الناظر الصحيح على الجامع الصحيح

{لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ}

          ░8▒ إشارةٌ: {لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا} [الأحزاب:63]: قال البخاريُّ: (إِذَا وَصَفْتَ صِفَةَ المُؤَنَّثِ قُلْتَ: قَرِيبَةً، وَإِذَا جَعَلْتَهُ ظَرْفًا وَبَدَلًا _وَلَمْ تُرِدِ الصِّفَةَ_ نَزَعْتَ الهَاءَ مِنَ المُؤَنَّثِ، وَكَذَلِكَ لَفْظُهَا فِي الوَاحِدِ وَالاِثْنَيْنِ وَالجَمِيعِ، لِلذَّكَرِ وَالأُنْثَى) انتهى.
          هكذا وقعَ هذا الكلامُ هنا لأبي ذَرٍّ والنَّسفيِّ، وسَقَط لغيرِهِما، وهو أوجَهُ؛ لأنَّه وإنِ اتَّجَهَ ذِكْرُه في هذه السورةِ، لكنْ ليس هذا محلَّه.
          قولُه: (وَإِذَا(1) جَعَلْتَهُ ظَرْفًا)، أي: اسمًا زمانيًّا، (وَبَدَلًا)، أي: عنِ الصفةِ، يعني: / جعلتَهُ اسمًا مكانَ الصفةِ، ولم يقصدِ الوضعينِ يستوي فيه المذكَّرُ والمؤنَّثُ، والمثنَّى والجمعُ، وجمعُ الذُّكورِ والإناثِ، وقال بعضُهُم: (الفعيلُ)(2) يستوي فيه المذكَّرُ والمؤنَّث.
          وقال في «الكشَّاف»: (أي: شيئًا قريبًا، أو في زمانٍ قريبٍ، أو لأنَّ {السَّاعَةَ} في معنى: اليومِ).
          فائدة: قال بعضُهُم: ربَّما كانَ المضافُ مؤنَّثًا واكتسبَ التذكيرَ مِنَ المضافِ إليه؛ كقولِه تعالى: {إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ} [الأعراف:56]: فـ(الرحمةُ): مؤنَّثةٌ، واكتسبتِ التذكيرَ بإضافتِها إلى اللهِ تعالى.
          وقال ابنُ هشامٍ: (قد يكتسبُ المضافُ إليه المذكَّرُ مِنَ المضافِ إليه المؤنَّثِ تأنيثَه، وبالعكسِ، وشرطُ ذلك في الصُّورتين: صلاحيةُ المضافِ للاستغناءِ عنه بالمضافِ إليه، فمِنَ الأوَّلِ قولُهم: «قُطِعَتْ بعضُ أصابِعِهِ»، وقراءةُ بعضِهِم: ▬تَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ↨ [يوسف:10]، وقولُه: [من الرجز]
طُولُ اللَّيَالِي أَسْرَعَتْ فِي نَقْضِي
نَقَضْنَ كُلِّي، وَنَقَضْنَ بَعْضِي /
          ومن الثاني قولُه: [من البسيط]
إِنَارَةُ العَقْلِ مَكْسُوفٌ بِطَوْعِ هَوًى                     وَعَقْلُ عَاصِي الهَوَى يَزْدَادُ تَنْوِيرَا
          ويَحتملُه: {إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ} [الأعراف:56]، ولا يجوزُ: «قامتْ غُلامُ هندٍ»، ولا «قامَ امرأةُ زيدٍ»؛ لعدمِ صلاحيةِ المضافِ فيهما للاستغناءِ عنهما بالمضافِ إليه) انتهى.
          قال الشيخُ عزُّ الدينِ الحاضري: (إنَّما قال: «ويَحتملُه»؛ لأنَّه قيلَ: {قَرِيبٌ} «فعيل» بمعنى: «فاعل»، و«فعيل» بمعنى: «فاعل» يجري على المذكَّرِ والمؤنَّثِ بلفظِ التذكيرِ، قياسًا على «فعيل» بمعنى: «مفعول(3)») انتهى.
          وقال الجوهريُّ في هذِه الآيةِ: (لم يقُل: «قَرِيبَةٌ»؛ لأنَّه سبحانه أرادَ بالرحمةِ الإحسانَ، ولأنَّ ما لا يكونُ تأنيثُهُ حقيقيًّا يجوزُ فيه التذكيرُ، وقال الفرَّاءُ: إذا كان «القريبُ» في معنى المسافةِ يُذَكَّرُ ويُؤنَّثُ، وإذا كان في معنى النسبِ يؤنَّثُ بلا اختلافٍ بينهم، تقولُ: «هذِه المرأةُ قريبتِي»، أي: ذاتُ قرابتي) انتهى.
          وهذا وَهْمٌ؛ لوجوبِ التأنيثِ في نحو: (الشمسُ طالعةٌ)، و(الموعظةُ نافعةٌ)، وإنَّما يتفرَّقُ حكمُ المجازيِّ والحقيقيِّ الظاهرَينِ لا المضمرَينِ.[84أ] /
          وقال في «الدُّرِّ المصون»: (إنَّما لم يؤنِّثْها وإنْ كانتْ خبرًا عن مؤنَّثٍ لوجوهٍ:
          منها: أنَّها في معنى(4) الغفران، فحُمِلَتْ عليه، قاله النضرُ بنُ شُميلٍ، واختارَهُ أبو إسحاقَ.
          ومنها: أنَّها صفةٌ لموصوفٍ مذكَّرٍ حُذِفَ وبقيتْ صفتُهُ، والتقديرُ: إنَّ رحمتَ اللهِ شيءٌ قريبٌ.
          ومنها: أنَّها في معنى العفو، أو المطر، أو الرَّحِم.
          ومنها: أنَّها على النَّسَبِ، أي: ذاتُ قُرْبٍ، كـ«حائضٍ»، أي: ذاتُ حَيْضٍ.
          ومنها: تشبيهُ «فعيل» بمعنى: «فاعل» بـ«فعيل» بمعنى: «مفعول»، فيستوي فيه المذكَّرُ والمؤنَّثُ، كـ«جريح»، كما حُمِلَ هذا عليه حيث قالوا: «أسير وأُسَراء»، و«قَبِيل وقُبَلَاء»، حَمْلًا على «رَحِيم ورُحَماء»، و«عَليم وعُلَماء»، و«حَكيم وحُكَماء».
          ومنها: أنَّها مصدرٌ جاءَ على «فعيل»، كـ«النَّقِيق»: وهو صوتُ الضِّفدِع، و«الضَّغِيب»: وهو صوتُ الأرنبِ، وإذا كان مَصدَرًا لزمَ الإفرادُ والتذكيرُ.
          ومنها: أنَّها بمعنى «مفعول»: «مُقَرَّبَة»، قاله الكِرمانيُّ، وليسَ بجيِّدٍ؛ لأنَّ «فعيلًا» بمعنى: «مفعول» لا يَنْقاس، وعلى تقديرِ اقتياسه فإنَّما يكونُ مِنَ الثُّلاثيِّ المجرَّدِ، لا مِنَ المزيدِ فيه، و«مُقَرَّبَة» مِنَ المزيد فيه.
          ومنها: أنَّه مِنْ بابِ المؤنَّثِ المجازي؛ فلذلك جازَ التذكيرُ، كـ«طَلَعَ الشمسُ»، قال بعضُهُم: وهو غيرُ جيِّدٍ؛ لأنَّ ذلك حيث كان الفعلُ متقدِّمًا، نحو: «طلعَ الشمسُ»، / وأمَّا إذا تأخَّرَ وَجَبَ التأنيثُ، إلَّا في ضرورةِ الشِّعْرِ كقولِه: [من المتقارب]
..................                     وَلَا أَرْضَ أَبْقلَ إِبْقَالَها
          قلت: وهذا يجيءُ على مذهبِ ابنِ كيسانَ، فإنَّه لا يَقْصُرُ ذلك على ضرورةِ الشِّعْر؛ بل يُجيزُه في السَّعةِ، وقال الفرَّاءُ: «قريبةٌ» و«بعيدةٌ»؛ إمَّا أنْ يُرادَ بها النسبُ وعدمُه، فتؤنِّثُها العربُ ليس إلَّا، فيقولون: فلانةٌ قريبةٌ منِّي، أي: في النَّسَبِ، وبعيدةٌ منِّي، أي: في النَّسَبِ، أمَّا إذا أُريدَ القُرْبُ في المكانِ؛ فإنَّه يجوزُ الوجهانِ؛ لأنَّ «قريبًا» و«بعيدًا» قائمٌ مَقامَ(5) المكانِ، فتقولُ: فلانةٌ(6) قريبةٌ وقريبٌ، وبعيدةٌ وبعيدٌ؛ التقديرُ: هي في مكانٍ قريبٍ وبعيدٍ، وأنشد: [من الطويل]
عَشِيَّةَ لَا عَفْرَاءُ مِنْكَ قَرِيبَةٌ                     فَيَدْنُو وَلَا عَفْرَاءُ مِنْكَ بَعِيدُ
          فجَمعَ بين اللُّغتينِ، إلَّا أنَّ الزَّجَّاجَ ردَّ على الفرَّاءِ قولَه، وقال: «هذا خطأٌ؛ لأنَّ سبيلَ المذكَّرِ والمؤنَّثِ أنْ يَجرِيا على أفعالِهِما». /
          قلتُ: وقد كَثُرَ في شعرِ العربِ مَجيءُ هذِه اللفظةِ مذكَّرةً، وهي صفةٌ لمؤنَّثٍ، قال امرؤ القيسِ: [من الطويل]
لَهُ الوَيْلُ إِنْ أَمْسَى وَلَا أُمُّ سَالِمٍ                     قَرِيبٌ وَلَا البَسْبَاسَةُ ابْنَةُ يَشْكُرَا
          وفي القرآنِ: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا} [الأحزاب:63].
          وقال أبو عبيدةَ: «{قَرِيبٌ} في الآيةِ ليس وصفًا لها، إنَّما هو ظرفٌ لها وموضعٌ، فيجيءُ هكذا في المؤنَّثِ، والاثنينِ، والجميعِ، فإنْ أُريدَ بها الصفةُ وجبتِ المطابقةُ، ومثلُها لفظةُ بعيد أيضًا»، إلَّا أنَّ الأخفشَ خطَّأَهُ، قال: لأنَّه لو كانتْ[84ب] ظرْفًا لانتصبَ، كقولك: إنَّ زيدًا قريبًا منك، وهذا ليس بخطأٍ؛ لأنَّه يجوزُ أنْ يُتَّسَعَ في الظرفِ، فيُعطى حكمَ الأسماءِ الصَّريحةِ، فتقولُ: زيدٌ أمامُك، وعمرٌو خلفُك، برفعِ «أمام» و«خَلْف»، وقد نصَّ النُّحاةُ على أنَّ نحوَ: «إنَّ قريبًا منك زيدٌ»: أنَّ «قريبًا» اسمُ «إنَّ»، و«زيدٌ» خبرُها، وذلك على الاتِّساعِ.
          و{مِّنَ الْمُحْسِنِينَ}: متعلِّقٌ بـ{قَرِيبٌ}، واللهُ أعلمُ). /


[1] في (أ): (وأما إذا).
[2] تحرفت في (أ) إلى: (الفصل).
[3] في (أ): (فاعل)، أو يكون القياس على (فَعول) بمعنى: (فاعل).
[4] في (أ): (المعنى).
[5] في (أ): (مكان).
[6] في (أ): (فلان).