الكوكب المنير الساري في ختم صحيح البخاري

الشفاعة لأهل الكبائر

          فعند / ذلك يأتي جبريل ◙ على شراريف الجنة، والنبي صلعم جالس في الوسيلة، وهي قصر من درة بيضاء _ على بعض الأقوال _ وبيده الكأس وعلى رأسه تاج الكرامة، وعن يمينه آدم ونوح بين يديه صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وداوود يقرأ الزبور أمامه والمؤمنون خلفه وحوله، وهم في فرح وسرور يضحكون، فيأتي جبريل وهو يبكي لما يرى من عذاب أهل الكبائر في النار، فيقول السلام عليك يا محمد، فيقول النبي: وعليك السلام يا جبريل، فيقول جبريل: أدن مني يا محمد، لأضع جناحي على فؤادك حتى لا ترجف، فيضع جناحه على فؤاده ويقول: يا حبيب الله، أنت في الجنة تتلذذ والعصاة من أمتك يعذبون في النار، وهم يقرئوك السلام ويقولون لك: كذا وكذا.
          فعند ذلك يقوم النبي صلعم ويلقي التاج عن رأسه والكأس من يده الشريفة، وينادي: معاشر الأنبياء، أدركوني فعند ذلك تقدم له البراق، فيقول صلعم : ما الذي أصنع بالبراق وأمتي تحت أطباق النيران يعذبون، ثم ينادي المنادي: يا معشر الأولياء، اركبوا مع محمد صلعم ، فيخرجون خلفه حتى يأتي تحت العرش، فيقع ساجدًا ويسجد الأنبياء والمؤمنون خلفه، فيقول العلي الأعلى: يا محمد، ارفع رأسك وسل تعط واشفع تشفع، ليس هذه دار عبادة ولا سجود هذا وقت سعادة وجود، فيقول النبي صلعم : يا رب، أمتي أمتي، ألم تعدني أنك لم تحزني في أمتي، فيقول الله سبحانه وتعالى: إنهم أقوام أمرتهم فعصوني ونهيتهم فخالفوني، ولم يتطهروا من الذنوب ولا الحرام / بالتوبة في دار الدنيا فطهرتهم بالنار وإني قد شفعتك اليوم.
          يا جبريل، امض مع محمد إلى مالك خازن، وقل له: يخرج من النار من في قلبه مثقال ذرة من الإيمان، فعند ذلك يمضي النبي صلعم وجبريل معه والأنبياء خلفه صلوات الله وسلامه عليهم، حتى يأتي مالكًا، فيقول له جبريل ◙ : قف مكانك يا محمد، فإنك لا تستطيع النظر إلى أمتك، فيقول النبي: يا جبريل، دعني أنظر ما صنعت النار بأمتي، فيسير النبي صلعم فتلقاه أولاد الأشقياء، فيتعلقون به ويبكون بين يديه صلعم ويقولون: يا رسول الله، تركت آباءنا وأمهاتنا في النار، فيقول النبي صلعم اليوم يجمع الله شملكم بهم إن شاء، ثم يقبل مسرعًا نحو مالك، فإذا نظر مالك إلى النبي حول وجهه عنه، ويقول: يا محمد، لا تلمني فأنا مأمور، فيقول النبي صلعم : صف لي حالهم، فيقول: كيف أحوال أقوام أكلت النار لحومهم وسودت وجوههم وأحرقت عظامهم، ومزقت جلودهم وفرقت مفاصلهم، فيقول النبي صلعم : افتح لي الطبق عنهم، فيفتح مالك الطبق عنهم، فيدنوا النبي صلعم ينظر في باب جهنم، فتقول النار: إليك عني يا محمد، حرمت عليك وحرمت علي.
          [الجهنميون عصاة المؤمنين عتقاء الرحمن من النار]
          فيقول النبي صلعم : يا جبريل، أشتهي أنظر أمتي فيمد جبريل ◙ جناحه فيقعد النبي فوق جناحه وينظر إلى أمته، وإذا بالنداء من العلي الأعلى: يا جبريل، أخرج أمة محمد من النار وألقهم في نهر الحياة، فيجري عليهم النهر فتبيض عظامهم وتنبت لحومهم وجلودهم وشعورهم، فتعرفهم في ذلك الوقت / أولادهم ويتعلقون بهم، ويقومون من النهر على حسن يوسف وطول آدم وسن عيسى، مكتوب على جباههم: هؤلاء الجهنميون عتقاء الرحمن من النار، ثم تخرج لهم الملائكة خلعًا من الجنة يلبسونها.
          ثم يأخذهم النبي صلعم ويوقفهم بين يدي الحق سبحانه، فيسجدون بين يديه، فيقول لهم: يا عبادي، كيف رأيتم النار، فيقولون: يا ربنا بئس الدار وبئس القرار، فيقول الله ╡ : هذا جزاء من بارزني بالمعاصي وخالف أمري، امضوا إلى الجنة برحمتي، فإني عاقبتكم على الذنوب ورحمتكم لأجل كلمة التوحيد، ولا أخلد في النار من مات على شهادة أن لا إله إلا الله.
          فعند ذلك يقول الكافر: {يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا} [الفرقان:27] و تغلق أبواب النار على الكفار، وينادي عليهم مناد: الإياس من الرحمة يا أهل النار، أنتم الآيسون وفي العذاب مخلدون.
          ثم ينصرف العصاة مع النبي صلعم فيدخل بهم الجنة، ويعطيهم الحق منازل يسكنونها، فتقول أهل الجنة إلى بعضهم: هلموا بنا نتفرج على الجهنميين عتقاء الرحمن من النار، فيأتون أفواجًا أفواجًا يبصرونهم، ويسألون كل إنسان عن أي ذنب أدخله النار، فيحدثونهم عن ذنوبهم، ثم تبقى العصاة في الجنة يعرفون بتلك العلامة التي في جباههم، فيأتون النبي صلعم ويقولون: إن أهل الجنة يعرفوننا بهذا العلامة ونحن نستحي من ذلك، ونسألك أن تشفع لنا عند الجبار يمحوا عنا ذلك، فيأمر الله سبحانه وتعالى سحابة بيضاء فتمطر عليهم فتزول تلك العلامات من جباههم.
          ثم يقول جبريل ◙ : إن ربكم يدعوكم إلى زيارته، فيقفون عند سدرة المنتهى، فيخرج عليهم
           / جبريل، ومعه بنادق من ذهب أحمر، فيناول كل إنسان منهم بندقة، فتشق البندقة ويخرج منها ولدان مخلدون وحور عين ومعهم قناديل الاستبرق والسندس، فيمشون مع خدمهم إلى حضرة القدس، وتنصب لهم كرسي من مرجان، ولأقوام كراسي من فضة، ولأقوام كراسي من ذهب، ولأقوام كراسي من نور على قدر منازلهم ومراتبهم عند الله تعالى، فيجلسون على تلك الكراسي، وأقوام يجلسون على كثبان المسك، وعلى رأس كل إنسان شجرة لها أربعة أغصان، على كل غصن طائر من اللؤلؤ، وعنقه من المرجان، وذنبه من الياقوت، يسبح الله _ أي: الطائر_ بلغات تطرب الوجود وتنشر الطيور عليهم من أجنحتها المسك والكافور والعنبر.
          ثم يقول الله ╡ : يا جبريل، ارفع الحجاب حتى ينظروا أوليائي إلى وجهي الكريم، فيرفع جبريل الحجاب، فينظرون إلى وجه العزيز الجبار سبحانه وتعالى بلا كيف ولا جهة ولا حد، ثم يقول الله سبحانه: السلام عليكم يا أوليائي، أنا عنكم راض فهل رضيتم عني، فيقولون: رضينا رضينا {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [الزمر:74].
          ثم تقدم إليهم الملائكة خيلاً من الياقوت الأحمر، مع كل واحد منهم سبعون غلامًا وسبعون جارية، معهم صبائر الرياحين ومباخر النور يبخرون بها خلقه، ومعهم صواني الذهب فيها الحلي والحلل، ما بين أحمر وأخضر وأصفر، ثم يقولون للذين كانوا في جهنم: يا ساداتنا، ما الذي أبطأكم عنا، فيقولون: كنا معوقين على الصراط حتى عفى الله عنا، فتفرح خدمهم وذراريهم، ثم يبعث الله سبحانه وتعالى لهم الملائكة تسلم عليهم وتهنيهم بقدومهم إلى الجنة.