التعديل والتجريح

باب في وصف حاله وعلمه

          (باب في وصف حَالِهِ وعِلْمِهِ)
          قال أبو أحمد بن عديٍّ الجُرْجَانِيُّ الحافظُ: سمعتُ عدَّة مشايخَ يحكون أن محمَّدَ بن إسماعيلَ البخاريَّ قدمَ بغداد، فسمعَ به أصحابُ الحديثِ فاجتمعوا، وعمدوا إلى مائةِ حديثٍ فقلبوا مُتونها وأسانيدَها، وجعلوا متنَ هذا الإسنادِ لإسنادٍ آخر، وإسنادَ هذا المتنِ لمتنٍ آخرَ، ودفعوا إلى عشرةِ أنفسٍ، إلى كل رجلٍ منهم عشرةَ أحاديثَ، وأمروهم إذا حضروا المجلسَ يُلقون ذلك على البخاريِّ، وأخذوا الموعدَ للمجلسِ فحضر المجلسَ جماعةٌ من أصحابِ الحديث من الغرباء من أهل خراسانَ وغيرها ومن البغداديين، فلما اطمأنَّ المجلسُ بأهله انتدبَ إليه رجلٌ من العَشَرَةِ، فسأل عن حديثٍ من تلك الأحاديثِ المقلوبةِ، فقال البخاريُّ: لا أعرفه، فسأل عن آخرَ، فقال البخاري: لا أعرفه، ثم سأل عن آخر، فقال: لا أعرفه فما زال يلقي بمثله واحدًا بعد واحدٍ حتى فرغ من عَشْرَتِهِ، والبخاريُّ يقولُ: لا أعرفه، فكان / الفقهاءُ ممن حضر المجلسَ يلتفت بعضهم إلى بعضٍ، ويقولون: الرجلُ فَهِمٌ، ومن كان منهم غير ذلك يقضي على البخاريِّ بالعجزِ والتَّقصيرِ وقلةِ الفَهْمِ.
          ثم انتدبَ رجلٌ آخر من العشرةِ فسأله عن حديثٍ من تلك الأحاديثِ المقلوبة، فقال البخاريُّ: لا أعرفُهُ، فسأله عن آخرَ، فقال: لا أعرفه، فسأل عن آخر، فقال: لا أعرفه، فلم يزل يلقي عليهِ واحدًا بعد واحدٍ، حتى فَرَغَ من عشرته، والبخاريُّ يقول: لا أعرفه، ثم انتدب الثالث إليه، والرابع إلى تمام العشرة، حتى فرغوا كلهم من الأحاديثِ المقلوبَةِ، والبخاريُّ لا يزيدُهم على لا أعرفُهُ، فلما عَلِمَ البخاريُّ أنهم قد فرغوا التفتَ إلى الأوَّل منهم فقال: أما حديثكَ الأوَّلُ فهو كذا، وحديثكَ الثَّاني فهو كذا والثَّالث والرابع على الولاءِ، حتى أتى على تمامِ العشرة فردَّ كل متنٍ إلى إسنادِهِ وكل إسنادٍ إلى متنه، وفعل بالآخرين مثل ذلك وردَّ متونَ الأحاديث كلها إلى أسانيدها وأسانيدها إلى متونها، فأقرَّ له الناسُ بالحفظ والعلم وأذعنوا له في الفضلِ، وكان ابنُ صاعِدٍ إذا ذكر محمَّدَ بن إسماعيلَ يقولُ: الكبشُ النَّطَّاحُ.