الناظر الصحيح على الجامع الصحيح

كتاب البيوع

          ░░34▒▒ (كِتَابُ الْبُيُوعِ (1))
          ({إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ})[البقرة:282]: في هذا الاستثناءِ قولانِ:
          أحدُهما: أنَّه متَّصلٌ، قال أبو البقاءِ: (والجملةُ المستثناةُ في موضعِ نصبٍ؛ لأنَّه استثناءٌ مِنَ الجنسِ؛ لأنَّه أمرَ بالاستشهادِ في كلِّ معاملةٍ، واستثنى منها التِّجارةَ الحاضرةَ، والتَّقديرُ: إلَّا في حالِ حضورِ التِّجارةِ).
          الثَّاني: أنَّه منقطعٌ، قال مكيٌّ: (و{أَن} في موضعِ نَصْبٍ على الاستثناءِ المنقطعِ).
          قلتُ: وهذا هو الظَّاهرُ، كأنَّه قيل: لكن التَّجارة، فإنَّه يجوزُ عدمُ الاستشهادِ والكَتْبِ فيها.
          وقرأَ عاصمٌ هنا: {تِجَارَةً} بالنَّصبِ، وكذلكَ {حَاضِرَةً} لأنَّها صفتُها، وفي / (النِّساءِ) وافقَه الأخوانِ، والباقونَ قرؤوا بالرَّفعِ فيهما.
          فالرَّفعُ فيه وجهانِ:
          أحدُهما: أنَّها التَّامَّةُ، أي: إلَّا أنْ تَحدُثَ أو تقعَ تجارةٌ، وعلى هذا: فيكونُ {تُدِيرُونَهَا} في محلِّ رفعٍ صفةً لـ{تِجَارَةٌ} أيضًا، وجاءَ هذا على الفصيحِ، حيثُ قدَّمَ الوصفَ الصَّريحَ على المؤوَّلِ.
          الثَّاني: أنْ تكونَ النَّاقصةَ، واسمُها {تِجَارَةٌ}، والخبرُ هو الجملةُ مِنْ قولِه(2): {تُدِيرُونَهَا}، كأنَّه قيلَ: إلَّا أنْ تكونَ تجارةٌ حاضرةٌ مُدَارةً.
          وسوَّغَ مجيءَ اسمِ (كانَ) نكرةً وصفُه(3)، وهذا مذهبُ الفرَّاءِ، وتابعَه آخَرونَ.
          وأمَّا قراءةُ عاصمٍ فاسمُها مُضْمَرٌ فيها، فقيلَ: تقديرُه: إلَّا أنْ تكونَ المعامَلةُ، أو المبايَعةُ، أو التِّجارةُ، وقدَّرَهُ(4) الزَّجَّاجُ: إلَّا أنْ تكونَ المُدايَنةُ، وهذا حَسَنٌ.
          وقال الفارسيُّ: (ولا يجوزُ أنْ يكونَ «التَّداينُ» اسمَ «كانَ» لأنَّ التدايُنَ معنًى، والتِّجارةَ الحاضرةَ مرادٌ بها العَينُ، وحكمُ الاسمِ أنْ يكونَ الخبرَ في المعنى، والتَّدايُنُ حقٌّ في ذمَّةِ المستدينِ، للمَدِينِ المطالبةُ به، وإذا كانَ كذلك لم يَجُزْ أنْ يكونَ / اسمَ «كانَ» لاختلافِ التَّداينِ والتِّجارةِ الحاضرةِ)، وهذا الَّذي قالَه الفارسيُّ لا يَظهَرُ ردًّا على أبي إسحاقَ؛ لأنَّ التِّجارةَ أيضًا مَصدرٌ، فهي معنًى مِنَ المعاني، لا عينٌ مِنَ الأعيان(5)، وبين الفارسيِّ والزَّجَّاجِ محاورةٌ لأمرٍ ما.
          وقال الفارسيُّ أيضًا: (ولا يجوزُ أيضًا أنْ يكونَ اسمُها {الْحَقُّ} الَّذي في قولِه: {فَإن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} [البقرة:282] للمعنى الذي ذكرنا في التَّدايُنِ؛ لأنَّ ذلكَ {الْحَقُّ} دَينٌ، وإذا لم يَجُزْ هذا؛ لم يَخْلُ اسمُ «كانَ» مِنْ أحدِ شيئينِ:
          أحدُهما: أنَّ هذِه الأشياءَ الَّتي[55ب] اقتُصَّتْ(6) مِنَ الإشهادِ والارتهانِ قد عُلِمَ مِنْ فَحْواها التَّبايعُ، فأُضمِرَ (التَّبايعُ) لدلالةِ الحالِ عليه كما أُضمِرَ لدلالةِ الحالِ عليه فيما حَكى سيبويه: «إذا كان غدًا فائْتِني»، ويُنشَد على هذا: [من الطويل]
أَعَيْنَيَّ هَلَّا تَبْكِيَانِ عِفَاقَا                     إِذَا كَانَ طَعْنًا بَيْنَهُمْ وَعِنَاقَا
          أي: إذا كانَ الأمرُ....
          والثاني: أنْ يكونَ أضمر (التِّجارةَ) كأنَّه قيل: إلَّا أنْ تكونَ التجارةُ تجارةً، ومثلُه ما أنشدَ الفرَّاءُ: [من الطويل] /
فِدًى لِبَنِي ذُهْلِ بْنِ شَيْبَانَ نَاقَتِي(7)                     إِذَا كَانَ يَوْمًا ذَا كَوَاكِبَ أَشْهَبَا)
          وأنشدَ الزمخشريُّ: [من الطويل]
بَنِي أَسَدٍ هَلْ تَعْلَمُونَ بَلَاءَنَا                     إِذَا كَانَ يَوْمًا ذَا كَوَاكِبَ أَشْنَعَا
          أي: إذا كانَ اليومُ يومًا.
          و({بَّيْنَكُمْ}): ظرفٌ لـ{تُدِيرُونَهَا}.


[1] أي: ما ما نلتم، فحذف (ما) النافية، وأبقى (ما) الموصولة. انظر «مغني اللبيب» (ص836).
[2] في النسختين: (قولهم)، والمثبت موافق لمصدره.
[3] في (ب): (وصفة).
[4] في (ب): (وقيده).
[5] في (ب): (المعاني).
[6] في (ب): (اقتضت)، وهو موافق لما في «الدر المصون»، والمثبت من (أ) موافق لـــ«الحجة»، وهو الصواب، والله أعلم.
[7] في النسختين: (يا فتى).