التعديل والتجريح

باب معرفة الجرح والتعديل

          (بابُ معرفةِ الجرحِ والتَّعديلِ)
          أحوالُ المحدثينَ في الجرحِ والتَّعديلِ مما يُدْرَكُ بالاجتهادِ ويُعلمُ بضربٍ من النَّظر، ووجهُ ذلك أن الإنسانَ إذا جالس الرجلَ، وتكررتْ مُحادثتهُ له وإخبارهُ إيَّاهُ بمثل ما يُخبر، قاسَ عن المعاني التي يُخبر عنها تَحَقَّقَ صِدْقُهُ، وحكمَ بتصديقهِ، فإن اتفقَ له أن يُخبر في يوم من الأيَّام، أو وقتٍ من الأوقاتِ بخلاف ما يُخبرُ الناسَ عن ذلك المعنى، أو بخلاف ما عَلم منه المُخْبِرُ اعتقدَ فيه الوهمَ والغلط، ولم يخرجه ذلك عندهُ عن رُتبةِ الصدقِ الذي ثبتَ من حالِهِ وعُهِدَ من خبرِهِ، وإذا أكثرت مجالسة آخرَ وكثرتْ محادثتهُ لكَ، فلا يكاد أن يخبرك بشيءٍ إلا ويخبركَ أهل الثِّقةِ والعدالةِ عن ذلكَ المعنى بخلافِ ما أخبركَ به، غلبَ على ظنِّك كثرةَ غلطهِ وقلة استثباتهِ واضطرابُ أقوالِهِ وقلَّةَ صدقِهِ، ثم بعد ذلكَ قد تبيَّنَ لك من حاله العمدُ أو الغلطُ وبحسب ذلك تَحْكُمُ في أمره؛ فمن كان في أحدِ هذين الطَّرفين لا يختلف في جرحه أو تعديله، ومن كان بين الأمرين مثل أن يوجد منه الخطأُ والإصابةُ وقع التَّرجُّحُ فيه، وعلى حسب قلَّةِ أحد الأمرينِ منه وكثرةِ / الآخرِ يكون الحكمُ فيه فكذلك المحدِّثُ إذا حدَّثكَ عن الزُّهريِّ مثل زمعةَ بن صالحٍ أو صالحُ بن أبي الأخضرِ(1) أو محمدُ بن إسحاقَ، وحدَّثكَ عنه بذلك الحديثِ مالكٌ وعبيدُ الله بن عمر ومعمرٌ وسفيانُ بن عُيينةَ، ومن أشبَهَهم من الأئمة الحفَّاظ المتقنين الذين عُلم حفظُهم حديثَ الزُّهريِّ وإتقانَهم له، واتَّفقوا على خلاف ما حدَّثَ به أو خالفهُ أحد هؤلاء الأئمة، وكَثُرَ ذلك، فإنه يُحكم بضعفهِ واضطراب حديثه وكثرةِ خطاياهُ، فإن انضاف إلى ذلك أن ينفردَ بالأحاديث المناكيرِ من مثل الزُّهريِّ، وكثرَ ذلك منه خرج إلى أن يُقالَ فيهِ: مُنكرُ الحديثِ متروك الحديث، وربما كثرَ ذلك منه حتى يتبيَّنَ تعمُّدُهُ فيُنسبُ إلى الكذب.
          وإذا رأيتهُ لا يخالفُ هؤلاءِ الأئمة المتقنينَ الحفَّاظِ، ولا يخرجُ عن حديثهم حُكِمَ بصدقهِ وصحَّةِ حديثهِ، فهذانِ الطرفان لا يختلفُ في من وُجد أحدهما منه، ومن وُجد منه الموافقةُ والمخالفة وقعَ التَّرجيحُ فيه على حسب كثرة أحد الأمرين منه وقلتهِ، وعلى قدرِ ما يحتمله حاله في علمِهِ ودينه وفضلهِ؛ ولذلك يختلف أهل الجرح والتَّعديل في الرَّجل الواحدِ، فيُوثِّقُهُ يحيى بن سعيدٍ القطان، ويُضَعِّفُهُ عبدُ الرَّحمن بن مهديٍّ ويُوثِّقه شعبةُ ويجرحه مالكٌ، وكذلك سائرُ من يتكلم في الجرحِ والتَّعديل ممن هو من أهل العلم بذلكَ يقع اختلافهم في ذلك على هذا الوجهِ.
          وقد روى أبو حاتِمِ بن حِبَّانَ البُسْتِيُّ قال: سمعت محمدَ بن إبراهيمَ بن أبي شيخٍ الملطيِّ قال: جاء يحيى بن مَعِيْنٍ إلى عفَّانَ يسمعُ منه حديث حمَّاد بن سلمةَ فقال: سمعتَهُ من غيري؟ فقال: نعم، سمعتُهُ من سبعةَ عشر رجلًا، فأبى أن يحدِّثهُ به، فقال: إنما هو درهمٌ، وانْحَدَرَ إلى البصرةِ وأسمَعَهُ من التَّبُوْذَكِيِّ، فقال له التَّبوذكيُّ: سمعته من غيري؟ فقال: نعم سمعته من سبعةَ عشر رجلًا، فقال: ما تريدُ بذلك؟ قال: أريد أن أميزَ خطأَ حمَّاد بن سلمة من خطأ من روى عنه، فإذا اتَّفق لي الجميع على خطأ عرفت أنه من حمَّاد بن سلمةَ، وإذا انفرد به بعض الرواة عنه عرفت أنَّهُ منه.


[1] في المخطوط: «صالح بن الأخضر» والصواب: صالح بن أبي الأخضر.