التعديل والتجريح

باب في ذكر تأليفه للكتاب الجامع

          (بابٌ في ذكرِ تأليفِهِ للكتابِ الجامعِ وحكمِ الكتابِ ومعناهُ)
          قال الحاكمُ أبو عبدِ الله: حدَّثُوْنَا عن محمَّدِ بن إسماعيلَ أنه قالَ: كنت على باب إسحاقَ بن إبراهيمَ بنيسابورَ فسمعت أصحابنا يقولونَ: لو جَمَعَ جامعٌ مختصرٌ صحيحَ الحديثِ تُعْرَفُ به الآثارُ، فأخذتُ في جمع هذا الكتابِ، وقال أبو أحمد بن عَدِيٍّ: سمعتُ الحسنَ بن الحسينِ البزازُّ يقول: سمعتُ إبراهيم بن مَعْقِلٍ يقولُ: سمعت محمَّدَ بن إسماعيلَ البخاريَّ يقول: ما أدخلتُ في هذا الكتابِ _يعني جامعه الصحيح_ إلا ما صحَّ وتركت من الصِّحاحِ حتى لا يطولَ الكتابُ، وإنما أدخلتُ هذه الحكايةَ؛ لئلا يعتقد من لا يُحْسِنُ هذا الباب أن ما ليسَ في الصحيحين ليس بصحيحٍ، بل قد تصحُّ أحاديثٌ ليست في صحيحي البخاريِّ ومسلمٍ، ولذلك قد خَرَّجَ الشيخُ أبو الحسن الدَّارقطنيُّ والشيخُ أبو ذرٍّ الهرويُّ في «كتابِ الإلزاماتِ من الصحيحِ» ما ألزماهُمَا إخراجَهُ.
          وكما أنه قد وُجِدَ في الكتابين ما فيه الوهمُ، وأخرجَ ذلك الشَّيخُ أبو الحسن وجمعَهُ في جزءٍ، وإنما ذلك بحسب الاجتهادِ، فمن كان من أهلِ الاجتهادِ والعلم بهذا الشأنِ، لَزِمَهُ أن ينظر في صحَّةِ الحديث وسَقَمِهِ بمثل ما نَظرا، ومن لم / يكن تلكَ حالُهُ، لزمَهُ تقليدُهما في ما ادَّعيا صحَّتَهُ، والتوقفُ فيما لم يُخرجا في الصَّحيح، وقد أخرجَ البخاريُّ أحاديث اعتقدَ صحتها، تركها مسلم لما اعتقدَ فيها غير ذلك، وأخرج مسلمٌ أحاديثَ اعتقدَ صحتها تركها البخاري لما اعتقدَ فيها غير مُعْتَقَدِهِ، وهو يدلُّ على أن الأمر طريقهُ الاجتهاد ممن كان من أهل العلمِ بهذا الشَّأنِ، وقليلٌ مَا هُمْ.
          وقال أبو أحمد بن عَدِيٍّ: سمعتُ عبد القُدُّوسِ بن همَّام يقولُ: سمعتُ عدَّةً من المشايخِ يقولونَ: دوَّن محمدُ بن إسماعيل البخاريُّ تراجمَ جامعِهِ بين قبرِ النَّبي صلعم ومنبرِهِ، وكان يُصلي لكل ترجمةٍ ركعتين.
          وقد أخبرنا أبو ذرٍّ عبدُ بن أحمد الهرويُّ الحافظُ ☼ : حدَّثنا أبو إسحاقَ المُستمليُّ إبراهيمُ بن أحمد قال: انتسختُ كتاب البخاريِّ من أصله، كان عند محمدِ بن يوسف الفِرَبْرِيِّ، فرأيته لم يتمَّ بعدُ وقد بقيت عليه مواضعُ مُبَيَّضَةٌ كثيرةٌ، منها تراجمُ لم يثبتْ بعدها شيئًا ومنها أحاديثُ لم يترجمْ عليها، فأضفنا بعضَ ذلك إلى بعضٍ، ومما يدلُّ على صحَّةِ هذا القول، أن روايةَ أبي إسحاقَ وروايةَ أبي محمَّد وروايةَ أبي الهيثم وروايةَ أبي زيد، وقد نسخوا من أصلٍ واحدٍ فيها التَّقديمُ والتأخير، وإنما ذلكَ بحسب ما قَدِرَ كلُّ واحدٍ منهم في ما كان في طُرَّةٍ أو رُقعةٍ مُضافةٍ أنه من موضعٍ ما فأضافهُ إليه، ويبينُ ذلك أنك تجدُ ترجمتين وأكثر من ذلك متَّصلةً ليس بينها أحاديثٌ.
          وإنما أوردتُ هذا لما عُنِيَ به أهلُ بلدنا عن طلبِ معنىً يجمع بين التَّرجمةِ والحديثِ الذي يليها، وتَكَلُّفُهُمْ في تَعَسُّفِ التَّأويلِ ما لا يسوغُ، ومحمَّدُ بن إسماعيلَ البخاريُّ ☼ وإن كان من أعلمِ النَّاسِ بصحيحِ الحديث وسَقيمهِ، فليس ذلك من علمِ المعاني وتحقيقِ الألفاظِ وتمييزها بسبيلٍ، فكيف وقد روى أبو إسحاقَ العلةَ في ذلك وبَيَّنَهَا أن الحديثَ الذي يلي الترجمةَ ليس بموضوعٍ لها، ليأتي قبل ذلكَ بترجمته، ويأتي بالترجمة التي قبلهُ من الحديث بما يليقُ بها.