الناظر الصحيح على الجامع الصحيح

حديث: من يقم ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا

          35- (مَنْ يَقُمْ...) إلى أنْ قال: (غُفِرَ): وقع فيه فعلُ الشَّرطِ مضارعًا والجوابُ ماضيًا، والنُّحاةُ يستضعفونَهُ، ومنهم مَنْ مَنَعَه إلَّا في ضرورةِ الشِّعر، وأجازُوا / عكسَه؛ كقوله تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ} [هود:15]، ومَنْ أجاز الأوَّل احتجَّ بهذا الحديث، ومنهُ قولُ عائشة ♦ في الصِّدِّيق: (مَتَى يَقمْ مَقَامَكَ رَقَّ)، وَلَا ضَعْفَ، وكيفَ وهو في كلامِ أفصحِ الخَلْقِ وغيرِه؟!
          وقال شيخُنا في «الفتح»: (استدلَّ النُّحاة بهذا في استعمال الشَّرطِ مضارعًا / والجوابِ(1) ماضيًا، وعندي في الاستدلالِ به نظرٌ؛ لأنِّي أظنُّه مِنْ تصرُّفِ الرُّواة، فقد رواه النَّسائيُّ عن محمَّدِ بن عليِّ بن ميمون، عن أبي اليمانِ شيخِ البخاريِّ، فلم يُغايرْ بين الشَّرطِ والجزاءِ، وكذلك رواه أبو نُعيم في «المستخرج» عن سليمانَ _وهو الطَّبرانيُّ_ عن أحمدَ بن عبد الوهَّاب، عن أبي اليمان، ولفظُه: «لَا يَقُومُ أَحَدُكُمْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فَيُوَافِقُهَا»، [وقوله: «فيوافقُها»] زيادةُ بيانٍ، وإلَّا فالجزاءُ مُرَتَّبٌ على قِيامِ ليلةِ القدرِ، ولا يَصدُقُ قِيامُ ليلةِ القدرِ إلَّا على مَنْ وافقَها).
          وقال الزَّركشيُّ: (فيه مجيءُ فعلِ الشَّرطِ مضارعًا والجوابِ ماضيًا، وهو قليلٌ، وقدِ استُنبِطَ أيضًا مِن قولِ اللهِ تعالى: {إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِم مِّن السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ} [الشعراء:4]؛ لأنَّ تابعَ الجوابِ جوابٌ).
          (إِيْمَانًا وَاحْتِسَابًا): مفعولٌ له أو تمييزٌ، وقال الزَّركشيُّ: (مصدرٌ في موضعِ / الحالِ، أي: مؤمنًا محتسبًا، أو مفعولٌ مِن أجلِه، قال أبو البقاءِ: نظيرُه في جوازِ الوجهين قوله تعالى: {اعْمَلُواْ آَلَ دَاوُودَ شُكْرًا} [سبأ:13]) انتهى.
          وقال الكِرمانيُّ: (فإنْ قلتَ: هل يصحُّ أن يكون حالًا؛ بأن يكون المصدر في معنى اسم الفاعل، أي: مؤمنًا محتسبًا؟ قلتُ: حينئذٍ لا يدلُّ على ترجمة الباب؛ إذِ المفهومُ ليس إلَّا أنَّ القيامَ في حال الإيمان، اللَّهُمَّ إلَّا أنْ يُقالَ: كونُه في حالِ الإيمانِ وفي زمانِه مُشْعِرٌ بأنَّه مِن جملتِه، وكَلَفُ الكُلْفَةِ في توجيهِهِ ظاهرٌ.
          فإِنْ قلتَ: فالتَّمييزُ والمفعولُ له لا يَدُلَّانِ أيضًا على أنَّه مِنَ الإيمانِ، قلتُ: «مِنْ» للابتداء، فمعناهُ: أنَّ القيامَ منشؤُهُ الإيمانُ، فيكونُ للإيمانِ أو مِن جهةِ الإيمانِ.
          فإِنْ قلتَ: شرطُ التَّمْيِيزِ أن يقعَ موقعَ الفاعل، نحو: «طابَ زيدٌ نفسًا»، قلتُ: اطِّرادُ هذا الشَّرطِ ممنوعٌ، ولَئِنْ سلَّمنا فهو أعمُّ مِنْ أنْ يكونَ فاعلًا بالفعلِ أو بالقوَّةِ؛ كما يُؤَوَّلُ: «طارَ عمرٌو فَرَحًا»؛ بأنَّ المرادَ طَيَّرَهُ الفرحُ، فهو في معنى إقامةِ الإيمانِ).
          (مِنْ ذَنْبِهِ): (مِنْ): إمَّا متعلِّقةٌ بقولِه: (غُفِرَ) أي: غُفِرَ مِنْ ذنبِه ما تقدَّم، فهو منصوبُ المحلِّ، أو هيَ مبيِّنةٌ لـــ(مَا تَقَدَّمَ)، فهي مرفوعُ المحلِّ؛ لأنَّ (مَا تَقَدَّمَ) هو مفعولُ ما لم يسمَّ فاعلُه.
          وقال البِرْماويُّ: (قلتُ: الظَّاهرُ تعلُّقُه بـــ«تَقَدَّمَ»، ونائبُ الفاعلِ «مَا»؛ لأنَّهُ / اللَّائِقُ بالمعنى والصِّناعة).


[1] في (ب): (والجزاء).