الكوكب المنير الساري في ختم صحيح البخاري

بيان الحشر وأرض المحشر

          فقد قال: {وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ} الآية [ق:41] قال أبو نُعيم: حدَّثنا أبي، قال: حدَّثنا [إسحاق، قال: حدَّثنا محمد، قال: حدَّثنا عبد الرزاق، قال: أخبرَنا](1) المُنذر بن النُّعمان أنه سمع وَهْبَ بنَ مُنبِّه يقول: قال الله تعالى لصخرة بيت المقدس: لَأَضعَنَّ عليكِ عَرشي، و لَأَحشُرنَّ عليكِ خَلقي، ولَيأتِيَنَّك يَومئذٍ داودُ راكبًا(2).
          قال بعض العلماء في قوله:{وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ} قال: إنه ملك قائم على صخرة بيت المقدس ينادي: أيتها العظام البالية والأوصال المنقطعة، و يا عظامًا نخرة، و يا أكفانًا بالية، و يا قلوبًا خاوية، و يا أبدانًا فاسدة، و يا عيونًا سائلة، قوموا للعرض على رب العالمين(3).
          قال قتادة: المنادي هو صاحب الصور ينادي من الصخرة من بيت المقدس(4).
          قال: كعب وهو أقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلاً(5)، وقيل باثني عشر ميلاً، ذكره القشيري، والأول ذكره الماوردي(6)، وقيل: المنادي جبريل ◙ (7).
          قال عكرمة يُنادي منادي الرحمن فكأنَّما ينادي في آذانهم{يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ} يريد النفخة في الصورة {ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ} {يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا} إلى المنادي صاحب الصور إلى بيت المقدس إلى أرض المحشر {ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ} [ق:42-44]أي هيِّن سهل(8).
          فإن قيل فإذا كانت الصيحة للخروج فكيف يسمعونها وهم أموات؟
          قيل: له إن نفخة الأحياء تمتد وتطول فيكون أوائلها للإحياء وما بعدها للإزعاج،[من القبور فلا يسمعون ما يكون للإحياء ويسمعون ما للإزعاج](9) ويحتمل أن تتطاول تلك النفخة والناس يحيون منها أولاً فأولاً، وكلما يحيى واحد سمع من يحيى به من بعده على أن يتكامل الجميع للخروج(10).
          وقد تقدم(11) أن الأرواح في الصُّور، فإذا نفخ فيه النفخة الثانية ذهب كل روح / إلى جسدها {فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ} أي: القبور {إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ} [يس:51] وهذا يؤيد ما ذكر.
          وقال محمد بن كعب القرظي(12) يحشر الناس يوم القيامة في ظلمة، وتطوى السماء وتتناثر النجوم، وتذهب الشمس والقمر، وينادي مناد فيتبع الناس الصوت يومئذ، فذلك قوله ╡ : {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ}(13) [طه:108].
          وقال تعالى:{إِذَا السَّمَاء انفَطَرَتْ. وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ. وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ} فجر عذبها في ملحها وملحها في عذبها، في تفسير قتادة {وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ} [الانفطار:4] أي: أخرجت ما فيها من الأموات(14).
          قال تعالى: {إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ. وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} سمعت وأطاعت وحقت، أي: وحق لها أن تفعل {وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ} مد الأديم، وهذا إذا بدلت بأرض بيضاء كأنها فضة لم يعمل عليها خطيئة قط {وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا} [الانشقاق:1-4]أي: من الأموات فصاروا على ظهرها(15).
          أخرج مسلم عن سهل بن سعد ☺ قال: قال رسول الله صلعم :«يُحشَرُ النَّاسُ يومَ القِيامَةِ على أَرضٍ بَيضاءَ عَفْراءَ كقُرصِ الفِضَّةِ(16) لَيسَ فيها عَلَمٌ لِأَحدٍ»(17).
          وخرَّج أبو بكر أحمد بن علي الخطيب، عن عبد الله بن مسعود ☺:يُحشر الناس يوم القيامة أجوعَ ما كانوا قطُّ، وأظمأَ ما كانوا قطُّ، وأَعرا ما كانوا قطَّ، وأنصَبَ ما كانوا قطَّ، فمن أَطعمَ للهِ أطعَمَه اللهُ، ومَن سَقَى للهِ سَقاهُ اللهُ، ومَن كَسَى للهِ كَساهُ اللهُ، ومَن عَمِلَ للهِ كَفاهُ اللهُ(18).
          وروي من حديث معاذ بن جبل ☺ قال: قلت: يا رسولَ اللهِ، أَرَأيتَ قولَ اللهِ ╡ : {يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا} [النبأ:18] قال النَّبيُّ صلعم : «يا مُعاذُ، لقد سَألتَ عن أمرٍ عَظيمٍ» ثم أرسل عَينيه بالبُكاءِ، ثم قال: «يُحشَرُ عَشَرةُ أَصنافٍ من أُمَّتي أَشْتاتًا، قد مَيَّزَهم اللهُ من جَماعاتِ المُسلمين وبدَّلَ صُوَرهم فمنهم على صُورة / القِرَدةِ، وبَعضُهم على صُورةِ الخَنازيرِ، وبَعضُهم مُنَكِّسينَ(19) أَرجُلَهم أَعلا وُجوهِهم يُسحَبونَ عليها، وبَعضُهم عُمْي يَتَردَّدون، وبَعضُهم صُمٌّ بُكمٌ لا يَعقِلونَ، وبَعضُهم يَمضَغونَ أَلسِنَتَهم وهي مُدلَّاةٌ على صُدورِهم يَسيلُ القَيحُ من أَفواهِهم لُعابًا يَقذَرُهم أَهلُ الجَمْعِ، وبَعضُهم مُقَطَّعةٌ أَيدِيهم وأَرجُلُهم، وبَعضُهم مُصَلَّبونَ على جُذوعٍ من النَّارِ، وبَعضُهم أَشدُّ نَتَنًا من الجِيَفِ، و[ببَعضُهم](20) يَلبَسونَ جَلابيبَ(21) سابِغَةٍ من القَطِرانِ.
          فأَمَّا الذينَ على صُورةِ القِرَدةِ فالقَتَّاتُ من النَّاسِ يَعني النَّمامَ، وأمَّا الذينَ على صُورةِ الخَنازيرِ فأَهلُ السُّحْتِ والحَرامِ والمَكْسِ، وأمَّا المُنَكِّسونَ رُؤوسَهم ووُجوهَهم فأَكَلَةُ الرِّبا، وأمَّا العُمْيُ فمَن يَجورُ في الحُكمِ، والصُّمُّ البُكمُ الذينَ يُعجَبونَ بأَعمالِهم، والذينَ يَمضَغُونَ أَلسِنَتَهم فالعُلَماءُ والقُصَّاصُ الذينَ يُخالِفُ قَولُهم فِعلَهم، والمُقَطَّعةُ أَيديهم وأَرجُلِهم فالذينَ يُؤذونَ الجِيرانَ، والمُصَلَّبونَ على جُذوعٍ من النَّارِ فالسُعاةُ بالنَّاسِ إلى السُّلطانِ، والذينَ هم أَشدُّ نَتَنًا من الجِيَفِ فالذينَ يَتَمَتَّعونَ باللَّذَّاتِ والشَّهَواتِ ويَمنَعونَ حَقَّ اللهِ من أَموالِهم، والذينَ يَلبَسونَ الجَلابيبَ(22) فأَهلُ الكِبرِ والفَخرِ والخُيَلاءِ»(23).


[1] ما بين معقوفين زيادة من «التذكرة».
[2] أخرجه أبو نعيم في «الحلية» 4/66، وانظر «التذكرة» ص 522.
[3] «التذكرة» ص 522.
[4] أخرجه ابن أبي الدنيا في «الأهوال» (75)، وانظر «التذكرة» ص 522.
[5] أخرجه عبد الرزاق في «تفسيره» 3/46، وانظر «التذكرة» ص 523.
[6] «النكت والعيون» 4/56، وانظر «التذكرة» ص 523.
[7] انظر «لتذكرة» ص 523.
[8] انظر «لتذكرة» ص 523.
[9] ما بين معقوفين زيادة من «التذكرة».
[10] «التذكرة» ص 523، وانظر «المنهاج» للحليمي 1/445.
[11] ما زال النقل عن التذكرة، وذكر الروح تقدم فيها ص 491 وليس في هذه الرسالة.
[12] في المخطوط: «القرطبي».
[13] أخرجه ابن أبي حاتم في «تفسيره» كما في «الدر المنثور» 5/599، وانظر «التذكره» ص 523.
[14] أخرجه الطبري في «تفسيره» 24/268، وانظر «التذكره» ص 524.
[15] انظر «التذكره» ص524.
[16] في «صحيح» مسلم، و«التذكرة» ص 524: «كقرصة النقي».
[17] «صحيح» مسلم (2790) «العفراء»: بيضاء الى حمرة، و «علم لأحد»:أي ليس بها علامة سكنى أو بناء ولا أثر.
[18] لم نقف عليه في أي من كتب الخطيب المطبوعة التي بين أيدينا، ولا عن ابن مسعود، وإنما أخرجه أحمد في «الزهد» (1092) من حديث عبد الله بن عمير، وانظر «التذكرة» 524.
[19] في المخطوط: «منكسون».
[20] ما بين معقوفين زيادة من «التذكرة».
[21] في المخطوط: «بجلابيب» والمثبت من «التذكرة».
[22] في المخطوط: «جلالبيب».
[23] أخرجه ابن مردويه كما في «الدر المنثور» 8/393، من حديث البراء بن عازب، عن معاذ ☻.