الكوكب المنير الساري في ختم صحيح البخاري

صفة المساءلة يوم القيامة

          وروي أن الناس يفزعون إذا نزلت الملائكة فزعًا شديدًا، ويقولون للملائكة أفيكم ربنا؟ وذلك لما يغلب عليهم من الدهش والحيرة، فتقول الملائكة تعظيمًا لله سبحانه وتعالى: سبحان ربنا، ولكنه آت من بعد، فيبقى الناس منتظرين، فبينما هم كذلك إذ ظهر نور عظيم تشرق منه أرض المحشر، وهو نور العرش، فترعد منه فرائص الخلق ويتيقنون أن الجبار ╡ قد تجلى لفصل القضاء، فيظن كل أنه هو المأخوذ والمطلوب.
          ثم يأمر الله تعالى جبريل أن يأتي بجهنم، فيأتيها وهي تتلهب غيظًا على من عصى الله، فيقول لها: يا جهنم، أجيبي / لخالقك و مليكك، فتثور وتفور وتشهق، وتسمع الخلائق لها صوتًا عظيمًا تمتلئ منه القلوب فزعًا ورعبًا، ثم تزفر ثانية فيزداد الرعب، ثم تزفر ثالثة فتخر الخلائق على وجوههم، وتبلغ القلوب الحناجر وينظر المجرمون من طرف خفي.
          فأول من يدعى للحساب إسرافيل ◙ ، فيسأل عن تبليغ الرسالة، فيقول: بلغتها لجبريل، فيصدقه جبريل، فيقول جبريل: بلغتها للرسل.
          فيدعى أول المنذرين وهو نوح ◙ فيسأل فيقول بلغت قومي، فيدعى قومه فيسألون، فمن صدق منهم فهو من المؤمنين، ومن كذب وأنكر شهدت عليه أمة محمد صلعم بما أخبرهم الله تعالى في القرآن ويصدقهم محمد صلعم ، فهو قوله تعالى:{لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143]، ثم يسأل جميع الرسل عن البلاغ، وهو قوله تعالى: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ}[الأعراف:6]، و قوله تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَا} [المائدة:109] قيل معناه: لا علم لنا الآن ولا ندري ما تقول، وذلك لما يستغرقهم من هيبة الله تعالى، فإذا سكن خوفهم وروعهم قالوا: بلغنا وعرفنا(1)، فمنهم مصدق ومنهم مكذب، وقيل: معناه لا علم لنا بمن صدقنا ومن كذبنا فإنا لا نطلع على السرائر، ويدل على ذلك قوله:{إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ} [المائدة:116].
          و حكمة سؤال الملائكة والرسل استظهار للعدل، وإقامة للحجة على من كذب، وزيادة تحويف الجاحدين(2).
          ثم بعد ذلك تقبل الملائكة على الخلق، فينادَى كل إنسان باسمه من غير كنية: يا فلان، هلم إلى الموقف وإلى العرض، فمن المؤمنين من لا يحاسب، ومنهم يحاسب حسابًا / يسيرًا، يستره الله تبارك وتعالى عن جميع الخلائق ويكلمه ويقرره بذنوبه كلها، ويقول له: «سترت عليك في الدنيا وأنا أغفر لك اليوم»(3).


[1] في «طهارة القلوب »: «بلغنا قومنا».
[2] «طهارة القلوب» ص 59 ـ 60.
[3] أخرجه البخاري (6070)، ومسلم (2768) من حديث ابن عمر ☻، وانظر «طهارة القلوب» ص 61.