنْ)، حتَّى لو قالَ شخصٌ: (إِنْ قامتِ القيامةُ) أشعرَ بالشَّكِّ الَّذي يكفرُ به، وجوابُ الشَّرطِ محذوفٌ، أي: فالولادةُ شرطٌ معدودٌ مِنَ الأشراطِ، وجملةُ الشَّرطِ متضمِّنَةٌ له كما في قوله تعالى: {فِيهِ آيَاتُ بَيِّـنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران:97] التَّقديرُ: وآمنٌ مَنْ دَخَلَه(6)، واعلم أنَّه عدَّ مِنَ الأشراطِ اثنين، والجمعُ يقتضي ثلاثةً، فهو حُجَّةٌ لِمَنْ قالَ: إِنَّ أقلَّ الجَمْعِ اثنان، أو أَنَّهُ اكتفى باثنين لحصولِ المقصودِ؛ كما في الآية المذكورةِ، وإنَّما أتى به جمعَ قِلَّةٍ والعلاماتُ أكثرُ مِنْ عَشرَةٍ؛ لأنَّ جَمْعَ القِلَّةِ قد يقومُ مَقامَ الكَثْرةِ، وبالعكس، أو لفَقْدِ جَمْعِ الكَثْرةِ لِلَفظِ (الشَّرطِ)، أو أَنَّ الفَرْقَ بالقِلَّةِ والكَثْرةِ إنَّما هو(7) في النَّكراتِ لا في المعارفِ.
          (الْبُهْمُِ): بجَرِّ الميمِ صفةً لـــ(الْإِبِلِ)، ورفْعِها صفةً للـــ(رُعَاةُ). /
          (فِي خَمْسٍ): قال الطِّيبيُّ: (أي: عِلْمُ وقتِ السَّاعةِ داخلٌ في جملةِ خمسٍ، وحَذْفُ متعلَّقِ الجارِّ سائغٌ شائعٌ؛ كما في قوله تعالى: {فِي تِسْعِ آيَاتٍ} [النمل:12]، أي: اذهبْ إلى فرعونَ في شأْنِ تسعِ آياتٍ، ويجوزُ أنْ يعلَّق بـــ«أَعْلَمَ»، يعني: ما المسؤولُ عنها بأعلمَ في خَمْسٍ، أي: في عِلْمِ الخمسِ، أي: لا ينبغي لأحدٍ أنْ يَسألَ أحدًا في عِلْمِ الخَمْسِ؛ لأنَّ العِلْمَ بها مُختصٌّ بالله تعالى).
          وقال غيرُه: و(في) هذه قيل: بمعنى (مع) كما تقول في الدُّعاء: (واحشرني في زمرتهم)، وقيل: بمعنى (مِن)، أي: علم السَّاعةِ مِنْ جُملةِ خَمْسٍ، وقيل: متعلِّقٌ بمحذوفٍ تقديرُه: ذَكَرَ اللهُ تعالى ذلكَ في خَمْسٍ، أو تجدُ عِلْمَ ذلك في خَمْسٍ، قيل: هذه التَّقديرات تقتضي أنْ يذكرَ (فِي خَمْسٍ) قبل قوله: (فَأَخْبِرْنِي عَنْ أَمَارَتِهَا)، فالأَولى أنْ يُقالَ: إنَّه في موضعِ النَّصبِ على الحالِ، أي: تَراهم [ملوكَ الأرضِ] متفكِّرينَ في خمسٍ لا يَعلمُهُنَّ إلَّا اللهُ. /
          وقال الكِرمانيُّ: (هو خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ، أي: علمُ وقتِ السَّاعةِ في جملةِ خَمْسٍ، أو متعلِّقٌ بـــ«أَعْلَمَ»).
          إشارةٌ: إِنْ قلتَ: كيف طابقَ تفسيرُ سيِّدِ المرسلينَ الآيةَ بقوله: «فِي خَمْسٍ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا اللهُ» وليس في الآيةِ أداةُ الحصرِكما في الحديث؟ قلتُ: فيه وجهانِ:
          أحدُهما: أَنْ يكونَ {عِلْمُ السَّاعَةِ} [لقمان:34]فاعلًا للظَّرف؛ لاعتماده على اسم {إِنَّ}، ويُعطف {وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ}[لقمان:34]وما بعدَه مِنَ الجملِ على الظَّرفِ وفاعلِه، على تأويلِ الجملتين المنفيَّتين بإثبات ما نُفِيَ فيهما لله تعالى عنِ الغير، أي: يَعلمُ ماذا تكسِبُ كلُّ نفْسٍ غدًا، ويعلمُ أنَّ كلَّ نفْسٍ بأيِّ أرضٍ تموتُ.
          قال أبو البقاء: (هذا العطفُ يدُلُّ على قوَّةِ شَبَهِ الظَّرفِ بالفعلِ).
          وقال صاحبُ «الكشف»: (جاءَ بالظَّرفِ وما ارتفعَ به، ثمَّ قال: {وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ}، فعَطَفَ الجملةَ على الجملةِ، ومثلُه قولُه تعالى: {نُسقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ} [المؤمنون:21]، فصدَّر بالفعلِ والفاعلِ، ثمَّ عَطَفَ بالظَّرفِ وما ارتفعَ به).
          وإذا تقرَّرَ هذا فنقول: إذا كانَ الفعلُ عظيمَ الخطرِ، وما يُبْنَى عليه الفعلُ عَلِيَّ القدْر رَفيعَ الشَّأن؛ فُهِمَ منه الحصرُ على سبيلِ الكنايةِ.
          قال صاحب «الكشَّاف» في قوله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} الآيةَ [الزمر:23]: / (إيقاعُ اسمِ اللهِ مبتدأً وبناءُ {نَزَّلَ} عليه: فيه تفخيمٌ لــ{أَحْسَنَ الْحَدِيثِ}، ورَفْعٌ منه، واستشهادٌ على حُسْنِه، وتأكيدٌ لإسنادِه إلى الله تعالى، وأنَّه مِنْ عِندِه، وأنَّ مثلَه لا يجوزُ أَنْ يصدُرَ إلَّا عنه).
          وقال في قوله تعالى: {يَبْسُطُ الرِّزْقَ} في (الرَّعد[26]): (اللهُ وحدَه هو يبسُطُ الرِّزقَ ويَقْدِرُ، دونَ غيرِه).
          فإن قلتَ: إذا عطفتَ {وَيُنَزِّلُ} على الجملةِ؛ كيف دلَّ على العِلْم؟ قلتُ: إذا نَفى إنزالَ الغيثِ عمَّا كانوا ينسبونَ إليه مِنْ طلوعِ الأنواءِ اختصَّ بالله تعالى، فيَلْزَمُ منه اختصاصُ عِلْمِ الله تعالى به.
          وثانيهما: أَنْ يذهبَ إلى أنَّ الظَّرفَ خبرٌ مقدَّمٌ(8) على المبتدأِ؛ لإفادةِ الحصرِ، ويُعطف {وَيُنَزِّلُ} على المضافِ إليه؛ بمعنى: عندَه عِلْمُ السَّاعةِ وعِلْمُ تنزيلِ الغيث؛ على تقدير: (أَنْ يُنَزِّلَ)، فحذف(9) (أَنْ)، فارتفعَ الفعلُ، نحو قوله: (...أحضُرُ الوغى...)، ويُعطف {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ}[لقمان:34]وما بعدَه على / المضافِ، أي: إنَّ اللهَ عندَه عِلْمُ ما في الأرحامِ وعِلْمُ ماذا تَكسِبُ كلُّ نفْسٍ غدًا، على التَّقديرِ المذكورِ.
          فإِنْ قلتَ: أيُّ نكتةٍ دَعَتْ إلى العُدولِ عنِ المثبتِ إلى المنفيِّ في قوله: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ}؟ وما فائدةُ تكريرِ {نَفْسٌ} وتنكيرِها؟ وإيثارِ الدِّراية على العلم؛ فإنَّها إدراكُ الشَّيءِ بالحيلةِ؟ قلتُ: إذا نُفيتِ الدِّرايةُ _لِمَا فيها مِنْ معنى الحيلةِ في اكتسابِ العِلْمِ_ مِن كلِّ نفسٍ على سبيلِ الاستغراقِ؛ لوقوعِ النَّكرةِ في سِياقِ النَّفيِ؛ أفادَ أنَّ كلَّ نفْسٍ منفوسةٍ مِنَ الإنسانِ وغيرِه، إذا أَعملَتْ [حِيَلَها في معرفةِ ما يختصُّ ويلصَقُ بها، ولا شيءَ أخصَّ في الإنسانِ من كسبِ نفسِه وعاقبةِ أمره، ولا يقفُ على شيءٍ مِن ذلك؛ فكيفَ يقفُ على] ما هوَ أبعدُ وأبعد، خصوصًا مِنْ معرفةِ وقتِ السَّاعةِ، وأيَّانَ إنزالُ الغيثِ، ومعرفةِ ما في الأرحامِ؟
          والفائدةُ في بيانِ الأماراتِ: هي أَنْ يتأهَّبَ المكلَّفُ المسيرَ إلى المعادِ بزادِ التَّقوى، والله تعالى أعلم.
          (الآيَةَ): (بالنَّصبِ بفعلٍ محذوفٍ، أي: اقرأِ الآيةَ، وبالرَّفعِ بأنَّه مبتدأٌ وخبرُه محذوفٌ، أي: الآيةُ مقروءةٌ إلى آخرِها، وبالجرِّ، أي: إلى الآيةِ) انتهى.
          وقال السُّخُوميُّ: («الآيَةَ» بالنَّصبِ؛ فإنَّ الرَّسولَ قرأَ الآيةَ إلى آخرِها). /


[1] هكذا في النسختين، و«الكواكب الدراري» (1/196): (مُشبِّهًا)، وفي «اللامع الصبيح» (1/287): (مُتشبِّهًا).
[2] من قوله: (يراك: ليس هو نفس...) إلى هنا غير واضح في (أ).
[3] تحرفت في النسختين و«اللامع الصبيح» (1/287) إلى: (اعبد).
[4] في (ب): (لا)، وهي في (أ) مشتبهة، وفي «الكواكب الدراري»: (لأن لا).
[5] في النسختين: (فالجزاء لازم)، والمثبت من «الكواكب الدراري» (1/196)، وما بين معقوفين مستدركٌ منه.
[6] من قوله: (مقام إبراهيم ومن دخله...) إلى هنا غير واضح في (أ).
[7] في النسختين: (هي)، والمثبت من المصادر.
[8] في (ب): (يقدم).
[9] في النسختين: (محذوف)، والمثبت من «الطيبي».