تغليق التعليق

ذكر سعة حفظه وسيلان ذهنه

          ذكر سعة حفظه وسيلان ذهنه سوى ما تقدَّم:
          أخبرنا أحمد بن عمر اللؤلؤيُّ فيما قرأت عليه، عن الحافظ أبي الحجَّاج المزِّيِّ: أنَّ يوسف بن يعقوب أخبره: أخبرنا أبو اليمن الكنديُّ: أخبرنا أبو منصور القزَّاز: أخبرنا أبو بكر الخطيب: حدَّثني محمَّد بن أبي الحسن السَّاحليُّ: حدَّثنا أحمد بن الحسن الرَّازيُّ: سمعت أبا أحمد بن عديٍّ يقول: سمعت عدَّة مشايخ يقولون: إنَّ محمَّد بن إسماعيل البخاريَّ قدم بغداد، فسمع به أصحاب الحديث فاجتمعوا، وعمدوا إلى مئة حديث، فقلبوا متونها وأسانيدها، وجعلوا متن هذا الإسناد لإسنادٍ آخر، وإسناد هذا المتن لمتنٍ آخر، ودفعوها إلى عشرة أنفس، لكلِّ رجلٍ عشرة أحاديث، وأمروهم إذا حضروا المجلس أن يلقوا ذلك على البخاريِّ، وأخذوا الموعد للمجلس، فحضر المجلس جماعةٌ من الغرباء من أهل خراسان وغيرها ومن البغدادييِّن، فلمَّا اطمأنَّ المجلس بأهله؛ انتدب رجلٌ من العشرة، فسأله عن حديثٍ من تلك الأحاديث، فقال البخاريُّ: لا أعرفه، فما زال يُلقي عليه واحدًا بعد واحدٍ حتَّى فرغ من عشرته، والبخاريُّ يقول: لا أعرفه، فكان الفقهاء ممَّن حضر المجلس يلتفت بعضهم إلى بعضٍ، ويقولون: فهم الرَّجل، ومن كان منهم غير ذلك يقضي على البخاريِّ بالعجز والتقصير وقلَّة الفهم، ثمَّ انتدب رجلٌ آخر من العشرة، فسأله عن حديثٍ من تلك الأحاديث المقلوبة، فقال البخاريُّ: لا أعرفه، فسأله عن آخر، فقال: لا أعرفه، فلم يزل يلقي عليه واحدًا بعد واحدٍ حتَّى فرغ من عشرته، والبخاريُّ يقول: لا أعرفه، ثمَّ انتدب له الثَّالث والرَّابع إلى تمام العشرة، حتَّى فرغوا كلُّهم من الأحاديث المقلوبة، والبخاريُّ لا يزيدهم على: لا أعرفه، فلمَّا علم البخاريُّ أنَّهم قد فرغوا؛ التفت إلى الأوَّل منهم، فقال: أمَّا حديثك الأوَّل؛ فهو كذا وصوابه كذا، وحديثك الثَّاني؛ فهو كذا، والثَّالث والرَّابع على الولاء حتَّى أتى على تمام العشرة، فردَّ كلَّ متنٍ إلى إسناده، وكل إسنادٍ إلى متنه، وفعل بالآخرين مثل ذلك، وردَّ متون الأحاديث كلَّها إلى أسانيدها، وأسانيدها إلى متونها، فأقرَّ النَّاس له بالحفظ، وأذعنوا له بالفضل.
          قلت: هنا نخضع للبخاريِّ، فما العجب من ردِّه الخطأ إلى الصَّواب، بل العجب من حفظه للخطأ على ترتيب ما ألقوه عليه من مرَّةٍ واحدةٍ.
          وقد روينا عن أبي بكر الكلوْذانيِّ قال: ما رأيت مثل محمَّد بن إسماعيل، كان يأخذ الكتاب من العلم فيطِّلع إليه اطَّلاعة، فيحفظ عامَّة أطراف الأحاديث من مرَّةٍ واحدةٍ، وقد سبق ما حكاه حاشد بن إسماعيل في أيَّام طلبهم معه بالبصرة، وكونه كان يحفظ ما يسمع، ولا يكتب. /
          وقال أبو الأزهر: كان بسمرقند أربع مئة محدِّثٍ، فتجمعوا وأحبُّوا أن يُغالطوا محمَّد بن إسماعيل، فأدخلوا إسناد الشَّام في إسناد العراق، وإسناد اليمن في إسناد الحرم، فما تعلَّقوا منه بسقطة.
          وقال غنجار في «تاريخه»: سمعت أبا القاسم منصور بن إسحاق بن إبراهيم الأسدي يقول: سمعت أبا محمَّد عبد الله بن محمَّد بن إبراهيم الدَّاغونيَّ يقول: سمعت يوسف بن موسى المروروذيَّ يقول: كنت بالبصرة في جامعها إذ سمعت مناديًا ينادي: يا أهل العلم؛ لقد قدم محمَّد بن إسماعيل البخاريُّ، فقاموا في طلبه وكنت معهم، فرأينا رجلًا شابًّا، لم يكن في لحيته بياضٌ، فصلَّى خلف الأسطوانة، فلما فرغ من الصَّلاة؛ أحدقوا به، وسألوه أن يعقد لهم مجلس الإملاء، فأجابهم إلى ذلك، فقام المنادي ثانية فنادى في جامع البصرة: لقد قدم أبو عبد الله محمَّد بن إسماعيل، فسألناه بأن يعقد مجلس الإملاء، فأجاب بأن يجلس غدًا في موضع كذا، فلما كان بالغداة؛ حضر الفقهاء والمحدِّثون والحفَّاظ والنظَّارة حتَّى اجتمع قريبٌ من كذا وكذا ألف نفسٍ، فجلس أبو عبد الله للإملاء، فقال قبل أن يأخذ في الإملاء: يا أهل البصرة؛ أنا شابٌّ، وقد سألتموني أن أحدِّثكم، وسأحدِّثكم بأحاديث عن أهل بلدكم تستفيدونها؛ يعني: ليست عندكم، قال: فتعجَّب النَّاس من قوله، فأخذ في الإملاء فقال: حدَّثنا عبد الله بن عثمان بن جبلة بن أبي روَّاد العتكيُّ بلديُّكم: حدَّثنا أبي عن شُعبة، عن منصور وغيره، عن سالم بن أبي الجعد، عن أنسِ بن مالكٍ: أنَّ أعرابيًّا جاء إلى النَّبيِّ صلعم فقال: يا رسول الله؛ الرَّجل يحبُّ القوم...؛ الحديث، ثمَّ قال: هذا ليس عندكم، إنَّما عندكم عن غير منصور قال يوسف بن موسى: وأملى عليهم مجلسًا على هذا النَّسق، فيقول في كلِّ حديثٍ: روى فلانٌ هذا الحديث عندكم كذا، فأمَّا من رواية فلان؛ يعني: التي يسوقها؛ فليست عندكم.
          وقال حمدويه بن الخطَّاب: لما قدم البخاريُّ قَدْمَتَهُ الأخيرة من العراق وتلقَّاه من تلقَّاه من النَّاس وازدحموا عليه وبالغوا في برِّه؛ فقيل له في ذلك: فقال: فكيف لو رأيتم يوم دخولنا البصرة؟
          أنبئت عن أبي نصر بن الشِّيرازيِّ عن جدِّه: أن الحافظ أبا القاسم بن عساكر أخبره: أخبرنا إسماعيل بن أبي صالح.
          (ح): وقرأته عاليًا على أبي بكر الفرضيِّ عن القاسم بن مظفَّر: أخبرنا عليُّ بن الحسين عن الحافظ أبي الفضل بن ناصر وأبي الفضل الميهني؛ قالا: أخبرنا أبو بكر بن خلف: قال ابن ناصر إجازةً: أخبرنا الحاكم: حدَّثني أبو سعيد أحمد بن محمَّد النَّسويُّ: حدَّثني أبو حسَّان مهيب بن سُليم: سمعت محمَّد بن إسماعيل البخاريَّ(1) قال: اعْتَلَلْتُ بنيسابور علَّةً خفيفةً، وذلك في شهر رمضان، فعادني إسحاق ابن راهويه في نفرٍ من أصحابه، فقال لي: أفطرت يا أبا عبد الله؟! فقلت: نعم، فقال: خشيت أن تضعُفَ عن قبول الرُّخصة، فقلت: أخبرنا عبدان عن ابن المبارك، عن ابن جُريج قال: قلت لعطاء: من أي المرض أفطر؟ فقال: من أي مرض كان، كما قال الله ╡: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا} [البقرة:184] قال البخاريُّ: لم يكن هذا عند إسحاق.
          قلت: هذا رواه عبد الرَّزَّاق في «مصنَّفه» عن ابن جُريج أيضًا، فلعلَّه فات إسحاق.
          وقال محمَّد بن أبي حاتم ورَّاق البخاريِّ: سمعته يقول: لو نُشر بعضُ أستاذي(2) هؤلاء(3) ؛ لم يفهموا كيف صنَّفت «التَّاريخ» ولا عرفوه، ثمَّ قال: صنفته ثلاث مراتٍ.
          وقال أحيد بن أبي جعفر والي بُخارى: قال لي محمَّد بن إسماعيل يومًا: رُبَّ حديثٍ سمعته بالبصرة كتبته بالشَّام، ورُبَّ حديثٍ سمعته بالشَّام كتبته بمصر، فقلت له: يا أبا عبد الله؛ بتمامه؟ فسكت.
          وقال سُليم بن مجاهد: قال لي محمَّد بن إسماعيل: لا أجيء بحديث عن الصَّحابة أو التَّابعين إلَّا عرفت مولد أكثرهم ووفاتهم ومساكنهم، ولست أروي حديثًا من حديث الصَّحابة، والتَّابعين _يعني: من الموقوفات_ إلَّا ولي في ذلك أصلٌ أحفظه حفظًا عن كتاب الله وسنَّة رسوله صلعم.
          وقال عليُّ بن الحسين بن عاصم البيكنديُّ: قدم علينا محمَّد بن إسماعيل، فقال له رجل من أصحابنا: سمعت إسحاق ابن راهويه يقول: كأنِّي أنظر إلى سبعين ألف حديثٍ من كتابي، فقال محمَّد بن إسماعيل: أوَتعجب من هذا؟! لعلَّ في هذا الزَّمان من ينظر إلى مئتي ألف حديث من كتابه، وإنَّما عنى نفسه.
          وقال محمَّد بن حمدويه: سمعت البخاريَّ يقول: أحفظ مئة ألف حديثٍ صحيحٍ، وأحفظ مئتي ألف حديثٍ غير صحيح.
          وقال له ورَّاقه: تحفظ جميع ما أدخلت في «المصنَّف»؟ فقال: لا يخفى عليَّ جميع ما فيه، وصنَّفت جميع كتبي ثلاث مرَّات.
          قال: وبلغني أنَّه شرب البلاذر، فسألته خلوة: هل من دواء للحفظ؟ فقال: لا أعلم، ثمَّ أقبل عليَّ فقال: لا أعلم شيئًا أنفع للحفظ من نهمة الرَّجل ومداومة النَّظر.
          وقال: أقمت بالمدينة بعد أن حججت سنة جرداء أكتب الحديث، قال: وأقمت بالبصرة خمس سنين معي كتبي أصنِّف وأحجُّ في كلِّ سنة، وأرجع من مكَّة إلى البصرة، قال: وأنا أرجو أنَّ الله تعالى يبارك للمسلمين في هذه المصنَّفات /
          وعن البخاريِّ قال: تذكَّرت يومًا أصحاب أنسي، فحضرني في ساعةٍ ثلاث مئة نفس، وما قدمت على شيخ إلَّا كان انتفاعه بي أكثر من انتفاعي به.
          وقال ورَّاقه: عمل كتابًا في الهبة، فيه نحو خمس مئة حديث، وقال: ليس في كتاب وكيع في الهبة إلَّا حديثان مسندان أو ثلاثة، وفي كتاب ابن المبارك خمسة أو نحوه.
          وقال ورَّاقه: سمعته يقول: ما نمت البارحة حتَّى عددت كم أدخلت في تصانيفي من الحديث، فإذا نحو مئتي ألف، وقال أيضًا: لو قيل لي شيء؛ لما قمت حتَّى أروي عشرة آلاف حديث في الصَّلاة خاصَّة، وقال: ما جلست للتَّحديث حتَّى عرفت الصَّحيح من السَّقيم، وحتى نظرت في كتب أهل الرَّأي، وما تركت بالبصرة حديثًا إلَّا كتبته.
          قال: وسمعته يقول: لا أعلم شيئًا يُحتاج إليه إلَّا وهو في الكتاب والسنة، قال: فقلت له: يمكن معرفة ذاك؟ قال: نعم.
          وقال أحمد بن حَمْدون الحافظ: رأيت البخاريَّ في جنازة ومحمَّد بن يحيى الذُّهليُّ يسأله عن الأسماء والعلل، والبخاريُّ يمرُّ فيه مثل السَّهم، كأنَّه يقرأ: {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] .


[1] (البخاري): ليس في المطبوع.
[2] في المطبوع: (إسنادي).
[3] (هؤلاء): ليس في المطبوع.