الناظر الصحيح على الجامع الصحيح

{هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ}

          ░░░76▒▒▒ (سُورَةُ {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ})[الإنسان:1] /
          قال البخاريُّ: (وَ«هَلْ»: تَكُونُ جَحْدًا، وَتَكُونُ خَبَرًا، وَهَذَا مِنَ الخَبَرِ...) إلى آخره:
          (هل): تارةً تكونُ للجَحْدِ، وأُخرى للخبرِ، أي: الاستفهامُ يكونُ للإنكارِ والتقريرِ، وفي هذِهِ الآيةِ للخبرِ وتقريرِه، يعني: قد أتى على الإنسانِ، ومعنى {لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا}: أنَّه كان شيئًا، لكنَّه لم يكن مذكورًا، يعني: انتفاء هذا المجموعِ بانتفاءِ صفتِهِ، لا بانتفاءِ الموصوفِ.
          فائدةٌ: (هل): حرفٌ موضوعٌ لطلبِ التصديقِ الإيجابيِّ دونَ التصوُّرِ، ودونَ التصديقِ السلبيِّ، وتفترقُ مِنَ الهمزةِ مِنْ عشرةِ أوجهٍ؛ تقدَّم منها مكانٌ في غزوةِ الفتحِ [خ¦4282]، ومنها: أنَّها تأتي بمعنى: (قد)، وذلك مع الفعل، وبذلك فسَّرَ قولَه تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ} جماعةٌ؛ منهمُ: ابنُ عبَّاسٍ، والكِسائيُّ، والفرَّاءُ، والمبرَّدُ، قال في «مُقتَضَبِه»: («هل»: للاستفهامِ، نحو: هل جاء زيد؟ وتكونُ بمنزلةِ «قد»؛ نحو قوله جلَّ اسمُه: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ}) انتهى.
          وبالغَ الزمخشريُّ فزعم أنَّها أبدًا بمعنى: (قد)، وأنَّ الاستفهامَ إنَّما هو مستفادٌ مِنْ همزةٍ مقدَّرةٍ معها، ونقله في «المفصَّلِ» عن سيبويه، فقال: وعند سيبويه (هل) بمعنى: (قد)، إلَّا أنَّهم تركوا الألفَ قبلَها؛ لأنَّها لا تقعُ إلَّا في الاستفهامِ، وقد جاءَ دخولُها عليها في قوله: [من البسيط] /
سَائِلْ فَوَارِسَ يَرْبُوعٍ بِشِدَّتِنَا                     أَهَلْ رَأَوْنَا بِسَفْحِ القَاعِ ذِي الأَكَمِ
          انتهى، ولو كانَ كما ذَكَرَ لم تدخلْ إلَّا على الفعلِ، كـ(قد)، وثبتَ في «كتاب سيبويه» ما نقله عنه.
          تنبيه: قال السفاقسيُّ عن كلامِ البخاريِّ: («هل»: تكونُ جَحْدًا): (فيه تجوُّزٌ، وإنَّما الاستفهامُ في الحقيقةِ استعلامٌ للفائدةِ).
          قلتُ: مِن معاني الاستفهامِ النفيُ، وكذلكَ تدخُلُ (إلَّا) بعدَها على الخبرِ، كما في قولِه تعالى: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} [الرحمن:60].
          (وَتَكُونُ خَبَرًا، وَهَذَا مِنَ الخَبَرِ): قلتُ: الذي عليه أئمَّةُ النُّحاةِ أنَّها بمعنى: (قد)، على معنى التقريرِ، وحملوا عليه كلامَ ابنِ عبَّاسٍ، وأنَّ مرادَهُ: أنَّها ليستْ للاستفهامِ الحقيقيِّ، بل للاستفهامِ التقريريِّ،[87أ] وإنَّما هو تقريرٌ لمَنْ أنكرَ البعثَ، وقد عَلِمَ أنَّهم يقولونَ: نعم، قد مضى دهرٌ طويلٌ لا إنسانَ فيه، فيُقالُ لهم: والذي أَحدثَ الناسَ بعدَ أن لم يكونوا كيف يمتنعُ عليه إحياؤُهُم بعدَ موتِهِم؟! انتهى.
          إشارةٌ: قال البخاريُّ: (وَيُقَالُ: {سَلَاسِلَا وَأَغْلَالًا}[الإنسان:4]: وَلَمْ يُجْرِ بَعْضُهُمْ) انتهى. /
          اعلم أنَّ قراءةَ نافعٍ والكِسائيِّ بالتنوينِ، والباقونَ بغيرِ تنوينٍ، ووقفوا عليه بالألفِ، ومنهم مَنْ يقفُ عليه بدونها، ومَنْ لم يُنوِّنْه فظاهرٌ؛ لأنَّه على صيغةِ منتهى الجموعِ، وهو معنى قولِ البخاريِّ: (لم يُجِزْه بعضُهم)، أي: لذلك، والذين أجازوهُ ذكروا له أوجهًا؛ منها: التناسبُ؛ لأنَّ ما قبلَه منوَّنٌ، ولأنَّ بعضَ العربِ يصرفُ كلَّ ما لا ينصرفُ؛ لأنَّ الأصلَ في الأسماءِ الصرفُ، انتهى كلام الزركشيِّ.
          وقد قرأَ أيضًا بالتنوينِ أبو بكرٍ وهشامٌ.
          والقُرَّاءُ على أربعِ مراتبَ:
          منهم: مَن يُنوِّنُ وَصْلًا، ويقفُ بالألفِ وَقْفًا بلا خلافٍ، وهم نافعٌ، والكِسائيُّ، وهشامٌ، وأبو بكرٍ.
          ومنهم: مَن لا يُنوِّنُ، ولا يأتي بالألفِ وَقْفًا بلا خلافٍ، وهما حمزةُ وقُنبُلٌ.
          ومنهم: مَن لم يُنوِّنْ، ويقفُ بالألفِ بلا خلافٍ، وهو أبو عمرٍو(1) وحدَه.
          ومنهم: مَن لم يُنوِّنْ، ويقفُ بالألفِ تارةً، وبدونِها أُخرى، وهم ابنُ ذَكْوانَ، / وحفصٌ، والبَزِّيُّ، فهذا نهاية الضبط في هذا، والله أعلم، فاعتمد هذا، ولا تعتمدْ كلامَ الزركشيِّ.
          إشارةٌ: أقسامُ التنوينِ نَظَمَها بعضُهُم فقال: [من البسيط]
أَقْسَامُ تَنْوِينِهِمْ عَشْرٌ عَلَيْكَ بِهَا                     فَإِنَّ تَقْسِيمَهَا مِنْ خَيْرِ مَا حُرِزَا
مَكْنٌ وَعَوْضٌ وَقَابِلْ وَالمُنَكَّرَ زِدْ                     رَنِّمْ أَوِ احْكِ اضْطَرِرْ غَالٍ وَمَا هُمِزَا


[1] في (أ): (أبو بكرٍ)، والمثبت من «الدر المصون».