الكوكب المنير الساري في ختم صحيح البخاري

أحوال الناس في الحشر

          والأخبار دالة / ثابتة على أن جميع الناس يخرجون عراة ويحشرون كذلك.
          وقال الأستاذ سيدي عبد العزيز الدُّرَيْني: إذا قام الناس من قبورهم لفصل القضاء حشروا على أحوال مختلفة، فمنهم من يكسى، ومنهم من يحشر عريانًا، ومنهم راكب، ومنهم ماش، ومنهم مسحوب على وجهه، ومنهم من يذهب إلى الموقف راغبًا، ومنهم من يذهب خائفًا، ومنهم قوم تسوقهم النار سوقًا، وتبدل الأرض ويزداد فيها، وتصير بيضاء عفراء، وتمد مد الأديم، وتذهب جبالها وأشجارها وأوديتها.
          فإذا اجتمع الأولون والآخرون في صعيد واحد تناثرت النجوم من فوقهم، وطمس ضوء الشمس والقمر، فتشتد الظلمة ويعظم الأمر، ثم تنشق السماء على غلظها وصلابتها، فتسمع الخلائق لانشقاقها صوتًا عظيمًا منكرًا فظيعًا، تذهل لهوله الألباب وتخضع له الرقاب، ثم ينظرون إلى الملائكة هابطين إلى الأرض، فتنزل ملائكة سماء الدينا فيحيطون بالخلق، ثم ملائكة السماء الثانية خلفهم دائرة ثانية فيحيطون بالخلق، ثم ملائكة السماء الثالثة كذلك، حتى تسع(1) دوائر، في كل دائرة ملائكة سماء.
          ثم تسيل السماء فتكون كالمهل وهو النحاس المذاب، فيطوي بعضها على بعض، ثم تنهار وتذوب وتذهب حيث شاء الله، وتدنو الشمس من رؤوس الخلائق حتى تكون كقدر ميل، فعند ذلك يشد الكرب من الزحام، ويكون العرق كما قال النبي صلعم : «إنَّ العَرَقَ يومَ القِيامَةِ ليَذهَبُ في الأَرضِ سَبعينَ ذِراعًا، وإنَّه لَيَبلُغُ إلى أَفواهِ النَّاسِ وآذَانِهم» رواه مسلم(2). ويكون الناس يومئذ في العرق مختلفين: فمنهم من يبلغ ركبتيه وحقويه، ولا ظل يومئذ في إلا ظل الله، وهو ظل يخلقه الله في المحشر لا يكون فيه إلا من أراد الله إكرامه، فتقف الناس كذلك شاخصين إلى نحو السماء قدر أربعين / سنة من سنين الدنيا لا ينطقون(3).
          وروى ابن المبارك في «رقائق الحقائق» بسند طويل عن علي ☺ قال: أول من يُكسَى خليل الرحمن إبراهيم ◙ ، ثم يُكسَى محمد صلعم حلة عن يمين العرش(4).
          وروى عباد بن كثير، عن أبي الزُّبير، عن جابر ☺ قال: إن المؤذنين و الملبين يخرجون يوم القيامة من قبورهم يؤذن المؤذن ويلبي الملبي، وأول من يُكسى من حلل الجنة إبراهيم خليل الله، ثم محمد رسول الله صلعم ، ثم النبيون والرسل، ثم يُكسى المؤذنون، وتتلقاهم الملائكة على نَجائب من ياقوت أحمر، أزمتها من زمرد أخضر، رحالها من الذهب، ويشيعهم من قبورهم سبعون ألف ملك إلى المحشر. ذكره الحليمي(5).
          وعن ابن عباس ☺ قال: قال رسول الله صلعم : «إنكم تحشرون حفاة عراة، وأول من يكسى من الجنة إبراهيم صلعم ، يكسى حلة من الجنة، ويؤتى بكرسي فيطرح عن يمين العرش، ثم يؤتى بي فأكسى حلة من الجنة لا يقوم لها البشر، ثم أوتى بكرسي فيطرح لي عن يمين العرش»(6).
          وهذا نص بأن إبراهيم أول من يكسى ثم نبينا بإخباره صلعم ، فطوبى ثم طوبى لمن يكسى في ذلك الوقت من ثياب الجنة، فإنه من لبسه فقد لبس جنة تقية مكاره المحشر وعرقه وحر الشمس وغير ذلك من أهواله.
          وعن عائشة ♦ قالت: سمعت رسولَ اللهِ صلعم يقول: «يُحشَرُ النَّاسُ يومَ القِيامَةِ حُفاةً عُراةً غُرْلاً» قلتُ: يا رسولَ اللهِ، الرِّجالُ والنساءُ جميعًا، ينظرُ بعضُهم بعضًا، قال: «يا عائشةُ، الأَمرُ أَشدُّ من أنْ يَنظُرَ بعضُهم إلى بعضٍ»(7).
          وروى الترمذي عن ابن عباس ☻ / أنَّ النَّبيَّ صلعم قال: «تُحشَرون حُفاةً عُراةً غُرْلاً» قالت امرأة: أَيُبصرُ بعضُنا، أو يَرى بعضُنا عَورةَ بعضٍ؟ قال: «يا فلانةُ، لِكُلِّ امرِىءٍ منهم يَومئذٍ شَأنٌ يُغنيهِ» قال حديث صحيح(8).
          وعن ابن عمر ☻ قال: قال رسولُ اللهِ صلعم : «مَن سَرَّه أنْ يَنظُرَ إليَّ يومَ القِيامَةِ، فَليَقرَأ: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ}[التكوير:1] و{إِذَا السَّمَاء انفَطَرَتْ} [الإنفطار:1] و{إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ} [الإنشقاق:1(9).
          قال القرطبي: وإنما كانت هذه السور الثلاث أخص بالقيامة لما فيها من انشقاق السماء وانفطارها، وتكوير شمسها وانكدار نجومها وتناثر كواكبها، إلى غير ذلك من أفزاعها وأهوالها(10).


[1] كذا في المخطوط، و في «طهارة القلوب»: «سبع».
[2] «صحيح» مسلم (2863) من حديث أبي هريرة ☺.
[3] «طهارة القلوب» للدريني ص 58 ـ 59.
[4] «الرقائق» (364).
[5] «المنهاج»1/446، وأخرجه ابن الجوزي في «الموضوعات» (947)، وانظر «التذكرة» ص 533.
[6] أخرجه البيهقي في «الأسماء والصفات» (839)، وانظر «التذكرة» ص 534.
[7] أخرجه البخاري (6527)، ومسلم (2859).
[8] «سنن» الترمذي (3332).
[9] أخرجه الترمذي (3333) وأحمد في «مسنده» 2/27 (4806)، وقال الترمذي: حديث حسن غريب.
[10] «التذكرة» ص 538ـ 539.