الناظر الصحيح على الجامع الصحيح

حديث: إن الله خير عبدًا بين الدنيا وبين ما عنده فاختار

          466- (إِنْ يَكُن): شرطٌ جزاؤُهُ محذوفٌ يدُلُّ عليه السِّياقُ، أو (إِنْ) هو بمعنى: إِذْ، / وفي بعضِها: (أَنْ) بفتحِ الهمزةِ.
          إنْ قلتَ: لِمَ جُزِمَ؟
          قلتُ: قال المالكيُّ في قوله صلعم: «لَنْ تُرَعْ، لَنْ تُرَعْ» [خ¦3738]: (فيه إشكالٌ ظاهرٌ؛ لأنَّ «لَنْ» يجبُ انتصابُ الفعلِ بعدَها، وقد وليَها _في هذا_ الكلامُ بصورةِ الجَزْمِ، والوجهُ فيه أنْ يُقالَ: سَكَّنَ عينَ «تُرَاعْ» للوقفِ، ثمَّ شُبِّه(1) بسكونِ الجَزْمِ فحَذَفَ الألفَ قبلَه كما تُحذَفُ قبلَ سكونِ المجزومِ، ثمَّ أَجْرى الوصلَ مُجرى الوقفِ)، فيُوجَّه فيما نحنُ فيه مِثْلَه، انتهى.
          وقال ابنُ التِّينِ: (رويناه بكسرِ همزةِ «إِنْ» على أنَّه شرطٌ، ويصحُّ فتحُها، ويكونُ [«يكن»] منصوبًا بـــ«أنْ» فيكونُ المعنى: ما يُبكيه؛ لأجلِ أنْ يكونَ اللهُ تعالى خَيَّر عبدًا؟).
          (هُوَ الْعَبْدَ): بالنَّصبِ خبر (كَانَ)، ويجوزُ الرَّفعُ، وسيأتي توجيهُه.
          وقد قرأَ العامَّةُ قولَه تعالى: {اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـذَا هُوَ الْحَقَّ} [الأنفال:32] بنصبِ {الْحَقَّ}، وهو خبرُ الكونِ، و{هُوَ} فصلٌ.
          وقال الأخفشُ: {هُوَ} زائدةٌ، ومرادُه ما تقدَّم مِن كونِها فَصْلًا. /
          وقرأَ الأعمشُ وزيدُ بنُ عليٍّ برفعِ ▬الحقُّ↨، ووجْهُه ظاهرٌ، برفعِ {هُوَ} بالابتداءِ، و▬الحَقُّ↨: خبرُه، والجملةُ خبرُ الكونِ، كقولِ الشاعرِ: [من الطويل]
تَحِنُّ إِلَى لَيْلَى وَأَنْتَ تَرَكْتَهَا                     وَكُنْتَ عَلَيْهَا بِالمَلَا أَنْتَ قَادِرُ
          وهي لغةُ تميمٍ.
          وقالَ ابنُ عطيَّة: (ويجوزُ في العربيَّةِ رفعُ ▬الحَقُّ↨ على خبرِ {هُوَ}، والجملةُ خبرٌ لـــ{كَانَ}).
          وقال الزَّجَّاجُ: (ولا أعلمُ أحدًا قَرَأَ بهذا الجائزِ).
          قال السَّمينُ: (قلتُ: قد ظهرَ مَنْ قَرَأَ به(2)، وهما رجلانِ جليلانِ).
          (أَعْلَمَنَا): خبرُ (كَانَ).
          (لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا): (اتَّخَذَ): يَتَعدَّى إلى مفعولينِ، أحدُهما بحرفِ الجرِّ، فيكونُ بمعنى: اختارَ واصطفى، وهنا سكتَ عن أحدِ مفعولَيها، وهو الَّذي دخلَ عليه حرفُ الجرِّ، فكأنَّه قال: لو كنتُ متَّخذًا مِنَ النَّاسِ خليلًا، لاتَّخذْتُ منهم / أبا بكرٍ، وقد يَتَعدَّى (اتَّخَذَ) لأحدِ المفعولَينِ بحرفِ الجرِّ، وقد يَتعدَّى[25أ] لمفعولٍ واحدٍ، وكلُّ ذلك في القرآنِ.
          (وَلَكِنْ أُخُوَّةُ الْإِسْلَامِ): وللأصيليِّ: (خُوَّةُ) بحذفِ الهمزةِ، توجيهُهُ أنْ يُقال: نُقِلَتْ حركةُ الهمزةِ إلى النُّونِ، وحُذِفتِ الهمزةُ فصار: ([وَلَكِنُ] خُوَّةُ)، فعَرَضَ بعدَ ذلكَ استثقالُ ضمَّةٍ بينَ كسرةٍ وضمَّةٍ، فسُكِّنَتِ النُّونُ تخفيفًا فصارَ: (وَلَكِنْ خُوَّةُ)، وسكونُ النُّونِ بعدَ هذا العملِ غيرُ سكونِه الأصليِّ.
          قال المالكيُّ: (الحاصلُ فيه ثلاثة: سكونُ النُّون وثبوتُ الهمزة بعدَها مضمومةً، وضمُّ النُّون وحذفُ الهمزة، وسكونُ النُّون وحذفُ الهمزة فالأوَّل: أصلٌ، والثَّاني: فرعٌ، والثَّالث: فرعُ فرعٍ)، و(أُخُوَّةُ): مبتدأٌ، وخبرُه محذوفٌ وهو (أفضلُ)، انتهى.
          وقال ابنُ التِّين: (رويناهُ بغيرِ همزةٍ، ولا أصلَ لهذا).
          وقال ابنُ بطَّالٍ: (ولا أعرفُ معناهُ).
          (يَبْقَيَنَّ): بالنُّونِ المشدَّدةِ.
          (إِلَّا سُدَّ): إنْ قلتَ: الفعلُ ههنا وَقَعَ مستثنًى ومستثنًى منه، فكيف ذلك؟
          قلتُ: التَّقديرُ: إِلَّا بابًا سُدَّ، و(البابُ) الموصوفُ المحذوفُ هو المستثنى أوَّلًا، والمستثنى منه ثانيًا، أو هو مستثنًى مفرَّغٌ، تقديرُه: لا يَبْقَينَّ بابٌ بوجهٍ مِنَ / الوُجوهِ إِلَّا بوجهِ السَّدِّ إِلَّا بابه، وحاصلُه: لا يَبقينَّ بابٌ غيرُ مسدودٍ إلَّا بابه، والله أعلم.
          (إِلَّا بَابَ): قال والدي ☼: (منصوبٌ على الاستثناءِ) انتهى كلامُه هنا.
          وقال في (مناقبِ أبي بكرٍ): (يجوزُ فيه النَّصبُ والرَّفعُ، وهما ظاهرانِ) انتهى.
          وقال الزَّركشيُّ: (بالنَّصب والرَّفع).
          واعلم أنَّه إنْ كانَ الكلامُ غيرَ موجَبٍ؛ فإنْ كانَ الاستثناءُ متَّصلًا؛ فالأرجحُ إتْبَاعُ المستثنى للمستثنى منه بدلَ بعضٍ عندَ البصريِّينَ، وعطفَ نَسَقٍ عندَ الكوفيِّينَ، نحو: {مَا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ} [النساء:66]، {وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ} [هود:81]، {وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ} [الحجر:56]، والنَّصبُ عربيٌّ جيِّدٌ، وقد قُرِئَ به في السَّبعِ في: {قَلِيلٌ}، و{امْرَأَتَكَ}، والله أعلم. /


[1] هكذا في النسختين، ولعل الأولى: (شَبَّهَهُ) كما في مصدره.
[2] في (ب): (بهما).