الناظر الصحيح على الجامع الصحيح

مقدمة المؤلف

          ♫
          اللَّهُمَّ صلِّ على سيِّدِنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِه وسلِّم(1)
          الحمدُ لله رافعِ فاعلِ كلِّ خيرٍ ومُعْلِيه، وخافضِ عاملِ كلِّ ضَيْرٍ ومُدْلِيه، الذي خصَّصَ مَنِ اجتباهُ بالإضافةِ إليه والتمييزِ لأفضلِ الأحوال، وعَطَفَ على مَنِ ارتضاهُ فهيَّأَهُ لشريفِ الصفاتِ وتزكيةِ الأقوال، الذي نَصَبَ سيِّدَنا محمَّدًا صلعم عَلَمًا ظاهرًا للاهتداء، ورَفَعَ اسمَه وخبرَهُ ومَنْ تابعَه مِنَ الابتداء، وعرَّفَ مجموعَ الخلائقِ بَرَكةَ ضميرِه السَّالم، ونكَّرَ جملةَ أبنيةِ الكفرِ بعزمِهِ الجازم، صلَّى اللهُ عليه وعلى آله الذين جَعَلَهُم مَصدرًا لصحيحِ الأفعال، وأصحابِه الموصوفينَ بالسلامةِ عنِ الهَمْزِ واللَّمْزِ والتضعيفِ والاعتلالِ، ما تركَّبَ مُرَكَّبٌ وأفادَ كلام، ووصلَ كلمةً ألفٌ ولام، وسَلَّمَ تسليمًا كثيرًا.
          وبعدُ:
          فقد روينا عنِ الصَّادقِ المصدوقِ أفصحِ مَنْ نَطَقَ بالضَّاد أنَّه قال: «مَنْ كَذَبَ عليَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ». /
          وروينا عن شُعبةَ قال: (مَنْ طَلَبَ الحديثَ ولم يُبصِرِ العربيَّةَ فَمَثَلُهُ مَثَلُ رَجُلٍ عليه بُرْنُسٌ ليسَ له رأسٌ)، أو كما قال.
          وعن حمَّادِ بنِ سلمةَ قال: (مَثَلُ الذي يطلُبُ الحديثَ ولا يعرِفُ النَّحْوَ مَثَلُ الحمارِ عليه مِخْلَاةٌ لا شعيرَ فيها).
          وروينا عن الأصمعيِّ _واسمُه عبدُ الملِكِ بنُ قُرَيبٍ، بالموحَّدةِ في آخِرِه_ / أنَّه قال: (إنَّ أخوفَ مَا أخافُ على طالبِ العِلْمِ إذا لم يعرِفِ النَّحْوَ أَنْ يدخُلَ في جملةِ قولِهِ ╕: «مَنْ كَذَبَ عليَّ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَه من النَّارِ»، لأنَّه صلعم لم يكن يلحَنُ، فمهما رَوَيتَ عنه ولَحَنْتَ فيه كَذَبتَ عليه)، فينبغي للمحدِّثِ ألَّا يروِيَ حديثَه بقراءةِ لَحَّانٍ أو مُصَحِّفٍ.
          وقد روينا عن النَّضْرِ بنِ شُمَيلٍ _بالمعجمة في اسمه، وبالمعجمة المضمومة في اسم أبيه_ قال: (جاءتْ هذه الأحاديثُ عن الأصل مُعْرَبَةً).
          فحقٌّ على طالبِ الحديثِ أن يتعلَّمَ مِنَ النَّحْوِ واللُّغَةِ ما يتخلَّصُ به من شَينِ اللَّحْنِ والتحريفِ ومَعَرَّتِهِما، وأمَّا التصحيفُ فسبيلُ السلامةِ منه الأخذُ من أفواهِ أهلِ العِلْم والضبطِ، فإنَّ مَنْ حُرِمَ ذلك وكانَ أَخْذُهُ وتعلُّمُهُ من بطون الكتب كان مِنْ شأنِهِ التحريف، ولم يُفْلِتْ مِنَ التبديلِ والتصحيف. /
          وروينا بالسَّند إلى عاصمٍ قال: (أوَّلُ مَنْ وَضَعَ العربيَّةَ(2) أبو الأسود الدِّيْليُّ(3)، / فجاء إلى زيادٍ بالبصرةِ، فقال: إنِّي أرى العربَ قد خالطتِ الأعاجمَ فتغيَّرتْ ألسنَتُهم، أفتأذَنُ لي أَنْ أضعَ للعربِ كلامًا يُعرِبونَ ويُقيمونَ به كلامَهم؟ فقال: لا، فجاءَ رجلٌ إلى زيادٍ، فقال: أصلحَ اللهُ الأميرَ، توفِّيَ أبانا فتَرَكَ بَنُونَ، فقال: ادْعُ لي أبا الأسودِ، فقال: ضَعْ للنَّاسِ الذي نَهيتُكَ أن تضعَ لهم).
          وروينا عن أبي عُبَيْدَةَ قال: أوَّلُ مَنْ وضعَ النَّحْوَ أبو الأسودِ الدِّيْليُّ، ثمَّ / ميمونٌ، ثم عنبسةُ الفيلُ، ثم عبدُ اللهِ بنُ أبي إسحاقَ، قال: ووضعَ عيسى ابن عمر في النَّحْوِ كتابين، سَمَّى أحدَهُما: «الجامعَ»، والآخَرَ: «المُكْمِلَ»، / فقال الشاعرُ: [من الرمل]
بَطَلَ النَّحْوُ جميعًا [كلُّهُ]                     غيرَ ما أحدثَ عيسى بنُ عُمَرْ
ذاكَ «إكمالٌ» وهذا «جامعٌ»                     وهُما للنَّاسِ شمْسٌ وقَمَرْ
          وروينا بالسند إلى أبي الحسنِ المُرْهبيِّ قال: أنشدني عنبسةُ بنُ النَّضْرِ لعليِّ بنِ حمزةَ: [من الرَّمَل] /
إِنَّما النَّحْوُ قِياسٌ يُتَّبَعْ                     وبِهِ في كلِّ أمْرٍ يُنْتَفَعْ
          ومنها:
كَمْ وَضِيعٍ رَفَعَ النَّحْوُ وكَمْ                     مِنْ شريفٍ قَدْ رأيناهُ وَضَعْ
          وسَبَبُ تَعَلُّمِ سيبويهِ النَّحْوَ: (أنَّه جاء إلى حمَّادِ بنِ سلمةَ لكتابةِ الحديثِ، فاستملى قولَهُ ╕: «ليسَ مِنْ أصحابي أحدٌ إلَّا ولو شئتُ لأخذتُ عليه ليسَ أبا الدرداء»، فقال سيبويهِ: أبو، فصاحَ بهِ حمَّادٌ: لَحَنْتَ يا سيبويه، إنَّما هذا استثناءٌ، فقال: واللهِ لَأَطلُبَنَّ عِلْمًا لا تُلَحِّنُنِي معه، ثمَّ مضى، ولَزِمَ الأخفشَ وغيرَه) انتهى. /
          وكنتُ قد قرأتُ «الجامعَ الصحيحَ» للإمامِ شيخِ الإسلامِ البخاريِّ _قدَّسَ اللهُ سِرَّهُ_ غير ما مرة(4)، وتطلَّبتُ إعرابًا عليه، فرأيتُ أصمعيَّ زمانِهِ جمالَ الدين ⌂ قد كتب على أماكن منه، ورأيتُ مَنِ انتقد عليه في أماكن، فضممتُ هذا إلى هذا، وزدتُ عليه أشياءَ من كلامِ الأئمَّةِ، كأبي البقاء، وابن الأبرش، والقاضي عياض(5)، والحَمْزِيِّ، والنَّوَوِيِّ، والطِّيبِيِّ، والتُّورِبِشْتِيِّ، والكِرْمانِيِّ، والبِرْماوِيِّ، وشيخنا الحافظ، وسيِّدي الوالد ⌡، التقطتُها من أثناء كلامِهم لأنَّهم لم يُفرِدوا هذا الفنَّ بالتأليف، فصار مجموعًا حسنًا، وسَمَّيتُهُ بـــ:
          «النَّاظِر الصَّحِيح عَلَى الجَامِعِ الصَّحِيح»
          وقد زدتُ عليه أشياءَ، فمَنْ أرادَ الزيادةَ فلينظر مؤلَّفي المُسَمَّى بـــ«مصابيح الجامع»(6)، فإنَّه جامعٌ نافعٌ.
          واللهَ تعالى أسألُ أن ينفعَ به، إنَّه سميعٌ مُجيبٌ. / /


[1] فيجوزُ في الاسمِ الواقعِ بعدَ اسمِ (إنَّ) وخبرِها النصبُ عطفًا على اسم (إنَّ)، وهو ظاهرٌ، ويجوزُ الرفعُ، واختلف فيه؛ فالمشهور: أنَّه معطوف على محل اسم (إنَّ) فإنَّه في الأصل مرفوعٌ لكونه مبتدأً، وذهب قومٌ إلى أنَّه مبتدأٌ وخبرُه محذوفٌ، وهو الصحيحُ، وهو الوجهُ الثاني الذي ذكره العيني حيث قال: (ويجوزُ أن يكونَ المبتدأُ محذوفَ الخبر، وتكونَ الجملةُ معطوفةً على الجملة الأولى، والتقدير: وذو الحاجة كذلك)، واعتمده الدماميني في «مصابيح الجامع» (1/224)، والقسطلاني في «إرشاد الساري» (1/189) حيث قالا: («ذو» مبتدأٌ حُذِفَ خبرُه، والجملةُ عطفٌ على الجملة المتقدِّمةِ)، هذا وأضاف الحافظ وجهًا آخر فقال: (أو هو استئنافٌ)، وتعقَّبه العيني فقال: (وقال بعضُهم: أو هو استئنافٌ، قلتُ: لا يصحُّ أنْ يكون استئنافًا؛ لأنَّه في الحقيقة جوابُ سؤالٍ، وليس هذا محلَّه)، ولعل مراد الحافظ بقوله: (استئناف) الوجه الصحيح الذي اعتمده الدماميني والقسطلاني، وانظر «شرح ابن عقيل» (1/375_376).
[2] في (ب): (النحو).
[3] كذا في النسختين.
[4] وقد فصَّل في «شرحها» (4/1980_1981) فقال: (وفي الوقفِ على المنوَّنِ ثلاثُ لغاتٍ:
إحداها: لغةُ ربيعةَ؛ وهي أنْ يُوقَفَ عليه بحذفِ التنوينِ، وتسكين الآخرِ مطلقًا؛ كقولِك: «هذا زيدْ»، و«مررتُ بزيدْ»، و«رأيتُ زيدْ»، ومِن شواهدِ هذه اللغةِ قولُ الشاعر: [من الطويل]
~أَلَا حَبَّذَا غُنْمٌ وَحُسْنُ حَدِيثِهَا                     لَقَدْ تَرَكَتْ قَلْبِي بِهَا هَائِمًا دَنِفْ
والثانية: لغةُ الأزْدِ؛ وهو أنْ يُوقَفَ عليه بإبدالِ التنوينِ ألفًا بعدَ الفتحةِ، وواوًا بعدَ الضمَّةِ، وياءً بعدَ الكسرةِ؛ كقولِك: «رأيتُ زيدا»، و«هذا زيدو»، و«مررتُ بزيدي».
والثالثة: لغةُ سائرِ العربِ؛ وهي أنْ يُوقَفَ على المنصوبِ والمفتوحِ بإبدالِ التنوينِ ألفًا، وعلى غيرِهما بالسكونِ وحذفِ التنوينِ بلا بدلٍ، والمرادُ بالمنصوبِ ما فتحتُه فتحةُ إعرابٍ، نحو: «رأيت زيدًا»، والمرادُ بالمفتوحِ ما فتحتُه لغيرِ إعرابٍ، نحو: «إيهًا»، و«واهًا»).
وانظر «شرح قطر الندى» (ص593) (157)، «الكواكب الدراري» (8/22)، «عمدة القاري» (9/60) و(22/87).
[5] قوله: (عياض) ليس في (ب)، وغير واضح في (أ).
[6] قوله: (وقد زدت أشياء...) إلى هنا غير ظاهر في (أ).