التعديل والتجريح

باب ذكر أسانيد متفق على إطراحها

          (بابُ ذِكْرِ أسانيدَ متَّفقٍ على إطراحِهَا)
          وإذ قد تقدَّم قولنا في الجرحِ والتَّعديل فنذكر من الأسانيدِ ما اتُّفِقَ على طرحِهِ، / ونذكرُ ما اتُّفِقَ على صحَّتِهِ ووجوبِ الأخذ به ؛ ليكونَ عونًا للناظر في السَّقيمِ والصحيح.
           فمِمَّا اتُّفِقَ على إطراحِهِ وتركهِ: ما روى معمرٌ عن أبانَ بن أبي عيَّاشٍ عن أنسٍ، والعلةُ في ذلك من أبانَ بن أبي عيَّاشٍ، قال شعبة: لأن أَزْنِي أحبُّ إلي من أن أروي عن أبانَ بن أبي عيَّاشٍ.
          ومن ذلك ما رواهُ الشافعيُّ وعبدُ الرَّزَّاقِ عن إبراهيمِ بن أبي يحيى، عن هشامِ بن عروةَ، عن أبيه، عن عائشة، والعِلَّةُ في ذلكَ من إبراهيم بن أبي يحيى، كان مالكٌ وابنُ المبارك ينهيان عنه، وتركه يحيى القطَّانُ وابن مهديٍّ وغيرهما، وقال يحيى بن سعيدٍ القطَّانُ: لم نتركْ إبراهيمَ بن أبي يحيى للقدرِ، وإنما تركناهُ للكذبِ.
          وقال يحيى بن مَعِيْنٍ: كان كذَّابًا رافضيًا قدريًّا.
          قال أبو حاتمِ بن حِبَّانَ: حدَّثنا محمدُ بن سليمانَ بن فراسٍ، قال: جاءَ رِشْدِيْنُ بن سعدٍ إلى إبراهيم بن أبي يحيى ومعه كتبٌ قد حمله في كِسائه، فقال لإبراهيمَ: هذه كتبك وحديثُك أرويها عنكَ، قال: نعم، قال: بلغني أنك رجلُ سوءٍ فاتَّقِ اللهَ وتُبْ إليه، قال: فإن كنتُ رجل سوءٍ فلأي شيء تأخذ عني الحديثَ، قال: ألم يبلغكَ أنه يذهبُ العلم وتبقى منه بقايا في أوعيةِ سوء؟ فأنت من أوعيةِ السُّوءِ.
          ومن ذلكَ ما يرويه إبراهيمُ بن هُدْبَةَ عن أنسِ بن مالكٍ عن النَّبي صلعم ، والعِلَّةُ في ذلك من قبل إبراهيم بن هُدْبَةَ فهو كذَّابٌ.
          ومن ذلك ما رواهُ أحمدُ بن عبدِ الله بن خالدٍ أبو عليٍّ الشَّيبانيُّ الجُوباريُّ الهرويُّ عن سفيانَ بن عُيينةَ ومالك وغيرهِما من الثِّقاتِ الأئمة، والعلةُ في ذلك من أحمد بن عبد الله الجُوباريُّ فإنه كذَّابٌ.
          وقال أبو حاتِمِ بن حِبَّانَ: وُضِعَ على النَّبي صلعم نحو ثلاثينَ ألفَ حديثٍ، ومن ذلكَ ما رواهُ محمد بن عبد الرَّحمن بن البَيْلَمَانِيِّ عن أبيه عن ابن عمر، فإنها كلها نسخةٌ موضوعةٌ والعلَّةُ في ذلك من محمد بن عبدِ الرَّحمن.
          ومن ذلك ما يرويه مقاتلُ بن سليمانَ الخُراسانيُّ فإنه كذَّابٌ، كان يَسْأَلُ أهلَ الكتابِ من اليهودِ والنَّصارى، ويُفَسِّرُ بذلك القرآنَ وهو مشهورٌ بالكذبِ والاختلاق.
          ومن ذلك ما رواهُ محمَّدُ بن سعيدِ بن أبي قيسٍ المصلوبُ، فإنه كان يضعُ على الثِّقات ويحدِّثُ عنهم بما ليسَ بحديثهم، رُوِيَ عنهُ أنه قال: إني لأسمع الكلمةَ الحسنة فلا أرى بأسًا أن أُحْدِثَ لها إسنادًا.
          وقد رُوِيَ عن / أحمدِ بن حنبلٍ أنه قال: المشهورونَ بالكذبِ على رسول الله صلعم أربعةٌ: مُقاتلُ بن سليمانَ وإبراهيمُ بن أبي يحيى وأحمدُ بن عبد الله الجُوباريُّ ومحمَّد بن سعيدٍ الشَّاميُّ المصلوبُ.
          فهذا الصنفُ مما يجب رَدُّهُ من الحديث لجرحَةِ ناقِلِهِ، وقد يَنْقُلُ الحديثَ ثقةٌ عن ثقة وهو ضعيفٌ، أمَّا الإرسالُ دخلهُ لأن النَّاقلَ لم يأخذ عن المنقولِ عنه وإن كان عاصره، مثل أن يروي الحسن عن أبي هريرةَ فإنه ليس بصحيحٍ؛ لأنه لم يأخذْ عنه شيئًا وإن كان قد عاصرَهُ، ومثل أن يروي سعيدُ بن أبي عَروبةَ عن يحيى بن سعيد الأنصاري وعبيد الله بن عمر العمريِّ أو زيد بن أسلم أو أبي الزِّناد، فإن هذا كله غيرُ صحيح فإنه لم يأخذ عن أحدٍ منهم وقد حدَّث عنهم، وقد يكون ذلك لتدليسٍ بإسقاطِ رجلٍ ضعيف من السَّندِ مثل ما كان يفعلُهُ بَقِيَّةُ بن الوليدِ، فإنه قد سمعَ من مالكٍ ومن عبيد الله بن عمر ومن شعبة، وسمع من جماعةٍ من الضُّعفاء عنهم، فيروي الرُّواةُ عنه من تلك ويُسقطونَ ذكرَ الضعفاءِ بين بقيَّةَ ومالك وعبيد الله وشعبةَ، فَيَتَّصِلُ الخبرُ من رواية الثِّقةِ عن الثِّقةِ؛ ولذلك قال عليُّ بن المدينيِّ: روى بقيةُ عن عبيد اللهِ بن عمر أحاديث منكرةً، وقد يكونُ ذلك من وجه آخرَ، وهو أن يروي العدلُ الحديثَ عن رجلٍ عن آخر، ويُسَمَّى الذي روى عنه الحديثَ باسم يشتركُ فيه عدلٌ وضعيفٌ، والذي يروي الحديثَ يروي عنهما، والذي انتهت الروايةُ إليه يروي عنه العدلُ والضَّعيفُ، وذلكَ مثل أن يروي وكيعٌ عن النَّضرِ عن عكرمة، ووكيعٌ يروي عن النَّضر بن عربي وهو لا بأس به، ويروي عن النَّضر الخزَّازِ وهو ضعيفٌ، وهما يرويان عن عكرمةَ فيحتاجُ النَّاظر في ذلك إلى أن يعرف ما ينفرد به النَّضر بن عربيٍّ عن عكرمة، وما يشتركان في روايته، وإلى أن يُعْرَفَ ما يرويه وكيعٌ عن النَّضر بن عربي وما يرويه عن النَّضرِ الخزَّازِ، مثلُ ما يرويه الوليدُ بن مسلم عن أبي عمرو عن الزُّهريِّ، فيُوهِمُ أنه أرادَ به الأوزاعيَّ، وإنما أرادَ عبدَ الرَّحمن بن يزيدَ بن تميمٍ، وهما جميعًا قد سمعا من الزُّهريِّ، والوليدُ بن مسلمٍ قد سمع منهما، والأوزاعيُّ ثقةٌ وعبدُ الرَّحمن بن يزيد ضعيفٌ.
          وقد يكونُ الحديثُ يرويه الثِّقةُ، ولا يكونُ صحيحًا لعلةٍ دخلته من جهةِ غلط الثِّقةِ فيه، وهذه الوجوهُ كلها لا يعرفها إلا من كان من أهلِ العلم بهذا الشأنِ، وتتبُّعِ طرق الحديثِ واختلاف الرواة فيهِ، وعرفَ الأسماء والكنى، ومن فاتته الروايةُ عمَّن عاصره ومن لم تفتْهُ الروايةُ عنه، ومن كان من شأنه التَّدليسُ ومن لم يكن ذاكمن شأنه، والله أعلم بالصواب. /