افتتاح القاري لصحيح البخاري

حجج القائلين بتفضيل صحيح البخاري

          والذي عليه الجمهور تفضيل جامع البخاريِّ على كتاب مسلمٍ، وممَّا يقوِّي ذلك أيضًا ويرجِّحه / أنَّ شرط البخاريِّ في ((صحيحه)) أخصُّ وأرجحُ من شرط مسلمٍ، فشرط البخاريِّ أن يكون الرَّاوي جمع بين العدالة والإتقان، وأن يكون عاصَر شيخه الذي روى عنه مع لقائه وثبوت سماعه منه.
          واشترط مسلمٌ المعاصرة ولم يشترط ثبوت السَّماع، وبالغ في الرَّدِّ على / مشترطه في ((مقدِّمة صحيحه))، وعلى هذا: كلُّ ما صحَّحه البخاريُّ يلزم إخراجه مسلمًا ولا ينعكس، ومن ثَمَّ ينفصل النِّزاع ويظهر ترجيح صحيح البخاريِّ على صحيح مسلمٍ.
          ومسلمٌ ☼ادَّعى الإجماع على ما شَرَطه، وأنكر اشتراط ثبوت اللِّقاء، فادَّعى أنَّه قولٌ مخترعٌ لم يُسبق قائله إليه، وذكر أنَّ القول الشَّائع المتَّفَق عليه بين أهل العلم بالأخبار والرِّوايات قديمًا وحديثًا أنَّه يكفي في ذلك أنْ يثبت كونهما في عصر واحد، وإنْ لم يأتِ في خبر أنَّهما اجتمعا أو تشافها. وهذا الذي ردَّه مسلمٌ صوَّبه المحقِّقون، وهو المختار الصَّحيح، وعليه أئِمَّة المحدِّثين، كعليِّ بن المَدينيِّ، والبخاريِّ، وغيرهِما من المتقدِّمين والمتأخِّرين./
          والبخاريُّ لم يشترط هذا الشَّرط إلَّا في هذا الكتاب؛ صيانةً له.
          وأمَّا ما قاله الإمام الشَّافعيُّ رحمة الله عليه فيما رواه أبو نُعيم أحمدُ بن عبد الله الحافظُ في كتابه ((حلية الأولياء)) فقال: حدَّثنا محمَّد بن إبراهيم ومحمَّد بن عبد الرَّحمن قالا: حدَّثنا محمَّد بن زَبَّان بن حبيب: سمعتُ الرَّبيع بن سليمان: سمعتُ الشَّافعيَّ يقول: (ما بعد كتاب الله أكثر صوابًا من موطَّأ مالكٍ).
          وحدَّث [به](1) أبو محمَّد عبدُ الله بن جعفر بن الورد، عن علي بن / محمَّد بن عبد الله الأنصاريِّ، حدَّثنا هارون بن سعيد: سمعت الشَّافعيَّ ☼يقول: (ما من كتاب أكثر صوابًا بعد كتاب الله تبارك وتعالى من كتاب مالكٍ)؛ يعني: ((الموطَّأ)).
          فهذا لا ينافي ما قاله الحافظ أبو عبد الرَّحمن النَّسائيُّ أنَّ ما في هذه الكتب كلِّها أجود من كتاب البخاريِّ، وقد تقدَّم؛ لأنَّ الشَّافعيَّ رحمة الله عليه إنَّما قال هذا قبل البخاريِّ ومسلمٍ، وكان في ذلك الوقت كتبٌ مصنَّفةٌ لجماعةٍ من أتباع / التَّابعين منهم: هشام بن حسَّان، وعبد الملك(2) بن عبد العزيز بن جريج، كان له مصنَّفان أحدهما في التَّفسير والآخر في السُّنَّة، وكان كذلك لسعيد بن أبي عَروبةَ، وصنَّف حمَّادُ بن سلمة مصنَّفاتٍ في الأبواب منها: كتاب ((المواريث)) وهو موجودٌ اليوم، [وكتاب ((أخبار بني إسرائيل)) لحمَّاد بن سلمة](3)، وقيل: إنَّ مالكًا ائتمَّ في تصنيفه الموطَّأ بمصنَّف حمَّاد [في الأبواب.
          وهو أوَّل كتاب وُضع في الفقه والحديث، فيما قاله أبو بكر بن محمد بن علي الأُدْفُويُّ النَّحْويُّ، وجزم أبو العباس أحمدُ بن عمر القرطبيُّ في كتابه ((مختصر صحيح البخاريِّ)) أنَّ أوَّل المصنِّفين تصنيفًا الإمام مالك بن أنس، وفيما جزم به نظر]
(4) وصنَّف عبد الله بن المبارك ((موطَّأ))، وكذا هُشيم وإبراهيم بن أبي يحيى وموطَّأُهُ كبيرٌ، وصنَّف وكيعُ بن الجرَّاح [كتاب ((الزُّهد)) وغيره، وصنَّف] الوليد بن مسلم كتُبًا، ويحيى بن زكريا بن أبي زائدة(5)، وصنَّف الأوزاعيُّ [((جامعًا))] والثَّوريُّ [((الجامع الكبير)) في الفقه والخلاف، رواه مصعب بن ماهان / عنه، وله ((الجامع الصَّغير)) في المسائل والخلاف، رواه عنه عُبيد الله بن موسى، وصنَّف سفيان] (6) بن عُيَيْنَةَ أيضًا ((الجامع)) [في ثمانية عشر جزءً] (7)، وكذا مَعمرُ بن راشد وعبد الرَّزَّاق، ثمَّ صنَّف نُعَيْمُ بن حمَّادٍ وسعيد بن منصورٍ وأبو بكر بن أبي شَيْبَةَ وغيرُهم.
          ومصنَّفات هؤلاء فيها مِن جنس ما في ((الموطَّأ)) من المسندَ والمرسل والموقوف وقول التَّابعيِّ وغير ذلك، ولا ريب أنَّ هذه الكتب لم يكن فيها أصحُّ من موطَّأ مالكٍ، ولا أكثرُ صوابًا منه، كما قال الشَّافعيُّ ☼، ولهذا اعتنى النَّاس به، [فجاء ((الموطَّأ)) من رواية أبي عبد الله الشَّافعيِّ، وعبدِ الله بن مَسْلَمة القعنبيِّ، وعبدِ الرَّحمن بن القاسم، وأبي مُصعبٍ أحمدَ بنِ أبي بكر، ويحيى بن بُكَيرٍ(8)، ومعن بن عيسى، وعبد الله بن يوسف التَّنِّيسيِّ، وعبد الله بن وهْبٍ، ويحيى بن يحيى اللَّيثيِّ، وسعيد بن كثير بن عُفَيرٍ، ومُطَرِّفِ بن عبد الله اليَسَاريِّ ابنِ أخت مالكٍ] (9)، ويوجد بالاستقراء أنَّ البخاري إذا كان عنده في / الباب حديثٌ مسندٌ لمالكٍ قدَّمه على غيره في ((صحيحه)).
          وبعد هذه المصنَّفات جرَّد العلماء المُسْنَدَ من حديث رسول الله صلعم فصنَّفوا المسانيدَ كمسند أبي محمَّدٍ عبيد الله بن موسى العَبْسيِّ، وأبي داودَ / سليمان بن داود الطَّيالسيِّ، وهما أوَّلُ مَن صنَّف المُسْنَدَ على تراجم الرِّجال في الإسلام، ومسند موسى بن طارقٍ أبي قُرَّة الزَّبيديِّ، وإسحاق بن راهُوْيَه، وأحمدَ بنِ حنبل، ومُسَدَّدِ بن مُسَرْهَد، وأحمدَ بنِ مَنيعٍ، وأبي(10) خَيْثَمَة زهيرِ بن حربٍ، وعبدِ الله بن عمر القواريريِّ، وأبي عبد الله الشَّافعيِّ، وغيرِهم.
          وبعد هذا صنَّف النَّاس أنواعًا من حديث النَّبيِّ صلعم، فصنَّف الحديثَ الصَّحيحَ مُجرَّدًا من غيره البخاريُّ ومسلمٌ، والبخاريُّ أوَّلُ مَن صنَّف ذلك، ولم نعلم أنَّ أحدًا تقدَّم البخاريَّ في جمع الصَّحيح، فإنَّه أوَّل من اعتنى بجمعه، وتَبِعَه بعد ذلك مسلمٌ.


[1] زيادة من (ب).
[2] في الأصل تصحيفًا: (عبد الله).
[3] ما بين معقوفين زيادة من النسخة الأصل، وليست في (ب) ولا المطبوع.
[4] ما بين معقوفين زيادة من النسخة الأصل، وليست في (ب) ولا المطبوع.
[5] في الأصل: (زائد).
[6] ما بين معقوفين زيادة من النسخة الأصل، وليست في (ب) ولا المطبوع.
[7] ما بين معقوفين زيادة من النسخة الأصل، وليست في (ب) ولا المطبوع.
[8] في الأصل تصحيفًا: (يحيى بن بكر).
[9] ما بين معقوفين زيادة من النسخة الأصل، وليست في (ب) ولا المطبوع.
[10] في الأصل تصحيفًا: (بن).