افتتاح القاري لصحيح البخاري

السنن النبوية هي وحي من الله تعالى

          أما بعدُ:
          فقد قال الله ╡: {لَقَدْ مَنَّ اللـهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [آل عمران:164].
          ذكر علماءُ التَّفسير وغيرُهُم أنَّ الحكمةَ هنا هي السُّنَنُ المَرْوِيَّةُ عن سيِّد الخَلْق مُحَمَّدٍ صلعم، قال الإمامُ أبو عبد الله نُعَيْمُ بن حمَّاد بن معاوية الخُزاعيُّ المَرْوزيُّ: حدَّثني محمَّد بن كثيرٍ، عن ليثٍ، عن مجاهدٍ، عن ابن عبَّاس ☻ في قوله تعالى: {الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [آل عمران:164] قال: (الكتاب والسُّنَّة).
          وقال الإمامُ أبو عبد الله/ محمَّدُ بن إدريس الشَّافعيُّ ☺ فيما بَلَغَنَا عنه في تفسير هذه الآية الشَّريفة، قال: (فسمعتُ مَن أَرْضى من أهلِ العلم بالقرآن يقول: الحكمةُ: سُنَّةُ رسول الله صلعم).
          وقال عبد الرَّزَّاق: أخبرنا مَعْمرٌ عن قتادةَ في قوله تعالى: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب:34]، قال: (القرآن والسَّنَّة).
          [وحدَّث به عبَّاسٌ النَّرْسِيُّ، عن يزيدَ بن زُرَيعٍ، عن سعيدٍ، عن قتادةَ، في قوله تعالى: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب:34]، قال: السُّنَّة] (1) /
          وقال تعالى في وَصْفِ صاحب الحِكْمَةِ والحِكَم، ومن أُوتي جوامع الكَلِم محمَّدٍ صلعم: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى*إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النَّجم:3-4].
          صَحَّ من حديث أيُّوبَ، عن عكرمةَ، عن ابن عبَّاسٍ ☻، قال: (قَرأَ النَّبيُّ صلعم فيما أُمِرَ، وسَكَتَ فيما أُمِرَ، {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم:64]).
          وفي بعض طُرُقِهِ: (قول النَّبيِّ صلعم فيما أُمر).
          وخرَّج/ الإمامُ الزَّاهدُ أبو الفتح نصرُ بن إبراهيم بن نَصْرٍ المقدسيُّ ☼في كتابه ((الحجَّة)) من طريق المعافى بن عمران، عن الأوزاعيِّ، عن أبي عبيد، عن القاسم بن مُخَيمِرة، عن ابن نُضَيْلَة، قال رسول الله صلعم: «لا يَسْأَلُني الله ╡ عن سُنَّةٍ أَحْدَثْتُها فيكم لَمْ يَأْمُرني الله ╡ بها».
          تابعه محمَّدُ بن كثيرٍ وأبو المغيرة عبد القدُّوس بن الحجَّاج الخولانيُّ وأيُّوبُ بن خالدٍ عن الأوزاعيِّ نحوَهُ، وفي الحديث قِصَّةٌ.
          رواه أبو بكر بن أبي عليٍّ فقال: أخبرنا القاضي أبو أحمدَ محمَّدُ بن أحمد بن إبراهيم: حدَّثنا أحمد بن هارون: حدَّثنا سليمان بن سيف: حدَّثنا / أيُّوب بن خالد: حدَّثنا الأوزاعيُّ: حدَّثني أبو عبيد حاجبُ سليمان بن عبد الملك: حدَّثنا القاسم بن مُخَيْمِرة: حدَّثني طلحة بن نُضَيْلةَ قال: قِيل لرسولِ الله صلعم: سَعِّرْ لَنَا يا رسول الله، فقال: «لا يَسْأَلُني الله ╡ عن سُنَّة أَحْدَثْتُها فيكم لم يَأْمُرني بها، ولكنْ سَلُوا الله من فَضْلِهِ».
          أبو عبيد مولى/ سليمان بن عبد الملك وحاجبه تابعيٌّ من ثقات الشَّاميين مختلَفٌ في اسمه، فقيل: حُيَيُّ، سمَّاه مسلمٌ في كتاب ((الكُنى))، وصدَّرَ به البخاريُّ في ((تاريخه الكبير))، وقال: (سمَّاه _أي هكذا_ عبدُ الله بن أبي الأسود)، ثمَّ قال: (قال عبد الحميد بن جعفر: حُوَيُّ).
          وابنُ نُضَيْلَة، ويقال: ابن نَضْلَة، اسمه: عبيد، وقيل: طلحة كما تقدَّم في رواية أيُّوبَ بنِ خالد، وهو الخزاعيُّ الأزديُّ أبو معاوية الكوفيُّ المقرئُ، اختُلِفَ في صُحبته فأثبتها جماعةٌ ونفاها آخرون، ولم يذكره البخاريُّ في ((تاريخه)) من(2) الصَّحابة، بل ذكره من (3) التَّابعين الذين رَوَوْا عن ابن مسعودٍ والمغيرة بن شعبة، وكذا ذكره مسلم في كتابه ((الكُنى)).
          والجمهورُ على أنه تابعيٌّ، وعلى هذا فالحديثُ مرسلٌ. /
          وحدَّث عيسى بن يونس بن أبي إسحاق السَّبيعيُّ الثِّقةُ المأمونُ، عن الأوزاعيِّ، عن حسَّان بن عطيَّة، قال: كانَ جبريلُ ◙ يَنْزِلُ على النَّبيِّ صلعم / بالسنَّة كما ينزل عليه بالقرآن يعلِّمه إيَّاها كما يعلِّمه القرآنَ.
          رواه علي بن خَشْرم ونُعَيمُ بن حمَّادٍ وغيرُهما عن عيسى.
          ورواه محمَّد بن إسحاق الصَّغاني، حدَّثنا رَوْحُ بن عبادة، حدَّثنا الأوزاعيُّ، فذكره بمثلِهِ.
          تابعهما أبو إسحاق الفَزَاريُّ وأبو يوسف محمَّدُ بن كثيرٍ المصِّيصيُّ عن الأوزاعيِّ نحوَه.
          والأحاديث والآثار في معنى ذلك جَمَّة، وقد قال البيهقيُّ في كتابه ((معارف السُّنن)): قال الشَّافعيُّ: وقيل: لمْ يَسُنَّ رسول الله صلعم شيئًا قطُّ إلَّا بوحي الله ╡، فمِنَ الوحي ما يُتْلَى، ومنه ما يكون وحيًا إلى رسول الله صلعم فَيُسْتَنُّ به. انتهى. /
          [قال مُصَنِّفُهُ ☼:] (4)
          فالسُّنَنُ النَّبويَّة هي وحيٌ من الله تعالى أيضًا، وعليها مدار الأحكام، وفيها معرفة أصول التَّوحيد، وذكر صفات ربِّ العالمين، وتنزيهه عن مقالات المُلْحدين، وفيها صفةُ الجِنَانِ، وما أعدَّ الله فيها للأبرار، ووصفُ النَّار، وما هَيَّأَ الله / فيها للفُجَّارِ، وما خلق الله تعالى في السَّموات والأرض من بديع المصنوعات، وعظيم الآيات، واختلاف أجناس المخلوقات من الملائكة والجنِّ والإنس وسائر البَريَّات، وفيها أنباء الأنبياء، وكرامات الأولياء، وقصص الأمم القدماء، وبيان مغازي رسول الله صلعم وسراياه، وبعوثه وكتبه، وأحكامه وأقضيته، ومواعظه ووصاياه، ومعجزاته وأيَّامه، وصفاته وأخلاقه وآدابه وأحواله إلى حين مماته، وذِكرُ أزواجه وأولاده وأصهاره وأصحابه، ونشر فضائلهم ومناقبهم وأقاويلهم في الشَّريعة، وفيها تفسير القرآن العظيم، وبيانٌ لأكثر الآيات المجملة فيه، وبها عُرِف الحلال و الحرام، والهُدى من الضَّلال، وما يحبُّه الله ويرضاه ويقرِّب إليه ويبعد عنه، غير ما فيها من الفوائد الظَّاهرة والخفية، والمعاني الشَّريفة التي لا توجد إلَّا فيها، وكيف لا؟ وهي كلام أفصحِ الخلقِ/ وحبيب الحقِّ، ومن أُعْطِي جوامع الكَلِمِ، وخُصَّ ببدائع الحِكَمِ صلعم.


[1] ما بين معقوفين سقط من المطبوع، وهو ثابت في المخطوطتين.
[2] في مخطوطة (ب): (في).
[3] في مخطوطة (ب): (في).
[4] زيادة من (ب)، وهي تدل على أن ناسخها نسخها بعد وفاة المصنف رحمه الله، وهو خلاف ما ادعاه مفهرس المخطوطة، وتابعه على ذلك المحقق، من أنها في حياة المصنف.