الناظر الصحيح على الجامع الصحيح

حديث: أريت النار فإذا أكثر أهلها النساء يكفرن

          29- (أُرِيتُ النَّارَ)(1): قال الكِرمانيُّ: («أُرِيتُ» بضمِّ الهمزةِ وبضمِّ التَّاء، وهو بمعنى: التَّبصير، والضَّميرُ هو القائمُ مَقامَ المفعولِ الأوَّلِ، و«النَّار التي أكثر أهلها النِّساء» هو المفعولُ الثَّاني، والموصولُ بصلته صفةٌ لازمةٌ لـــ«النَّار»، لا صفةٌ مخصِّصةٌ؛ إذْ ليس المرادُ تخصيصَ نارٍ بهنَّ، و«يَكْفُرْنَ»: استئنافُ كلام؛ كأنَّه جوابُ سؤالِ سائلٍ سألَ: يا رسولَ الله، لِمَ؟ وفي بعضِ الرِّواياتِ: «أُريتُ النَّارَ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ» بزيادة: «فَرَأَيْتُ»، وفي بعضها: «أُرِيْتُ النَّارَ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ» بدون «فَرَأَيْتُ»، وهو بفتح «أَكْثَرَ» و«النِّسَاءَ»، فـــ«أَكْثَرَ» بَدَلٌ مِنَ «النَّارَ»، و«النِّسَاءَ» هو المفعول الثَّالث(2)، و«أُرِيْتُ» بمعنى: أُعلمتُ، وبضمِّها(3)، فيكون «أَكْثَرُ» مبتدأً، و«النِّسَاءُ» خبره، والجملةُ الاسميَّةُ حالٌ بدون الواو، نحو قوله تعالى: {اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [البقرة:36]، وفي بعضها: «بِكُفْرِهِنَّ» والباءُ للسببيَّة، وهي متعلِّقةٌ بـــ«أكثر» أو بفعل الرُّؤية المقيَّدة).
          (يَكْفُرْنَ الْعَشِيْرَ): إنَّما لم يُعَدَّ كُفرُ العشير بالباء؛ كما عُدِّيَ الكُفرُ بالله؛ لأنَّه ليس متضمِّنًا لمعنى الاعتراف، بخلافه.
          (وَيَكْفُرْنَ الْإِحْسَانَ): كأنَّه بيانٌ لقوله: (يَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ) إذِ المقصودُ كُفرانُ إحسانِ العشيرِ، لا كفرانُ ذاتِه.
          واللَّامُ في (الْعَشِيْرِ) للعهد، أو للجنس، أو للاستغراق، فإِنْ قلتَ: أيُّها(4) / الأصلُ في اللَّامِ؟ قلتُ: الجنسُ، وهو الحقيقةُ، فيُحمَل عليها، إلَّا إذا دلَّت قرينةٌ على التَّخصيصِ أو التَّعميمِ فنتبعُ القرينةَ حينئذٍ، وهذا حكمٌ عامٌّ لهذه اللَّامِ في جميعِ المواضع.
          (لَوْ أَحْسَنْتَ): إِنْ قيلَ: (لو) لامتناعِ الشَّيءِ لامتناعِ غيرِه، فكيفَ صحَّ هُنا هذا المعنى؟ قلتُ: هو هنا بمعنى (إِنْ)، أي: لمجرَّدِ الشَّرطيَّة، ومثلُه كثيرٌ، ويَحتمل أَنْ يكونَ مِن قَبِيلِ: (نِعْمَ الْعَبْدُ صُهَيْبٌ، لَوْ لَمْ يَخَفِ اللهَ لَمْ يَعْصِهِ) بأَنْ يكونَ الحُكمُ ثابتًا على النَّقيضين، والطَّرفُ المسكوتُ عنه أولى مِنَ المذكور.
          (الدَّهْرَ): منصوبٌ على الظَّرفيَّة، وهو بمعنى: الأَبَد، والمرادُ منه: دَهرُ الرَّجُلِ، أي: مدَّة عُمُرِه، ويَحتمل أيضًا: مُدَّة بقاءِ الدَّهر مطلقًا على سبيل الفرض مبالغةً في كُفرانِهنَّ وسوءِ مِزاجِهِنَّ.
          وليس المرادُ بهذا الخطابِ مخاطَبًا خاصًّا، بل كلَّ مَنْ يتأتَّى منه أنْ يكونَ مخاطَبًا به، وهذا على سبيلِ التَّجَوُّزِ؛ إذْ أصلُ وضْعِ الضَّميرِ أنْ يكونَ مستعمَلًا لمعيَّنٍ مشخَّصٍ.
          فإنْ قلتَ: لو لم يكن عامًّا لمَا جازَ استعمالُه في كلِّ مخاطَبٍ _كزيدٍ مثلًا_ حقيقةً؛ قلتُ: عامٌّ باعتبارِ أمرٍ عامٍّ لمعنًى خاصٍّ، بخلاف العِلم فإنَّه خاصٌّ بالاعتبارين، وههنا قاعدةٌ كليَّةٌ كثيرةُ النَّفْع وهي: أنَّ اللَّفظَ قد يُوضع وضعًا / عامًّا لأمورٍ مخصوصةٍ؛ كاسمِ الإشارة؛ فإنَّه يُوضعُ باعتبارِ المعنى العامِّ الَّذي هو الإشارةُ الحسيَّةُ للخصوصياتِ الَّتي تحتَه، أي: لكلِّ واحدٍ ممَّا يُشارُ إليه، ولا يُرادُ به عند الاستعمالِ العمومُ على سبيلِ الحقيقةِ، وقد يُوضع وضعًا عامًّا لموضوعٍ له عامٍّ، نحو: (الرَّجُل)، فلا يُرادُ به خاصٌّ حقيقةً، وهو عكسُ الأوَّلِ، وقد يُوضَع وضعًا خاصًّا لموضوعٍ له خاصٍّ، نحو: (العلم)، ومُلَخَّصه: أنَّ للواضع ثلاثةَ أقسامٍ من الموضوعات:
          _ وضعٌ باعتبارٍ عامٍّ لموضوعٍ له عامٍّ، نحو: (الرَّجل).
          _ وضعٌ باعتبارٍ عامٍّ لموضوعٍ [له] خاصٍّ، نحو: اسم الإشارة.
          _ وضعٌ(5) باعتبارٍ خاصٍّ لموضوعٍ [له] خاصٍّ، نحو: (زيد).
          والمضمراتُ مِنَ القسم الأوسط، فإذا أُريدَ عند الاستعمالِ بالضَّميرِ الَّذي في (أَحْسَنْتَ) مخاطبةُ معيَّنٍ كانَ حقيقةً؛ لأنَّه على وَفْقِ وضعِه، وإذا أُريد به كلُّ مَن يصِحُّ منه كونُه محسنًا كان مجازًا، ومثلُه قولُه تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُواْ رُؤُوسِهِمْ} [السجدة:12].
          و(شَيْئًا): التَّنوينُ للتحقيرِ، أو التَّقليل، أوْ لَهما، أي: شيئًا حقيرًا أو قليلًا لا يُوافِقُ مزاجَها. /


[1] تأخَّر شرح هذا الحديث في النسختين إلى ما بعد الحديث (31).
[2] في (ب): (الثاني)، وهو خطأ.
[3] كذا في النسختين ومصدره، ولعل الصواب: (وبضمهما)، والمراد: (أكثر) و(النساء).
[4] في (أ) ومصدره: (أيهما).
[5] زيد في (ب) وهامش (أ): (كلام).