تغليق التعليق

ذكر منشأه وطلبه الحديث

          ذِكر منشئه وطلبه الحديث:
          قال ورَّاقُ البخاريِّ: فيما أنبأنا عبد الله بن محمَّد المكِّيُّ إذنًا مشافهةً عن كتاب سليمان بن حمزة، عن عبد العزيز بن باقا، عن طاهر بن محمَّد بن طاهر، عن أحمد بن عليِّ بن خلف: أخبرنا أبو طاهر أحمد بن عبد الله بن مهرويه: أخبرنا أحمد بن عبد الله بن محمَّد بن يوسف: أخبرنا جدِّي أبو عبد الله محمَّد بن يوسف الفربريُّ: أخبرنا أبو جعفر محمَّد بن أبي حاتم ورَّاق البخاريِّ _قلتُ: وكلُّ ما أسوقه عن ورَّاق البخاريِّ؛ فبهذا الإسناد _ قال: قلت لأبي عبد الله: كيف كان بدء أمرك في طلب الحديث؟ قال: ألهِمْتُ حفظ الحديث وأنا في الكُتَّاب، قلت: وكم أتى عليك إذ ذاك؟ فقال: عشر سنين أو أقلَّ، ثمَّ خرجت من الكُتَّابِ بعد العشر، فجعلت أختلف إلى الدَّاخليِّ وغيره، فقال: يومًا فيما كان يقرأ للنَّاس: سفيان عن أبي الزُّبير، عن إبراهيم، فقلت: يا أبا فلان؛ إنَّ أبا الزُّبير لم يرو عن إبراهيم، فانتهرني، فقلت له: ارجع إلى الأصل إن كان عندك، فدخل ونظر فيه، ثمَّ خرج، فقال لي: كيف هو يا غلام؟ فقلت: هو الزُّبير بن عديٍّ عن إبراهيم، فأخذ القلم وأصلح كتابه، فقال: صدقت، فقال له بعض أصحابه: ابنَ كَمْ كنت إذ رددت عليه؟ فقال له: ابن إحدى عشرة سنة قال: فلما طعنت في ستَّ عشرةَ سنةً، حفظت كُتُبَ ابن المبارك ووكيع، وعرفت كلام هؤلاء، ثمَّ خرجت مع أمي وأخي أحمد إلى مكَّة، فلمَّا حججت؛ رجع أخي، وتخلَّفت بها في طلب الحديث، فلما طعنت في ثماني عشرة؛ جعلت أُصنِّف قضايا الصَّحابة، والتَّابعين، وأقاويلهم، وذلك في أيَّام عبيد الله بن موسى، وصنَّف كتاب «التَّاريخ» إذ ذاك عند قبر النَّبيِّ صلعم في اللَّيالي المقمرة قال: وقَلَّ اسمٌ في التَّاريخ إلَّا وله عندي قصَّة، إلَّا أنِّي كرهت تطويل الكتاب.
          قلتُ: الدَّاخليُّ المذكور لم يقِفْ على اسمه، ولم يذكر ابن السَّمعانيِّ، ولا الرُّشاطيِّ هذه النِّسبة، وأظنُّ أنَّها نسبة إلى المدينة الدَّاخلة بنيسابور.
          وقال إسحاق بن أحمد بن خلف: رحل محمَّد بن إسماعيل في آخر سنة عشر ومئتين.
          وقال بكر بن منير: سمعت البخاريَّ يقول: كنت عند أبي حفص أحمد بن حفص أسمع كتاب «الجامع» لسفيان الثَّوريِّ من كتاب والدي، فمرَّ أبو حفص على حرف، ولم يكن عندي ما ذُكِرَ، فراجعته، فقال: الثَّانية، والثَّالثة، فراجعته، فسكت، ثمَّ قال: من هذا؟ قالوا: ابنُ إسماعيل، فقال: هو كما قال واحفظوا أنَّ هذا يصير يومًا رجلًا.
          وقال ورَّاق البخاريِّ: سمعته يقول: كنت أختلف إلى الفقهاء بمرو وأنا صبيٌّ، فقال لي مؤدِّبٌ من أهلها: كم كتبت اليوم؟ قلت: آيتين، فضحك من حضر المجلس، فقال شيخ منهم: لا تضحكوا منه، فلعلَّه يضحك منكم يومًا.
          وقال أبو محمَّد عبد الله بن محمَّد بن إسحاق السِّمسار المؤدِّب: سمعت شيخي يقول: ذهب عينا محمَّد بن إسماعيل في صغره، فرأت والدتُه إبراهيمَ الخليل ╕ في المنام، فقال: يا هذه؛ قد ردَّ الله على ابنك بصره لكثرة دعائك، أو لكثرة بكائك، قال: فأصبح وقد ردَّ الله عليه بصره. /
          وقال غُنْجَار في «تاريخ بخارى»: أخبرنا خلف بن محمَّد [قال] : سمعت أحمد بن محمَّد بن الفضل البلخيَّ يقول: سمعت أبي يقول: ذهبت عينا محمَّد بن إسماعيل في صغره؛ فذكر مثله.
          ورواها الحافظ أبو القاسم اللَّالكَائِيُّ في كتاب «كرامات الأولياء» له عن شيخ، عن غنجار له: أُنبئتُ عن أبي نصر بن الشِّيرازيِّ عن جدِّه أبي نصر: أنَّ الحافظ أبا القاسم الدِّمشقيَّ أخبره: أخبرنا الحسين بن عبد الملك: أخبرنا أبو طاهر بن محمود: أخبرنا أبو بكر بن المُقرئ: سمعت أبا أحمد النّيسابوريَّ: سمعت أحمد بن يوسف السُّلَميَّ قال: رأيت محمَّد بن إسماعيل في مجلس مالك بن إسماعيل وهو يبكي، فقلت له: ما يبكيك؟ قال: لا يمكنني أن أكتب ولا أن أضبط قال: ثمَّ جعل الله محمَّد بن إسماعيل كما رأيتم، وقال أبو حاتم سهل بن السريِّ: قال محمَّد بن إسماعيل البخاريُّ: لقيت أكثر من ألف شيخٍ من أهل الحجاز مكَّة والمدينة، والبصرة، وواسط، وبغداد، والشَّام، ومصر لقيتهم قرنًا بعد قرن، وذكر أنَّه رحل إلى الشَّام، ومصر، والجزيرة مرَّتين، وإلى البصرة أربع مرَّات، وأقام بالحجاز ستَّة أعوامٍ قال: ولا أحصي كم دخلت الكوفة وبغداد مع محدِّثي خُراسان.
          وقال ورَّاق البخاريِّ: سمعته يقول: دخلت بلخَ، فسألني أصحاب الحديث أن أُملي عليهم لكلِّ من لقيت حديثًا عنه، فأمليت ألف حديث لألف شيخ ممَّن كتبت عنهم، ثمَّ قال: كتبت عن ألفٍ وثمانين نفسًا، ليس فيهم إلَّا صاحب حديث، وقال أيضًا: كتبت عن ألف نفسٍ من العلماءِ وزيادة، ولم أكتب إلَّا عمَّن قال: الإيمان قول وعمل.
          وقال جعفر بن محمَّد القطَّان: سمعت البخاريَّ يقول: كتبت عن ألف شيخ أو أكثر، ما عندي حديث إلَّا أذكر إسنادَه.
          وقال ورَّاق البخاريِّ: سمعته يقول: لم تكن كتابتي الحديث كما كتبه هؤلاء، كنت إذا كتبت عن رجلٍ؛ سألته عن اسمه وكنيته ونسبه، وعلَّة الحديث إن كان الرَّجل فَهِمًا، فإن لم يكن؛ سألته أن يُخْرِجَ لي أصله ونُسْخَتَهُ، فَأمَّا الآخرون؛ فلا يُبالون ما يكتبون، ولا كيف يكتبون.
          قال: وسمعت هانئ بن النَّضر يقول: لقينا محمَّد بن يوسف_يعني: الفِرْيابِيَّ_ بالشَّام مرتين، [وكنَّا نتنزَّه] ، وكان محمَّد بن إسماعيل معنا، وكان لا يزاحمنا فيما نحن فيه، بل مكث على العلم.
          قال: وسمعت العبَّاس الدَّوريَّ يقول: ما رأيت أحسن طلبًا للحديث من محمَّد بن إسماعيل، كان لا يدع أصلًا ولا فرعًا إلَّا بلغه، ثمَّ قال لنا: لا تدعوا شيئًا من كلامه، إلَّا كتبتموه.
          وقال أبو بكر بن أبي عتَّاب الأعين: سمعنا على محمَّد بن إسماعيل على باب محمَّد بن يوسف وهو أمرد.
          قلت: كان سِنُّه إذ ذاك بضع عشرة سنةٍ، والأعيَنُ المذكور من أصحاب الإمام أحمد المشهورين، والفريابيُّ من كبار شيوخ البخاريِّ.
          وقال أبو الفضل محمَّد بن طاهر: قدم البخاريُّ بغداد سنةَ عشر ومئتين، وعزم على المُضيِّ إلى عبد الرَّزَّاق باليمن، فالتقى بيحيى بن جعفر البيكنديِّ فاستخبره، فقال: مات عبد الرَّزَّاق، ثمَّ تبيَّن أنَّه لم يمت، فسمع البخاريُّ حديث عبد الرَّزَّاق من يحيى بن جعفر.
          قلت: ويحيى بن جعفر من الثِّقات الأثبات، وما أعتقد أنَّه افترى وفاةَ عبد الرَّزَّاق، بل لعلَّه حكاه؛ لإشاعة لم تصحَّ، وكان يحيى بن جعفر بعد ذلك يدعو لمحمَّد بن إسماعيل، ويفرط في مدحه، وسيأتي ذلك.
          وقال الخطيب والبيهقيُّ جميعًا: أخبرنا أبو حازم العَبْدَويُّ: سمعت محمَّد بن محمَّد بن العبّاس الضَّبِّيَّ: سمعت أحمد بن عبد الله بن محمَّد بن يوسف يقول: سمعت جدِّيَ يقول: سمعت البخاريَّ يقول: دخلت بغدادَ ثماني مرات، في كلِّها أجالس أحمد ابن حنبل، فقال لي: يا أبا عبد الله؛ تدع العلم والنَّاس وتصيرُ إلى خُراسان؟! قال: فأنا أذكر قوله الآن.
          وقال ورَّاق البخاريِّ عن حاشد بن إسماعيل: كان البخاريُّ يختلف معنا إلى مشايخ البصرة وهو غلام، فلا يكتب حتَّى أتى على ذلك أيَّامٌ، فَلُمْنَاهُ، فقال لنا بعد ستَّة عشر يومًا: قد أكثرتم عليَّ، فاعرضوا عليَّ ما كتبتم.
          فأخرجناه، فزاد على خمسة عشر ألفًا، فقرأها كلَّها عن ظهر قلبٍ حتَّى جعلنا كلَّنا نُحْكِمُ كُتبنا من حفظه، فعلمنا أنَّه لا يتقدَّمه أحدٌ، فكان أهل المعرفة بالبصرة يَعْدُونَ خلفه في طلب الحديث، ويكتبون عنه، وهو شابٌّ حتَّى يغلبوه على نفسه، ويُجلسونه في بعض الطَّريق، فيجتمع عليه ألوفٌ أكثرهم ممَّن يكتب عنه، وكان إذ ذاك شابًّا لم يخرج(1) وجهه.
          وقال محمد(2) بن الأزهر السِّجستانيُّ: كنت بالبصرة في مجلس سليمان بن حرب والبخاريُّ جالسٌ لا يكتب، فقيل لبعضهم: ماله لا يكتب؟ فقال: يرجع إلى بخارى فيكتب من حفظه.
          وقال الورَّاق: كان شديد الحياء في صغره، حتَّى قال شيخه محمَّد بن سلَام البيكنديُّ: أترون البكر أشدَّ حياءً من هذا الغُلام؟ قال: وسمعته يقول: كنت في مجلس الفِرْيَابِيِّ فقال: حدَّثنا سفيان عن أبي عروة، عن أبي الخطَّاب، عن أنس: أنَّ النَّبيَّ صلعم كان يطوف على نسائه بغسلٍ واحدٍ قال: فلم يعرف أحدٌ في المجلس أبا عروة، ولا أبا الخطَّاب، فقال: أمَّا أبو عروة؛ فمعمر، وأمَّا أبو الخطَّاب؛ فقتادة، قال: وكان الثَّوريُّ فعُولًا؛ لهذا يُكنِّي المشهورين.


[1] في المخطوط: (تخرج).
[2] في المطبوع: (محب).