مطلع النيرين المختصر من الصحيحين

معاوية بن أبي سفيان

          مُعاويةُ بنُ أبي سُفيانَ ☻.
          وأمُّه: هِندُ بنتُ عُتبةَ بنِ ربيعةَ، يُكْنى: أبا عبدِ الرَّحمنِ، كانَ هو وأخوه وأبوه من مُسلِمةِ الفتحِ، ورُويَ عنه أنَّهُ قالَ: لمَّا كانَ عامُ الحُدَيبيَةِ وكتَبُوا القَضْيَةَ وقَعَ الإسلامُ في قلبي، فذكَرتُ ذلك لأمِّي، فقالت: إيَّاكَ أن تُخالِفَ أباك فيَقطَعَ عنك القُوتَ، فأسلَمتُ وأخفَيتُ إسلامي، ودخَلَ رسول الله صلعم عامَ القَضْيةِ مكةَ، ودخَلَ مكَّةَ عامَ الفَتحِ، فأظهَرتُ إسلامي ولقِيتُه، فرحَّبَ بي، وأسلَمَ معاويةُ وهو ابنُ ثماني عشْرةَ سنةً.
          وكان أبيضَ طَويلاً أخلَجَ، أصابَتْه لَقْوةٌ آخِرَ عمُرِه، وأبوه من المؤلَّفةِ قلوبُهم، ومعاويةُ أحَدُ الذين كتَبُوا لرسولِ اللهِ صلعم.
          وولَّاه عمرُ على الشامِ عندَ موتِ أخيه يزيدَ بنِ أبي سُفيانَ، وفتَحَ مُعاويةُ قيساريَّة سنةَ تسعَ عشْرةَ، ولمَّا ماتَ يَزيدُ أخُوه كتَبَ عمرُ إلى معاويةَ بوِلايتِهِ، فأقامَ أربعَ سنينَ، وماتَ عمرُ فأقَرَّه عثمَانُ عليها اثنتَي عشْرةَ سنةً إلى أن ماتَ، ثمَّ كانَتِ الفِتنةُ، فحاربُ مُعاويةُ عليًّا خمسَ سنينَ.
          وقالَ عمرُ في حقِّه لمَّا دخَلَ الشَّامَ ورأى معاويةَ: هذا كِسْرى العَرَبِ، وكانَ قَد تلَقَّاه مُعاويةُ في مَوكِبٍ عَظِيمٍ، فلمَّا دنَا منه قالَ: أينَ صَاحِبُ المَوكِبِ العَظِيمِ؟ قالَ: نعم يا أميرَ المؤمنين، قالَ: مع ما يبلُغُني من وقوفِ ذوي الحاجاتِ؟ قالَ: مع ما يَبلُغُك من ذلك، قالَ: ولمَ تفعَلُ هذا؟ قالَ: نحنُ بأرضٍ جَواسيسُ العدوِّ بها كثيرٌ، فيجِبُ أن نُظهِرُ من عزِّ السُّلطانِ ما نُرهِبُهم به، فإن أمَرتَني فعَلتُ، وإن نهَيتَني انتَهَيتُ، فقالَ عمرُ: يا معاويةُ؛ ما أسألُكَ عن شَيءٍ إلا تركتَني في مثلِ رواجِبِ الضِّرسِ، لئِنْ كانَ ما قُلتَ حقًّا إنَّه لَرأيٌ أريَبُ، وإن كانَ ما قلتَ باطِلاً إنَّها لَخُدعةُ أديبٍ، قالَ: فمُرْني يا أميرَ المؤمنينَ، قالَ: لا آمُرُك ولا أنهاك، فقالَ عَمرٌو: يا أميرَ المؤمنين؛ ما أحسَنَ ما صدَر الفتى عمَّا أورَدتَه فيه! قالَ: بحُسنِ مَصادِرِه ومَوارِدِه جشَّمْناه ما جشَّمْناه.
          وقيل: ذُمَّ معاويةُ عندَ عمرَ، فقالَ: دعُونا من ذمِّ فتى قُريشٍ، مَنْ يَضحَكُ في الغضَبِ، ولا يُنالُ ما عندَه إلا على الرِّضا، ولا يؤخَذُ ما فوقَ رأسِه إلا تحتَ قدَمَيه.
          ورُويَ عن ابنِ عمرَ قالَ: ما رأيتُ أحداً بعد رسولِ اللهِ صلعم أسوَدَ من ابنِ مُعاويةَ، فقيلَ له: وأبو بكرٍ وعمرُ وعثمانُ وعليٌّ؟ فقال: كانوا واللهِ خَيراً من معاويةَ وأفضلَ، وكانَ مُعاويةُ أسوَدَ منهم، وكانَ مُعاويةُ أميراً بالشامِ نحواً من عِشرينَ سَنةً، وخَليفةً بعد ذلك، وبايَعَ له أهلُ الشامِ خاصَّةً بالخِلافةِ سنةَ ثَمانٍ أو تِسعٍ وثلاثين، واجتَمَعَ عليه الناسُ حينَ بايَعَ له الحسَنُ بنُ عليٍّ وجَماعةُ مَنْ معَه، وذلك في جُمادى سنةَ إحدى وأربعين، فسُمِّيَ عامَ الجَماعةِ.
          ورُويَ أنَّه لمَّا حضَرَتْه الوَفاةُ قالَ لابنِه يَزيدَ: يا بُنيَّ؛ إنِّي صَحِبتُ رسولَ اللهِ صلعم، فخرَجَ لحاجَتِه، فأتبَعتُه بإداوةٍ، فكَسَاني أحَدَ ثَوبَيه الذي كانَ على جِلدِه، فخبَّأتُه لهذا اليومِ، وأخَذَ رسُولُ اللهِ صلعم من أظفَارِه وشَعرِه، فخبَّأتُه لهذا اليومِ، فإذا أنا مُتُّ فاجعَلْ ذلك القَميصَ دونَ كفَني ممَّا يلي جِلدي، وخُذْ ذلك الشَّعرَ والأظفارَ فاجعَلْه في فمي وعلى عَيني ومَواضِعِ السُّجُودِ منِّي، فإنْ يقَعْ شَيءٌ فذاك، وإلا فإنَّ اللهَ غفورٌ رحيمٌ.
          وهو أولُ مَن جعَلَ ابنهُ وليَّ عَهدِه، وأوَّلُ مَنِ اتَّخذَ المقَاصِيرَ في الجَوامِعِ، وأولُ مَنْ أقامَ على رأسِه حَرَساً، وأولُ مَنْ قُيِّدَتْ بينَ يدَيه الجنائبُ، وأوَّلُ مَنِ اتَّخذَ الخِصيانَ في الإسلامِ، وأوَّلُ مَنْ بلَغَ درَجاتِ المِنبَرِ خمسَ عشْرةَ مِرقاةً، وكانَ يقولُ: أنا أوَّلُ الملوكِ.
          ورُويَ عنه أنَّهُ كانَ يُصفِّرُ لِحيَتَه كأنَّها الذَّهبُ، وقال: لقد نتَفتُ الشَّيبَ كذا وكذا سَنةً، وروى عِرباضُ بنُ ساريةَ قالَ: سمِعتُ رسُولَ اللهِ صلعم يقولُ: ((اللَّهمَّ علِّمْ مُعاويةَ الكِتابَ والحِسابَ وقِهِ العَذابَ)).
          وقالَ معاويةُ: أُعِنتُ على عليٍّ بثَلاثٍ؛ كانَ رجُلاً ربَّما أظهَرَ سِرَّه، وكنتُ كَتُوماً لسِرِّي، وكانَ في أخبَثِ جُندٍ وأشَدِّه خِلافاً علَيه، وكنتُ في أطوَعِ جُندٍ وأقَلِّه خِلافاً عليَّ، وكنتُ أحبَّ إلى قُريشٍ منه لأنِّي كنتُ أُعطِيهُم وكان يمنَعُهُم، وكانَ مُعاويةُ...(1) .
          توفِّيَ ☼ في نصْفٍ من رجَبٍ بدِمَشقَ سنةَ ستِّينَ وهو ابنُ ثماني وسَبعينَ سنةً، ودُفنَ بدِمَشقَ، وكانَ يتَمثَّلُ وقدِ احتَضرَ:
فهل من خالِدٍ أم هلَكْنا                     وهلْ بالموتِ يا للنَّاسِ عَارُ(2)


[1] في الأصل طمس لم أتبينه.
[2] من قوله: ((وأمه هند... إلى قوله: ...للناس عار)): ليس في (ز) و(ف).