تغليق التعليق

ذكر سيرته وشمائله وزهده وفضائله

          ذكر سيرته، وشمائله، وزهده، وفضائله(1) :
          قال ورَّاقه: سمعت محمَّد بن خراش يقول: سمعت أحمد بن حفص: دخلت على إسماعيل _والد أبي عبد الله_ عند موته، فقال: لا أعلم في مالي درهمًا من حرامٍ، ولا درهمًا من شبهةٍ.
          قلت: وحكى ورَّاقه أنَّه ورث من أبيه مالًا جليلًا، فكان يُعطيه مُضاربةً، فقطع له غريمٌ خمسة وعشرين ألفًا، فقيل له: استعن بكتاب الوالي، فقال: إن أخذت منهم كتابًا؛ طمعوا، ولن أبيع ديني بدنياي، ثمَّ صالح غريمه على أن يُعطيه كلَّ شهر عشرة دراهم، وذهب ذلك المال كلُّه.
          قال البخاريُّ: ما تولَّيت شراء شيء قطُّ ولا بيعه، كُنت آمر إنسانًا فيشتري لي، فقيل له(2) : ولم؟ قال: لما فيه من الزِّيادة والنُّقصان والتَّخليط، وقال غنجار في «تاريخه»: حدَّثنا أحمد بن محمَّد بن عمر المقرئ: حدَّثنا أبو سعيد بكر بن منير قال: كان حُمل إلى محمَّد بن إسماعيل بضاعة، أنفذها إليه أبو حفص، فاجتمع بعض التُّجَّار إليه بالعشيَّة، وطلبوها منه بربح خمسة آلاف درهمٍ، فقال لهم: انصرفوا اللَّيلة، فجاءه من الغد تُجَّارٌ آخرون، فطلبوا منه البضاعة بربح عشرة آلاف درهمٍ، فردهم وقال: إنِّي نويت البارحة أن أدفع إليهم ما طلبوا؛ يعني: الذين طلبوا أوَّل مرَّة، ودفعها إليهم، وقال: لا أحبُّ أن أنقُض نيَّتي.
          وقال ورَّاقه: سمعته يقول: خرجت إلى آدم بن أبي إياس، فتأخَّرت نفقتي حتَّى جعلت أتناول حشيش الأرض، فلما كان في اليوم الثَّالث؛ أتاني رجلٌ لا أعرفه، فوهبني صُرَّةً فيها دنانير قال: وسمعته يقول: كنت أستغلُّ في كلِّ شهرٍ خمس مئة درهم، فأنفقها في الطَّلب، وما عند الله خير وأبقى.
          وقال عبد الله بن محمَّد الصَّيارفيُّ(3) : كنت عند أبي عبد الله محمَّد بن إسماعيل في منزله، فجاءته جاريته وأرادت دخول المنزل، فعثرت على محبرة بين يديه، فقال لها: كيف تمشين؟ قالت: إذا لم يكن طريقٌ؛ كيف أمشي؟ فبسط يديه(4) ، وقال: اذهبي، فقد أعتقتك، فقيل له: يا أبا عبد الله؛ أغضبتك الجارية؟ قال: إن كانت أغضبتني؛ فقد أرضيتُ نفسي بما فعلت.
          قال ورَّاقهُ: رأيته استلقى ونحن(5) بِفَرَبْرَ، في تصنيف كتاب (التفسير) وكان أتعب نفسه في ذلك اليوم في التَّخريج، فقلت له: إنِّي أراك تقول: ما أتيت شيئًا بغير علم، فما الفائدة في الاستلقاء، فقال: أتعبت نفسي اليوم، وهذا ثغرٌ خشيت أن يحدث حدث من أمر العدو، فأحببت أن أستريح، وآخذ أُهبةً، فإن غافصنا العدو؛ كان بنا حراك.
          قال: وكان يركب إلى الرَّمي كثيرًا، فما أعلمني رأيته في طول ما صحبته، أخطأ سهمُه الهدفَ إلَّا مرتين، بل كان يُصيب في كلِّ ذلك، ولا يُسبق، قال: وركبنا يومًا إلى الرَّمي ونحن بفربر، فخرجت إلى الدَّرب الذي يُؤدِّي إلى الفُرضة، فجعلنا نرمي، وأصاب سهم أبي عبد الله وتد القنطرة التي على النَّهر فانشق الوتِد، فلما رآه؛ نزل عن دابته، فأخرج السَّهم من الوتِد، وترك الرَّمي، وقال لنا: ارجعوا، فرجعنا، فقال لي: يا أبا جعفر؛ لي إليك حاجة وهو يتنفَّس الصُّعداء فقلت: نعم، فقال: تذهب إلى صاحب القنطرة فتقول: إنَّا قد أخللنا بالوتِد، فنحبُّ أن تأذن لنا في إقامة بدله، أو تأخذ ثمنه، أو تجعلنا في حلٍّ ممَّا كان منَّا، وكان صاحب القنطرة حُمَيْد بن الأخضر، فقال لي: أبلغ أبا عبد الله السَّلام، وقل له: أنت في حلٍّ ممَّا كان منك، فإنَّ جميع ملكي لك الفداء، فأبلغته الرَّسالة، فتهلَّل وجهه، وأظهر سرورًا كثيرًا، وقرأ ذلك اليوم للغُرباء خمس مئة حديثٍ، وتصدَّق بثلاث مئة درهم، قال: وسمعته يقول لأبي معشر الضَّرير: اجعلني في حلٍّ يا أبا معشر، فقال: من أي شيء؟ فقال: رويت حديثًا يومًا فنظرت إليك وقد أُعجبتَ به وأنت تحرِّك رأسك ويديك، فتبسمتُ من ذلك، فقال: أنت في حلِّ، رحمك الله يا أبا عبد الله.
          قال: وسمعته يقول: دعوت ربِّي مرَّتين فاستجاب لي، فلن أحبَّ أن أدعو بعدُ، فلعله يُنقصُ حسناتي.
          قال: وسمعته يقول: لا يكون لي خصمٌ في الآخرة، فقلت: إنَّ بعض النَّاس ينقمون عليك «التَّاريخ» ويقولون: فيه اغتياب النَّاس، فقال: إنَّما روينا ذلك روايةً، لم نقلْه من عند أنفسنا، قال النَّبيُّ صلعم: «بِئْسَ أَخُو العَشِيرَةَ».
          قال: وسمعته يقول: ما اغتبت أحدًا قطُّ منذ علمت أنَّ الغيبة تضرُّ أهلها.
          قلتُ: البخاريُّ في كلامه على الرِّجال في غاية التَّحرِّي والتَّوقِّي، ومن تأمَّل كلامه في الجرح والتَّعديل؛ علم ورعه وإنصافه، فإنَّ أكثر ما يقول: منكر الحديث، سَكتُوا عنه، فيه نظرٌ، تركوه، ونحو هذا، وقَلَّ أن يقول: فُلانٌ كذَّاب، أو يضع الحديث، بل إذا قال ذلك؛ عزاه إلى غيره بقوله: كذَّبهُ فلان، رماه فلان بالكذب، حتَّى إنَّه قال: من قلت فيه: في حديثه نظرٌ؛ فهو متَّهم، ومن قلت فيه: منكر الحديث؛ فلا تحلُّ الرِّواية عنه: أخبرني أحمد بن عمر بقراءتي عليه عن الحافظ أبي الحجَّاج المزِّيِّ: أنَّ أبا الفتح الشَّيبانيَّ أخبرهم: أخبرنا أبو اليمن الكنديُّ: أخبرنا أبو منصور القزَّاز: أخبرنا أحمد بن عليٍّ الحافظ: أخبرني أبو الوليد الدَّربنديُّ: أخبرنا محمَّد بن أحمد بن سليمان الحافظ: حدَّثنا أحمد بن محمَّد بن عمر: سمعت أبا سعيد بكر بن منير: سمعت محمَّد بن إسماعيل يقول: إنِّي لأرجو أن ألقى الله ولا يحاسبني أنِّي اغتبت أحدًا.
          وبه إلى بكر قال: كان محمَّد بن إسماعيل يصلِّي ذات يوم، فلسعه الزُّنبور سبع عشرة مرَّة، فلمَّا قضى صلاته؛ قال: انظروا إيش هذا الذي آذاني في صلاتي، فنظروا، فإذا الزُّنبور قد ورمه في سبعة عشر موضعًا، ولم يقطع صلاته.
          قلت: ورواها ورَّاقه بالمعنى وزاد قال: كنت في آيةٍ، فأحببتُ أن أتمَّها، وقال ورَّاقه: كنَّا بفربر وكان أبو عبد الله يبني رباطًا ممَّا يلي بخارى، فاجتمع بشرٌ كثير يعينونه على ذلك، وكان ينقل اللَّبِنَ، فكنت أقول له: يا أبا عبد الله؛ إنَّك تُكفَى ذلك، فيقول: هذا الذي ينفعني.
          قال: وكان ذبح لهم بقرةً، فلما أدركت القدور؛ دعا النَّاس إلى الطَّعام، وكان معه مائة نفسٍ أو أكثر، ولم يكن علم أنَّه يجتمع ما اجتمع، وكنَّا أخرجنا معه من فربر خبزًا بثلاث [مئة] درهم، وكان الخبز إذ ذاك خمسة أمنًا بدرهم، فألقيناه بين أيديهم، فأكل جميع من حضر، وفضلت أرغفة صالحة.
          قال: وكان قليل الأكل جدًّا، كثير الإحسان إلى الطَّلبة، مُفرط الكرم، وحكى أبو الحسن يوسف بن أبي ذرٍّ البخاريُّ أنَّ البخاريَّ مرض، فعرضوا ماءه على الأطبَّاء، فقالوا: إنَّ هذا الماء يشبه ماء بعض أساقفة النَّصارى، فإنَّهم لا يأتدمون، فصدَّقهم محمَّد بن إسماعيل وقال لم أئتدم منذ أربعين سنة، فسئلوا عن علاجه، فقالوا: علاجه الأدم، فامتنع حتَّى ألحَّ عليه المشايخ وأهل العلم إلى أن أجابهم أن يأكل مع الرَّغيف سُكرة.
          وقال الحاكم أبو عبد الله الحافظ: أخبرني محمَّد بن خالد: حدَّثنا مسبِّح بن سعيد قال: كان محمَّد بن إسماعيل البخاريُّ إذا كان أوَّل ليلةٍ من شهر رمضان يجتمع إليه أصحابه، فيصلِّي بهم، ويقرأ في كلِّ ركعة عشرين آيةً، وكذلك إلى أن يختم القرآن، وكان يقرأ في السَّحر ما بين النِّصف إلى الثُّلث من القرآن، فيختم عند السَّحر في كلِّ ثلاث ليال، وكان يختم بالنَّهار في كل يوم ختمة، ويكون ختمه عند الإفطار كلَّ ليلةٍ، ويقول عند كلِّ ختمة دعوة مستجابة.
          وقال ورَّاقه: كان أبو عبد الله إذا كنت معه في سفر يجمعنا بيت واحد إلَّا في القيظ أحيانًا، فكنت أراه يقوم في ليلةٍ واحدةٍ خمس عشرة مرَّة إلى عشرين مرَّة، في كلِّ ذلك يأخذ القداحة فيوري نارًا بيده ويسرِّج، ويخرِّج أحاديث فَيُعَلِّمُ عليها، ثمَّ يضع رأسه، وكان يصلِّي في وقت السَّحر ثلاث عشرة ركعةً ويوتر منها بواحدةٍ، وكان لا يوقظني في كلِّ ما يقوم، فقلت له: إنَّك تحمل على نفسك كلَّ هذا ولا توقظني؟! قال: أنت شابٌّ، فلا أحبُّ أن أفسد عليك نومك.
          وقال الحافظ أبو الفضل أحمد بن عليٍّ السُّليمانيُّ: سمعت عليَّ بن محمَّد بن منصور يقول: سمعت أبي يقول: كنَّا في مجلس أبي عبد الله البخاريِّ، فرفع إنسان من لحيته قذاةً، فطرحها إلى الأرض قال: فرأيت محمَّد بن إسماعيل ينظر إليها وإلى النَّاس، فلما غفل النَّاس؛ رأيته مدَّ يده فرفع القذاة من الأرض، فأدخلها في كمِّه، فلما خرج من المسجد؛ رأيته أخرجها فطرحها على الأرض.
          وقال ورَّاقه: كان معه شيءٌ من شعر النَّبيِّ صلعم في ملبوسه، أظنُّه في خُفِّهِ.
          قال: وسمعته يقول _وقد سئل عن خبرِ حديثٍ_: يا أبا فلان؛ تُراني أدلِّس وقد تركتُ عشرة آلاف حديث لرجل فيه نظر؟! وتركت مثلها أو أكثر منها لغيره لي فيه نظر؟!.
          وقال الحسن بن محمَّد السَّمرقنديُّ: كان محمَّد بن إسماعيل مخصوصًا بثلاث خصال: كان قليل الكلام، وكان لا يطمع فيما عند النَّاس، وكان لا يشتغل بأمور النَّاس.
          قلت: وكان صاحب فنونٍ ومعرفةٍ باللَّغة والعربية والتَّصريف، ومن شعره:
اغتنم في الفراغ فضل ركوعٍ                     فعسى أن يكون موتك بغتةً
كم صحيح رأيتَ من غير سقمٍ                     ذهبت نفسه الصَّحيحة فلتةً
          رواها الحاكم في «تاريخه» ولما بلغه موت عبد الله بن عبد الرَّحمن الدَّارميُّ؛ أطرق ثمَّ رفع رأسه وهو يبكي، وأنشد:
إن عشت تفجعُ بالأحبَّة كلِّهم                     وبقاء نفسكَ _لا أبالك_ أفجعُ /


[1] في المطبوع: (فضله).
[2] في المطبوع: (لي).
[3] في المخطوط: (الصَّارفي).
[4] في المطبوع: (يده).
[5] و(نحن): ليس في المطبوع.