انتقاض الاعتراض

المقدمة

          ♫
          وبه ثقتي(1)
          اللَّهُمَّ إنِّي أحمدك على ما ألهمتَ مِن المحامد، وأشكرك على فضلك البادي والعائدِ(2)، وأستنصرك(3) على كلِّ معاندٍ ومكايدٍ، وأعوذ بك مِن شرِّ كلِّ باغٍ وحاسدٍ، وأصلِّي وأسلِّم على نبيِّك محمَّد وَعلى آله وصحبه الصَّادعين(4) بالحقِّ في جميع المشاهد.
          أمَّا بعد:
          فإنِّي شرعتُ في شرح «صحيح البخاري» في سنة ثلاث عشرة وثمانمائة بعد أن كنتُ خرَّجت ما فيه مِن الأحاديث الْمُعَلَّقة في كتابٍ سمَّيته: «تغليق التَّعليق»(5)، وكَمُل في سنة أربع وثمانمائة في سِفْرٍ ضخم، ووقف عليه أكابر شيوخي وشهدوا بأنِّي لم أُسبَقْ إليه.
          ثمَّ عملت مقدِّمة الشَّرح فَكَمُلَتْ في سنة ثلاث(6) عشرة المذكورة، ومِن هناك ابتدأتُ في الشَّرح فكتبتُ منه قطعة أطَلْتُ فيها التَّبيين، ثمَّ خشيت أنْ يَعُوق عَن تكملتِه على تلك الصِّفة عائق فابتدأتُ في شرحٍ(7) متوسَّطٍ سمَّيته: «فتح الباري بِشرح البخاري» فلمَّا كان بعد خمس سنين أو نحوها وقد بُيِّضَ منه مقدار الرُّبع على طريقةٍ مُثلى، وقد اجتمع عندي مِن طلبة العلم المَهَرَة جماعة وافقوني على تحرير هذا الشَّرح بأنْ أكتب الكُرَّاس ثمَّ يُحصِّله كلٌّ منهم نسخًا، ثمَّ يقرؤه أحدهم ويعارض معه رِفقته مع البحث في ذلك والتَّحرير، فصار السِّفْر لا يَكْمُل منه إلَّا وقد قُوبل وحُرِّرَ مِن ذلك النَّظر تمام الشرح(8) في ذلك الزَّمن اليسير لهذه المصلحة، إلى أنْ يسَّر الله تعالى إكماله في شهر رجبٍ سنة اثنتين(9) وأربعين.
          وفي أثْناء العمل كثُرت الرَّغبات في تحصيله(10) ممَّن اطَّلع على طريقتي فيه، حتَّى خطبه جماعةٌ مِن ملوك الأطْراف بسؤال / علمائهم لهم في ذلك، فاسْتنسختُ لصاحب الغرب الأدنى نسخةً مما كَمُل منه، وذلك بعناية الإمام المُتقن زين الدِّين عبد الرَّحمن البِرِشْكي _بكسر الموحدة والراء المهملة وسكون المُعْجمة_، وكان ملك(11) الغرب يومئذ عبد العزيز الحفصي(12) المعروف بابن فارس، وكان الذي كَمُل مِن الكتاب المذكور حينئذٍ قَدْر ثلثيه.
          واسْتنسختُ لصاحب المشرق نسخةً بعد ذلك بعناية العلَّامة الحافظ شيخ القرَّاء شمس الدِّين الجَزَري، والمَلِك يومئذٍ شاه رُخ، وجهَّزت له مِن قبل الملِك الأشرف، ولم يكن الكتاب كَمُل، ثمَّ في سلطنة الملِك(13) الظَّاهر جهَّز له نسخةً كاملةً.
          وكان سبب رغبتهم فيه اشتهار المقدِّمة، فصار مَن يعرِف فصولها يتشوَّق إلى الأصل.
          وفي سنة اثنتين(14) وعشرين أحضر إليَّ طالب عِلم(15) كرَّاسة بخطِّ مُحتسب القاهرة الَّذي تولَّى بعد ذلك قضاء الحَنفية في الدَّولة الأشرفيَّة، فرأيتُ فيه ما نصُّه:
                     «الحمد لله الذي أوضح وجوه(16) معالم الدِّين، وأفضح وجوه الشكِّ بكشف النِّقاب عن وجه اليقين بالعُلماء المستنبطين الرَّاسخين، والفضلاء المحقِّقين الشَّامخين».
          فاستمرَّ في هذا الْمَهْيَع يذكر(17) مَن تصدَّى لجمع السُّنن النَّبوَّية إلى أنْ ذكرَ البخاريَّ، وذكر فضلَ كتابه «الصحيح» وأنَّه فاق غيره، ولذلك أقبل عليه كبار العلماء وعملوا عليه شروحًا إلى أنْ قال:
                     «لكن لم يقع لي شرح يشفي العَليل ويَروي الغَليل / لأنَّ منهم مَن طوَّل فأملَّ، ومنهم مَن قصَّر فأخلَّ، على أنَّه لم يقصد واحدٌ منهم _على كثرتهم_ لشرحه لما(18) هو المقصود».
          ثمَّ ذكر أنَّ الَّذي دعاه إلى شرح هذا(19) الكتاب أمور:
                     أحدها: أن يعلم أنَّ في الخبايا زوايا.
                     وثانيها: قطع حجَّة مَن يدَّعي الانْفراد في هذا الباب.
                     وثالثها: إظهار ما منحه الله مِن العلوم.
          ثمَّ أخذ في ذمِّ أهل زمانه جميعًا، أمَّا علماؤهم فلِمَا عندهم مِن الحسد، وأمَّا رؤساؤهم فلِمَا عندهم مِن الشُّح والتَّهاون بالعلماء.
          ثمَّ وصف ما عزم عليه مِن شَرح هذا الكتاب بأن يُظهر صِعَابه، ويُبيِّن مُعضلاته، ويوضِّح مشكلاته؛ بحيثُ إنَّ النَّاظر فيه إنْ أراد المنقول ظفر(20) بآماله، وإن أراد المعقول فاز بكماله، إلى أن قال: «فجاء هذا الكتاب بحمد الله فوق ما في الخواطر، فائقًا على سائر الشُّروح بكثرة الفوائد والنَّوادر».
          ثمَّ ذكر سنده إلى البخاري، ثمَّ ذكر مقدِّمةً لطيفةً انتزعها مِن القطعة الَّتي كتبها شيخ الإسلام النَّووي، ولو كان نسخها مِن نسخةٍ صحيحةٍ، ونسبها إليه لاستفاد السَّلامة(21) ممَّا وقع في خطِّه مِن التَّصحيف لكثيرٍ من الأسماء والسِّمات، والتَّحريف لبعض الكلمات، وقد تتبَّعتُ ما وقع له مِن ذلك في تلك الكرَّاسة التي ابْتدأ بها خاصَّة، فزاد على ثمانين غلطة، فأفردتُ ذلك في جزء سمَّيتُه: «الاستنصار على الطَّاعن المعثار».
          فكتبت عليها علماء ذلك العصر كقاضي القضاة جلال الدِّين البُلْقَيني، ورفيقاه قاضي القضاة علاء الدِّين الْمُغْلي، وقاضي القضاة / شمس الدِّين بْن الدَّيري.
          ومِن المشايخ شرف الدِّين بن التَّبَّاني، وشمس الدِّين بن الدَّيري، وشمس الدِّين البِرْمَاوي، كتبوا كلُّهم بتصويب ما تعقَّبتُه عليه، ومِن جملة ما أنكره عليه البُلْقَيني قوله ما ذكره في وصف كتابه قال: وقوله: «أفصح» لَحْنٌ، فإن الرَّباعي إنَّما استُعمل في اللَّازم مثل: أفصح(22) البشر.
          ومِن جملة ما أنكره عليه ابن المغلي قوله: إنَّ علم الحديث استوى فيه النَّاس ممَّن لا يفرِّق بين الأنَّواع والأجناس فإنَّه ما قاربَ فيه صوابًا ولا سعدَ خطابًا.
          وقوله: «ممَّن لا يفرِّق» إنْ أراد(23) أنَّ العالِم والعامِّيَّ استوى فيه؛ فهو قولُ إفكٍ مُوقِعٌ في الهلاك، وإنْ أراد أنَّ أصحاب الحديث لا يفرِّقون بينهما بحسب الاصْطلاح الحادث
فتلك شكَاة ظاهرٌ عنك عارها
          لأنَّ لهم أسوة بخيار السَّلَف.
          وأنكر عليه أيضًا أنَّ ظاهر الخبر أنَّه لشرحه وأوصافه لما اشتمل عليه يقتضي أنَّه أكمله أو أكثره(24) ولم يكن كتب(25) منه سوى شيءٍ يسير.
          ثمَّ لَمَّا مضى مِنْ هذه القصَّة عدَّة سنوات عاد المذكور لِمَا كان شرعَ فيه مِن الشَّرح بزعمِه بعد أنْ كَثُرَت النُّسَخُ بما كَمُل مِن شرح كاتبه، فاستعار مِنْ بعض الطَّلَبة ما حصَّله منه أولًا فأولًا، وقرأتُ بخطِّه أنَّه شَرع في شرحِه في شهر رجب سنة عشرين وثمانمائة فكتبَ منه مُجَلَدَيْنِ في سنة، ثمَّ ترك إلى أن أكمل المجلد الثالث في جمادى الأولى سنة ثمانٍ وثلاثين فلم يَعُد إلى الكتابة / فيه حتَّى شارف «فتح الباري» الفراغ، فصار يستعير مِنْ بعض مَنْ كتَبَ لنفسه مِن الطَّلبة فينقله إلى شَرحه مِن غير أن ينسبه إلى مخترعه.
          وقد رأيتُ أن أسُوق مِن ذلك أمثلةً كثيرةً يتعجَّب منها كلُّ مَن وقف عليها، ثمَّ أعود إلى إيراد ما أردتُ مِن الجواب مِن اعتراضاته على «فتح الباري».
          وقد رمزتُ إلى الفتح بحرف (ح) مأخوذة مِن الفتح، ومِن أحمد، وإلى شرحه بحرف (ع) مأخوذة مِن العَيني ومِن المعترض.
          وسمَّيت هذا التَّعليق:
«انتقاض الاعتراض»
          وبالله الكريم عوني، وأسأله عن الخطأ والخَلل صوني، فمَن أراد ما أغار على «فتح الباري» أوَّل شيء فيه وهي التَّرجمة مِن:


[1] قوله: «وبه ثقتي» ليس في (س).
[2] في (س) : «التالد».
[3] في (س) : «وأنتصرك».
[4] في (س) : «الصارمين»، وبهامش المتن في (س): «الصادعين» ويمكن توجيه الراء.
[5] في (س) و(ظ): «تعليق التعليق».
[6] في الأصل: «ثلاثة»، وفي (د) : «وثلاث».
[7] في (س) : «بشرح».
[8] قوله: ((تمام الشرح)) زيادة من (س).
[9] في (د) و(س) و(ظ): «اثنين».
[10] في (س) : «تحصيل».
[11] في (س) : «الملك».
[12] في الأصل و(د)و(ظ): «الحوصي».
[13] قوله: «الملك» ليس في (س).
[14] في (س) و(ظ): «اثنين».
[15] في (س) : «العلم».
[16] قوله: «وجوه» ليس في (س).
[17] في (س) : «يذكر المهْيَع».
[18] في (س) : «لم يقصد واحد منهم على شرحه كثرتهم لشرحه كما».
[19] قوله: ((هذا)) زيادة من (س).
[20] كذا في (س)، وفي باقي النسخ: «ظهر».
[21] في (س) : «لانتفاء ما فيه السلامة ».
[22] في (س) : «أفضح».
[23] قوله: «إن أراد» ليس في (س).
[24] في (س) : «أكثر».
[25] قوله: ((كتب)) زيادة من (د) و(س)، لكن في (د): «كتبت».