تغليق التعليق

فصل في بيان شرطه

          فصل في بيان شرطه [فيه] ، وما اتَّصل بذلك من قصَّته مع الذُّهليِّ:
          أخبرنا أبو الفرج بن حمَّاد: أخبرنا يونس بن أبي إسحاق عن عليِّ بن الحسين: أخبرنا المبارك بن أحمد في كتابه: قال: قال أبو الفضل محمَّد بن طاهر الحافظ: اعلم أنَّ شرط البخاريِّ ومسلم أن يُخرجا الحديث المتَّفق على ثقة نَقَلَتِهِ إلى الصَّحابيِّ المشهور، من غير اختلاف بين الثِّقات الأثبات، ويكون إسناده متَّصلًا غير مقطوع، وإن كان للصَّحابيِّ راويان فصاعدًا؛ فحسنٌ، وإن لم يكن له إلَّا راو واحد وصحَّ الطَّريق إليه؛ أخرجاه.
          قال: وأمَّا ما أخبرنا أبو بكر بن خلف عن الحاكم أبي عبد الله قال: القسم الأوَّل من «الصَّحيح» اختيار البخاريِّ ومسلم، وهو الدَّرجة الأولى من الصَّحيح، ومثاله الحديث الذي يرويه الصَّحابيُّ المشهور عن رسول الله صلعم وله راويان ثقتان، ثمَّ يرويه عنه التَّابعيُّ المشهور بالرِّواية عن الصَّحابيِّ وله راويان ثقتان، ثمَّ يرويه عنه من أتباع التَّابعين الحافظ المتقن المشهور، وله رواة من الطَّبقة الرَّابعة، ثمَّ يكون شيخ البخاريِّ ومسلم حافظًا متقنًا مشهورًا.
          قال ابن طاهر: وهذا الشَّرط حسن لو كان موجودًا في كتابيهما إلَّا أنَّ قاعدته منتقضة بأنَّ(1) البخاريَّ أخرج حديث المسيِّب بن حزن ولم يرو عنه غير ابنه سعيد، وحديث عمرو بن تغلب، ولم يرو عنه غير الحسن البصريُّ، وغير ذلك، فبان أنَّ القاعدة انتقضت على الحاكم.
          أخبرنا أبو الحسن بن أبي المجد عن محمَّد بن يوسف: أنَّ العلَّامة تقيَّ الدِّين بن الصَّلاح أخبره: قال: أوَّل من صنَّف في الصَّحيح أبو عبد الله محمَّد بن إسماعيل الجُعفيُّ، وتلاه مسلم بن الحجَّاج قال: وكتاباهما أصحُّ الكتب بعد كتاب الله العزيز.
          وأمَّا ما رويناه عن الإمام الشَّافعي من(2) أنَّه قال: ما أعلم في الأرض كتابًا في العلم أكثر صوابًا من كتاب مالك، ومنهم من رواه بغير هذا اللَّفظ، فإنَّما قال ذلك: قبل وجود الكتابين، ثمَّ إنَّ كتاب البخاريِّ أصحُّ الكتابين صحيحًا وأكثرهما فوائد.
          وأمَّا ما رويناه عن أبي عليٍّ الحافظ النَّيسابوريِّ أستاذ الحاكم من أنَّه قال: ما تحت أديم السَّماء [كتابٌ] أصحُّ من كتاب مسلم بن الحجَّاج، فهذا وقول من فضَّل من شيوخ المغرب كتاب مسلم على كتاب البخاريِّ إن كان المراد به(3) أنَّ كتاب مسلم يترجَّح بأنَّه لم يمازجه غير الصَّحيح، فإنه ليس فيه بعد خطبته إلَّا الحديث [الصَّحيح] مسرودًا غير ممزوج بمثل ما في كتاب البخاريِّ في تراجم أبوابه من الأشياء التي لم يسندها على الوصف المشروط في الصَّحيح، فهذا لا بأس به، وليس يلزم منه أنَّ كتاب مسلم أرجح فيما يرجع إلى نفس الصَّحيح على كتاب البخاريِّ، وإن كان المراد به أنَّ كتاب مسلم أصحُّ صحيحًا؛ فهذا مردودٌ على من يقوله.
          وقرأت بخطِّ العلَّامة أبي زكريا النَّوويِّ ☼(4) : واتَّفق الجمهور على أنَّ «صحيح البخاريِّ» أصحُّهما صحيحًا وأكثرهما فوائد، قال: وقال الحافظ أبو عليٍّ النَّيسابوريُّ وبعض علماء المغرب: «صحيح مسلم» أصحُّ، وأنكر العلماءُ عليهم ذلك، والصَّواب ترجيح «صحيح البخاريِّ».
          قلت: / لم يُصرِّح أبو عليٍّ(5) بأنَّ كتاب مسلم أصحُّ من كتاب البخاريِّ، بل المنقول عنده ما قدَّمناه بلفظه، ولعلَّ مراده هو الذي تخيَّله ابن الصَّلاح، ثمَّ ظهر لي مراد أبي عليٍّ، وهو أنَّ مسلمًا لما صنَّف كتابه؛ صنَّفه ببلده من كتبه، فألفاظ المتون التي عنده محرَّرة، والبخاريُّ صنَّفه في بلاد كثيرة في سنين عديدة، وكتب منه كثيرًا من حفظه، فوقع في بعض المتون رواية بالمعنى واختصار وحذف؛ فلذا قال أبو عليٍّ ما قال، مع أنَّ َّقوله معارَضٌ بقول الحاكم أبي أحمد الكرابيسيِّ أستاذ الحاكم أيضًا، فإنه قال فيما أخبرنا عبد الله بن محمَّد بن أحمد بن عبيد الله عن أحمد بن بيان، عمَّن سمع السِّلَفِيَّ: أخبرنا إسماعيل بن عبد الجبَّار: أخبرنا الحافظ أبو يعلى الخليليُّ: سمعت عبد الرَّحمن بن محمَّد بن فضالة يقول: سمعت أبا أحمد الكرابيسيَّ الحافظ ☼ يقول: رحم الله محمَّد بن إسماعيل الإمام، فإنَّه الذي ألَّف الأصول، وبيَّن للنَّاس، وكلُّ من عمل بعده؛ فإنَّما أخذه من كتابه، كمسلم بن الحجَّاج، فرَّق أكثر كتابه في كتابه، وتجلَّد فيه حقَّ الجلادة؛ حيث لم ينسبه إليه، ومنهم من أخذ كتابه، فنقله بعينه إلى نفسه؛ كأبي زُرعة وأبي حاتم، فإن عاند الحقَّ معاند فيما ذكرت؛ فليس يخفى صورة ذلك على ذوي الألباب.
          وقال الإسماعيليُّ في كتاب «المدخل» له: أمَّا بعد: فإنِّي نظرت في «الجامع» الذي ألَّفه أبو عبد الله البخاريُّ، فرأيته كتابًا جامعًا _كما سُمِّي_ لكثير من السُّنن الصَّحيحة، ودالًّا على جمل من المعاني الحسنة المستنبطة التي لا يكمل لمثلها إلَّا من جمع إلى(6) معرفة علم الحديث ونقلته، والعلم بالرِّوايات وعللها، علمًا بالفقه واللُّغة، وتمكُّنًا منها كلِّها(7) ، وتبحرًُّا فيها، وكان _يرحمه الله_ الرَّجل الذي قَصَرَ زمانه وعمره على تتبُّع الأخبار، وطلبها من مظانِّها، وعانى الرَّحَل فيها، والإقامة على أهلها في كلِّ مصر من الأمصار المعروفة، وقصد من كان معروفًا في عصره في عامَّة الأطراف؛ من المحدِّثين المشهورين بالمعرفة، فبرع في ذلك، وبلغ الغاية، واجتهد في حسن الوصف والتَّأليف، فحاز قصب السَّبق في ذلك، وجمع إلى ذلك كلِّه حسن النَّية والقصد للخير، فنفعه الله ونفع به.
          قال الإسماعيليُّ: وقد سمعت من يحكي عنه أنَّه قال: لم أخرِّج في هذا الكتاب إلَّا صحيحًا، وما تركت من الصَّحيح أكثر.
          قال الإسماعيليُّ: فإخراجه ما أخرج صحيح محكومٌ بصحَّته، وليس ترك ما تركَ حكمًا منه بإبطاله، وقد نحا نحوه ممَّن عرفته من المؤلفين جماعة منهم؛ الحسن بن عليٍّ الحلوانيُّ الخلَّال، فجمع ولم يفصِّل، واقتصر على اليسير من الكثير.
          ومنهم أبو داود السِّجستانيُّ وهو في عصر أبي عبد الله، فسلك فيما سلكه سننًا(8) ، ذكر ما روي في الشَّيء، وإن كان في السَّند ضعفٌ إذا لم يرو فيها غيره، وذكر الشَّيء وخلافه في الظَّاهر من غير تنبيه على مخرجها.
          ومنهم مسلم بن الحجَّاج، وهو أيضًا يقارب أبا(9) عبد الله في العصر، فرام مرامه، وكان أيضًا ممَّن يأخذ عنه أو عن كتبه، إلَّا أنَّه لم يضايق نفسه مضايقة أبي عبد الله، وروى عن جماعة كثيرة، لم يعترض(10) محمَّد بن إسماعيل للرِّواية عنهم، وكلٌّ قصد الخير، وما هو الصَّواب عنده، غير أن أحدًا منهم لم يبلغ من التَّشديد مبلغ أبي عبد الله، ولا تسبَّب إلى استنباط المعاني واستخراج لطائف فقه الحديث وتراجم الأبواب الدَّالة على مالَه وُصْلةٌ بالحديث المرويِّ فيه تسبُّبَه، ولله الفضل، يختصُّ به من يشاء.
          قلت: وممَّا يُرجَّحُ به كتاب البخاريِّ اشتراطه اللُّقيَّ في الإسناد المعنعن، وهو مذهب عليِّ ابن المدينيِّ شيخه، وعليه العمل من المحقِّقين من أهل الحديث بخلاف مسلم، فإنَّه ذكر في خطبة كتابه: أنَّه يكتفي بإمكان اللُّقيِّ والمعاصرة، ونُقل فيه الإجماع وهو منتقض عليه، وزعم أنَّ الذي شرط(11) اللُّقيَّ اخترع شيئًا لم يوافقه عليه أحد، وليس كذلك، بل هو المتعين، ومنه يظهر أنَّ شرط البخاريِّ أضيق في شرطه؛ فلذا كان كتاب(12) البخاريِّ أشدَّ تحرِّيًا وأقوى توقِّيًا، وقد قال الإمام الحافظ النَّاقد الذي لم تخرج بغداد مثله أبو الحسن عليُّ بن عمر الدَّارقطنيُّ: لولا البخاريُّ؛ لما راح مسلم ولا جاء، هذا مع اعترافِ مسلم للبخاريِّ بالفضل والتَّقدُّم في الفن، ومسألته إياه عن العلل، ورجوعه إليه فيها، ومعاداته لمحمَّد بن يحيى الذُّهليِّ شيخ بلده [لأجله] ، فقد قرأت / على عبد الله بن محمَّد المقدسيِّ: أنبأكم أحمد بن نعمة شفاهًا عن جعفر بن عليٍّ: أنَّ السِّلَفيَّ أخبره(13) : أخبرنا أبو الفتح الماكيُّ القاضي: أخبرنا الخليل بن عبد الله الحافظ: أخبرني أبو محمَّد المخلديُّ في كتابه: أخبرنا أبو حامد الأعمش الحافظ: قال: كنَّا عند محمَّد بن إسماعيل البخاريَِّ بنيسابور، فجاء مسلم بن الحجَّاج فسأله عن حديث عبيد الله بن عمر، عن أبي الزُّبير، عن جابر قال: بعثنا رسول الله صلعم في سريَّة ومعنا أبو عبيدة...؛ الحديث بطوله، فقال البخاريُّ: حدَّثنا ابن أبي أويس: حدَّثنا أخي عن سليمان بن بلال، عن عبيد الله...؛ وذكر الحديث بتمامه، قال: فقرأ عليه إنسان حديث حجَّاج بن محمَّد عن ابن جُريج، عن موسى بن عقبة، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النَّبيِّ صلعم قال: «كَفَّارَّةُ المَجْلِسِ وَاللَّغْوِ إِذَا قَامَ العَبْدُ أن يَقُولَ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك، أَشْهَدُ أنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْك»، فقال مسلم: في الدُّنيا أحسن من هذا الحديث؟ ابن جُريج عن موسى بن عقبة، عن سهيل بن أبي صالح، تعرف بهذا الإسناد في الدُّنيا حديثًا؟ فقال: محمَّد بن إسماعيل إلَّا أنَّه معلول، قال مسلم: لا إله إلَّا الله وارتعد: أخبرني به قال: استر ما ستر الله، هذا حديث جليل رواه النَّاس عن حجَّاج، عن ابن جُريج، فألحَّ عليه وقبَّل رأسه وكاد أن يبكي، فقال: اكتب إن كان ولا بدَّ: حدَّثنا موسى بن إسماعيل: حدَّثنا وهيب: حدَّثنا موسى بن عقبة عن عون بن عبد الله قال: قال رسول الله صلعم: «كَفَّارَةُ المَجْلِسِ...»، فقال له مسلم: لا يبغضك إلَّا حاسد، وأشهد أن ليس في الدُّنيا مثلك.
          قلت: إسناد هذه الحكاية صحيح.
          وقد رواها الحاكم في «تاريخ نيسابور» عن أبي محمَّد المخلديِّ، وقد رويت على لفظٍ آخر، فقرأت على أبي محمَّد بن قدامة بصالحيِّة دمشق، عن محمَّد بن أحمد بن أبي الهيجاء: أنَّ الحافظ أبا عليٍّ البكريَّ أخبره: أخبرنا القاسم بن عبد الله بن عمر: أخبرنا وجيه بن طاهر: أخبرنا أحمد بن عليِّ بن خلف.
          (ح): وأنبئتُ عن أبي نصر بن الشِّيرازيِّ عن جدِّه: أنَّ الحافظ أبا القاسم بن عساكر أخبره: أخبرنا أبو المعالي الفارسيُّ: أخبرنا أبو بكر البيهقيُّ؛ قالا: أخبرنا الحاكم أبو عبد الله الحافظ: سمعت أبا نصر أحمد بن محمَّد الورَّاق يقول: سمعت أحمد بن حمدون القصَّار يقول: سمعت مسلم بن الحجَّاج وجاء إلى محمَّد بن إسماعيل البخاريِّ، فقبَّل بين عينيه، وقال: دعني حتَّى أقبِّل رِجْلَيْكَ، يا أستاذ الأستاذين وسيِّد المحدِّثين، وطبيب الحديث في(14) علله: حدَّثك محمَّد بن سلام: حدَّثنا مخلد بن يزيد الحرانيُّ: أخبرنا ابن جُريج: حدَّثني موسى بن عقبة عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النَّبيِّ صلعم في كفَّارة المجلس...، إلى هنا اتَّفقا.
          زاد البيهقيُّ في روايته فقال: محمَّد بن إسماعيل وحدَّثنا أحمد ابن حنبل ويحيى بن معين؛ قالا: حدَّثنا حجَّاج بن محمَّد عن ابن جُريج: حدَّثني موسى بن عقبة عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة: أنَّ النَّبيَّ صلعم قال في كفَّارة المجلس: «أَنْ يَقُولَ إِذَا قَامَ مِنْ مَجْلِسِهِ: سُبْحَانَكَ ربَّنا(15) وَبِحَمْدِك»، فقال محمَّد بن إسماعيل: هذا حديثٌ مليحٌ، ولا أعلم بهذا الإسناد في الدُّنيا حديثًا غير هذا إلَّا أنَّه معلول: حدَّثنا به موسى بن إسماعيل: حدَّثنا وهيب: حدَّثنا سهيل عن عون بن عبد الله قوله: قال محمَّد بن إسماعيل: هذا أولى، ولا يُذكر لموسى بن عقبة مسندًا عن سهيل، هذا لفظ رواية البيهقيِّ، وفي رواية الآخر: فقال محمَّد بن إسماعيل: لا أعلم في الباب غير هذا الحديث الواحد، كذا وقع في «علوم الحديث» للحاكم، وهو وهمٌ لا يُتصوَّر وقوعه من مثل البخاريِّ؛ لأنَّ في الباب جملةَ أحاديث من غير هذا الوجه، والله أعلم(16) .
          وقال الحاكم في «التَّاريخ»: لما استوطن البخاريُّ نيسابور؛ أكثر مسلم بن الحجَّاج الاختلاف إليه، فلما وقع بين الذُّهليِّ وبين البخاريِّ ما وقع بسبب مسألة اللَّفظ ومنع النَّاس عنه؛ انقطعوا عنه إلَّا مسلم بن الحجَّاج وأحمد بن سلمة، فقال الذُّهليُّ: إلَّا من قال باللَّفظ، فلا يحلُّ له أن يحضر مجلسنا، فأخذ مسلم رداءه فوق عمامته، وقام على رؤوس النَّاس، وبعث إلى الذُّهليِّ ما كان كتب عنه على ظهر حمَّال.
          قال الحاكم: قدم البخاريُّ سنة خمسين ومئتين، فأقام بها خمس سنين يحدِّث على الدَّوام، فسمعت محمَّد بن حامد البزَّاز يقول: سمعت الحسن بن محمَّد بن جابر يقول: سمعت محمَّد بن يحيى الذُّهليَّ يقول: اذهبوا إلى هذا الرَّجل الصَّالح العالم؛ فاسمعوا منه، قال: فذهب النَّاس إليه، وأقبلوا على السَّماع منه حتَّى ظهر الخلل في مجلس محمَّد بن يحيى، فتكلَّم فيه بعد.
          وقال حاتم بن أحمد بن محمود: سمعت مسلم بن الحجَّاج يقول: لما قدم محمَّد بن إسماعيل نيسابور؛ ما رأيت واليًا ولا عالمًا فعل به أهل نيسابور ما فعلوا بمحمَّد بن إسماعيل، استقبلوه مرحلتين من البلد أو ثلاثة(17) .
          وقال محمَّد بن يحيى الذُّهليُّ في مجلسه: من أراد أن يستقبل محمَّد بن إسماعيل غدًا؛ فليستقبله، فإني أستقبله، فاستقبله محمَّد بن يحيى وعامَّة علماء / نيسابور، فدخل البلد فقال لنا محمَّد بن يحيى: لا تسألوه عن شيء من الكلام؛ فإنه إن أجاب بخلاف ما نحن عليه؛ وقع بيننا وبينه، وشمَّت بنا كل ناصبيٍّ ورافضيٍّ وكلَّ جهميٍّ ومرجئٍ بخراسان قال: فازدحم النَّاس على محمَّد بن إسماعيل حتَّى امتلأت الدَّار والسَّطوح، فلما كان اليوم الثَّاني أو الثَّالث من قدومه؛ قام إليه رجل فسأله عن اللَّفظ بالقرآن، فقال: أفعالنا مخلوقة، وألفاظنا من أفعالنا، قال: فوقع بين النَّاس اختلاف، فقال: بعضهم [قال] : لفظي بالقرآن مخلوق، وقال: بعضهم: لم يقل، فوقع بينهم اختلاف حتَّى قام بعضهم إلى بعض، فاجتمع أهل الدار فأخرجوهم.
          وقال: أبو أحمد بن عديٍّ ذكر لي جماعة من المشايخ أنَّ محمَّد بن إسماعيل لما ورد نيسابور واجتمع النَّاس عليه؛ حسده بعض من كان في ذلك الوقت من المشايخ؛ لما رأى من إقبال النَّاس عليه، فقال لأصحاب الحديث: إنَّ محمَّد بن إسماعيل يقول: اللَّفظ بالقرآن مخلوق، فامتحنوه، فلما حضر النَّاس مجلس البخاريِّ؛ قام إليه رجل فقال: يا أبا عبد الله؛ ما تقول في اللّفظ بالقرآن مخلوق هو أو غير مخلوق؟ فأعرض عنه البخاريُّ ولم يجبه ثلاثًا، فالتفت إليه البخاريُّ في الثَّالثة فقال: القرآن كلام الله غير مخلوق، وأفعال العباد مخلوقة، والامتحان بدعة، فشغَّب الرَّجل وشغَّب النَّاس، وتفرَّقوا عنه.
          وقال الحاكم: حدَّثنا أبو بكر بن الهيثم: حدَّثنا الفربريُّ: قال: سمعت محمَّد بن إسماعيل يقول: أمَّا أفعال العباد مخلوقة؛ فقد حدَّثنا عليُّ بن عبد الله: حدَّثنا مروان بن معاوية: حدَّثنا أبو مالك عن ربعي، عن حذيفة قال: قال رسول الله صلعم: «إنَّ اللهَ يَصْنَعُ كُلَّ صَانِعٍ وَصِنْعَتَهُ»، قال: وسمعت عبيد الله بن سعيد يقول: سمعت يحيى بن سعيد يقول: ما زلت أسمع أصحابنا يقولون: إنَّ أفعال العباد مخلوقة، قال محمَّد بن إسماعيل: حركاتهم وأصواتهم واكتسابهم وكتابتهم مخلوقة، فأمَّا القرآن المبين: المثبت في المصحف الموعى في القلوب؛ فهو كلام الله غير مخلوق، قال الله تعالى: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ} [العنكبوت:49] .
          قال: وقال إسحاق ابن راهويه: أمَّا الأوعية؛ فمن يشكُّ أنَّها مخلوقة؟ وقال أبو حامد بن الشَّرقيِّ: سمعت محمَّد بن يحيى الذُّهليَّ يقول: القرآن كلام الله غير مخلوق، ومن زعم لفظي بالقرآن مخلوق؛ فهو مبتدِع، لا يُجالس ولا يُكلَّم، ومن ذهب بعد هذا إلى محمَّد بن إسماعيل؛ فاتَّهِموه؛ فإنه لا يحضر مجلسه إلا من كان على مذهبه.
          قلتُ: لم يُصرِّح البخاريُّ قطُّ بقوله: لفظي بالقرآن مخلوق، بل كان يتبرَّأ منها، ويكذِّب من عزاها إليه، مع اعتقاده أنَّ حركة اللِّسان مخلوقة، فقرأتُ على فاطمة بنت المنجى بدمشق، عن سليمان بن حمزة: أنَّ الضِّياء محمَّد بن عبد الواحد الحافظ أخبرهم: أخبرنا السِّلَفيُّ في كتابه: أخبرنا المبارك بن عبد الجبَّار: أخبرنا هناد بن إبراهيم: أخبرنا محمَّد بن أحمد بن سليمان الحافظ: حدَّثنا خلف بن محمَّد بن إسماعيل: سمعت أبا عمرو أحمد بن نصر النِّيسابوريَّ الخفَّاف ببخارى يقول: كنَّا يومًا عند أبي إسحاق القرشيِّ ومعنا محمَّد بن نصر المروزيُّ، فجرى ذكر محمَّد بن إسماعيل، فقال محمَّد بن نصر: سمعته يقول: من زعم أنِّي قلت: لفظي بالقرآن مخلوق؛ فهو كذَّابٌ، فإنِّي لم أقله، فقلت له: يا أبا عبد الله؛ قد خاض النَّاس في هذا فأكثروا، فقال: ليس إلَّا ما أقول لك، قال أبو عمرو: فأتيت البخاريَّ فناظرته في شيء من الحديث حتَّى طابت نفسه، فقلت: يا أبا عبد الله؛ ههنا أحدٌ يحكي عنك أنَّك تقول: لفظي بالقرآن مخلوق، فقال: يا أبا عمرو؛ احفظ ما أقول لك، من زعم من أهل نيسابور وغيرها _سمَّى بلادًا كثيرةً_ أنِّي قلت: لفظي بالقرآن مخلوق؛ فهو كذَّاب، فإنِّي لم أقله إلَّا أنِّي قلت: أفعال العباد مخلوقة.
          وقال الحاكم: سمعت محمَّد بن صالح بن هانئ يقول: سمعت أحمد بن سلمة يقول: دخلت على البخاريِّ، فقلت: يا أبا عبد الله؛ إنَّ هذا الرجل(18) _يعني: الذُّهليَّ_ مقبولٌ بخراسان، خصوصًا في هذه المدينة، وقد لحَّ في هذا الحديث حتَّى لا يقدر أحد منَّا أن يكلَّمه فيه فما ترى، فقبض على لحيته ثمَّ قال: {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ إن اللهَ بَصِيرٌ بِالعِبَادِ} [غافر:44] اللَّهم؛ إنَّك تعلم أنِّي لم أُرد المقام بنيسابور أشرًا ولا بطرًا ولا طلبًا للرِّئاسة، وإنَّما أبتْ عليَّ نفسي الرَّجوع إلى الوطن؛ لغلبة المخالفين، وقد قصدني هذا الرَّجل حسدًا لما آتاني الله لا غير، ثمَّ قال: يا أحمد؛ إنِّي خارج غدًا لتتخلَّصوا من حديثٍ(19) لأجلي.
          وقال الحافظ أبو عبد الله بن الأخرم: لما قام مسلم بن الحجَّاج وأحمد بن سلمة من مجلس محمَّد بن يحيى بسبب البخاريِّ؛ قال الذُّهليُّ: لا يساكننِّي هذا الرَّجل في البلد، فخشي البخاريُّ وسافر.
          وقال الحاكم: سمعت أبا / الوليد حسَّان بن محمَّد الفقيه: سمعت محمَّد بن نعيم يقول: سألت محمَّد بن إسماعيل لمَّا وقع في شأنه ما وقع عن الإيمان فقال: قول وعمل، ويزيد وينقص، والقرآن كلام الله غير مخلوق، وأفضل أصحاب رسول الله صلعم أبو بكر، ثمَّ عمر، ثمَّ عثمان، ثمَّ عليٌّ، على هذا حييت، وعليه أموت، وعليه أبعث إن شاء الله.


[1] في المطبوع: (فإنَّ).
[2] في المطبوع: (عن).
[3] (به): ليس في المطبوع.
[4] (☼) زيادة من نسخة ابن فهد، وهي في المطبوع.
[5] (أبو علي) زيادة من نسخة ابن فهد، وهي في المطبوع.
[6] في المطبوع: (من).
[7] (كلِّها): ليس في المطبوع.
[8] في نسخة السخاوي: (فسلك فيما سلكه سننًا)، وفي نسخة: (فسلم فيما سماه سننًا).
[9] (أبا): ليس في المطبوع.
[10] في المطبوع: (يعرض).
[11] في المطبوع: (اشترط).
[12] (كتاب): ليس في المطبوع.
[13] في المطبوع: (أخبرهم).
[14] في المطبوع: (و).
[15] في المطبوع: (اللَّهم).
[16] (والله أعلم): ليس في المطبوع.
[17] في المطبوع: (ثلاث).
[18] في المطبوع: (رجلٌ).
[19] في المطبوع: (حديثه).