التعديل والتجريح

باب ألفاظ الجرح والتعديل

          (بابُ ألفاظِ الجرحِ والتَّعديلِ)
          واعلمْ أنه قد يقولُ المُعَدِّلُ: فلانٌ ثقةٌ، ولا يريدُ أنه ممن يُحتجُّ بحديثهِ، ويقولُ: فلانٌ لا بأسَ به ويريدُ أنه يحتجُّ بحديثهِ وإنما ذلك على حسبِ ما هو فيه ووجهُ السؤالِ له، فقد يسألُ عن الرجلِ الفاضل في دينهِ المتوسطِ حديثُهُ فيقرنُ بالضعفاءِ فيُقالُ له: ما تقولُ في فلانٍ وفلانٍ؟ فيقولُ: فلانٌ ثقةٌ، يريدُ أنه ليسَ / من نَمَطِ من قُرِنَ بهِ، وأنه ثقةٌ بالإضافة إلى غيرِهِ، وقد يُسألُ عنه على غيرِ هذا الوجه، فيقولُ: لا بأسَ به، فإذا قيل: أهو ثقةٌ؟ قال: الثِّقةُ غيرُ هذا.
          يدلُّ على ذلكَ ما رواهُ أبو عبدِ الله بن البيِّعِ قال: سمعتُ أبا عبد الله محمَّدَ بن يعقوب الشَّيبانيِّ يقولُ: سمعتُ أبا بكرٍ محمَّدَ بن النَّضرِ الجاروديَّ يقولُ: سمعتُ عمرَو بن عليٍّ يقولُ: أنبأنا عبدُ الرَّحمن بن مهديٍّ : حدَّثنا أبو خَلْدَةَ فقالَ رجلٌ: يا أبا سعيدٍ أكان ثقةً؟ فقال: كان خِيارًا وكان مسلمًا وكان صدوقًا، الثِّقةُ شعبةُ وسفيانُ (1).
          وإنما أرادَ عبدُ الرَّحمن بن مهديٍّ ☼ التَّناهي في الإمامةِ، ولم يوثِّقْ من أصحاب الحديث إلا من كان في درجةِ شعبةَ وسفيانَ الثَّوريِّ لقلَّ الثقاتُ، ولبطل معظمُ الآثارِ، وأبو خَلْدَةَ هذا خالدُ بن دينارٍ البصري.
           أخرجَ البخاريُّ في العلم والتَّعبير عن حَرَمِيِّ بن عُمارةَ عنه، عن أنس.
          وقالَ عمرُو بن عليٍّ: سمعتُ يزيدَ بن زُرَيْعٍ يقول: حدَّثنا أبو خَلْدَةَ وكان ثقةً، ولكن عبدَ الرَّحمن لم يرد أن يبلغه مبلغَ غيره ممن هو أتقنُ منه وأحفظ وأثبتُ، وذهب إلى أن يبينَ أن درجتَهُ دون ذلك؛ ولذلك قال: كان خيَارًا كان صدوقًا، وهذا معنى الثِّقةِ إذا جمعَ الصِّدقَ والخيرَ مع الإسلامِ.
          وقد روى عباسُ بن محمدٍ الدُّوْرِيُّ عن ابن مَعينٍ أنه قال: محمد بن إسحاقَ ثقةٌ وليس بحجَّةٍ.
           وأصل ذلكَ أنه سُئلَ عنه وعن موسى بن عُبيدةَ الرَّبْذِيِّ أيهما أحبُّ إليكَ؟ فقال: محمد بن إسحاق ثقةٌ وليس بحجَّةٍ، فإنما ذهب إلى أنه أمثلُ في نفسه من موسى بن عبيدة الرَّبذيِّ.
          وقد روى عثمانُ بن سعيد الدَّارمي، قال أحمدُ بن حَنبلٍ: ذُكِرَ عندَ يحيى بن سعيدٍ عُقيلٌ وإبراهيمُ بن سعدٍ فجعل كأنه يُضَعِّفهما، فهذا ذكرهُ لعُقيل ولم يذكر سببَ ذلك، ولعله قد ذكر له مع مالكٍ، ولو ذكر له مع زمعةَ بن صالح أو صالح بن أبي الأخضر لوثَّقهُ وعَظَّمَ أمره.
          وقال عبد الرَّحمنِ الرازيُّ: قيل لأبي حاتِمٍ: أيهما أحبُّ إليكَ، يونسَ أو عُقيل؟ فقالَ: عُقيلٌ لا بأس به، فقد قال في مثل عُقيل لا بأس به، ويريد بذلك تفضيلهُ على يونس، ولو قرنَ له عبدُ الجبَّارِ بن عمر لقالَ: عُقيلٌ ثقةٌ ثَبْتٌ مُتقدِّمٌ متقنٌ.
          وقد سُئِلَ عنهُ أبو زُرعةَ الرَّازيُّ فقال: ثقةٌ صدوقٌ، فوصفه بصفتهِ لما لم يقرنْ بغيره.
          وقد ذكرَ لأبي عبدِ الرَّحمن النَّسائيِّ تفضيلُ ابن وهبٍ الليثَ على مالكٍ، فقال: وأيُّ شيءٍ عند اللَّيثِ، لولا أن الله تداركهُ لكان مثلُ ابن لَهِيْعَةَ، ولا خلافَ أن اللَّيثَ من أهل الثِّقةِ والتَّثبتِ، ولكنه إنما أنكر تفضيلهُ على مالكٍ أو مساواتهُ بهِ.
          قالَ أبو عبدِ الله: وسمعتُ أبا العبَّاسِ يقولُ: سمعتُ عبَّاسَ بن محمَّدٍ يقولُ: سمعتُ يحيى بن مَعينٍ / يقولُ: قال لي يحيى بن سعيدٍ القَطَّانُ: لو لم أُحدِّث إلا عن كل من أرضى لما حدَّثتُ إلا عن خمسةٍ، وهذا لا خلاف أنه أرادَ بذلك النِّهايةَ فيما يُرضيهِ، لأنه قد أدركَ من الأئمة الذين لا يُطعنُ عليهم أكثر من هذا العددِ، لأنه قد سمع من يحيى بن سعيدٍ الأنصاري ومالكِ بن أنس وعبيدِ الله بن عمر العمريِّ وهشام بن عروة وابن جُريجٍ وإسماعيلَ بن أبي خالد وسعيدِ(2) بن أبي عَروبةَ وسفيان الثَّوْرِيِّ وشعبةَ، وأدركَ مَعْمَرًا وابن عُيينةَ وهشامًا الدَّسْتُوَائِيَّ والأوزاعيَّ ونظراءَهُم كثيرًا، والأعمشَ وحمَّاد بن زيد وابن عُلَيَّةَ، وعاصَرَ وكيعًا وعبدَ الرَّحمن بن مهديٍّ وعبدَ الله بن المباركِ وجماعةً من أئمة الحديث الذين لا مزيدَ عليهم.
          وروى ابنُ المُباركِ عن سفيانَ الثَّوريِّ أنه قال: أدركتُ حفَّاظَ الناسِ أربعةً: عاصمًا الأحول وإسماعيلَ بن أبي خالدٍ ويحيى بنَ سعيد، قال: وأرى هشامًا الدَّسْتُوَائي منهم، ولم يُرِدْ بهذا أنه لم يُدركْ حافظًا غير هؤلاء، فقد أدركَ الأعمشَ ومالكًا وابنَ عُيينةَ وشُعبة وعبيدَ الله بن عمر(3) وأيوبَ السَّختيانيَّ وسليمانَ التيميَّ.
          وقد قال سفيانُ مرةً أخرى: حُفَّاظ البصرةِ ثلاثةٌ: سليمانُ التَّيميُّ وعاصمٌ الأحولُ وداودُ بن أبي هندٍ، وكان عاصمٌ أعظمَهم، ولا شكَّ أنه أرادَ في حديثٍ مخصوصٍ أو معنىً مخصوص، فإنه قد كانَ بالبصرة أيُّوبُ السَّختيانيُّ ويونسُ بن عبيد وعبد الله بن عونٍ وسعيدُ بن أبي عَروبةَ وغيرُهم ممن هو أحفظ في الجُملةِ وأتقنُ من عاصمٍ.
          وقد روى ابنُ مَعينٍ قال: حجَّاجُ بن محمَّدٍ، قال شعبة: عاصمٌ أحبُّ إلي من قتادةَ وأبي عثمانَ لأنه أحفظُهما، فبينَ شعبةُ وجه تفضيلهِ لهُ أن ذلك مما يختصُّ بحديث أبي عثمان النَّهدي، ولا يشكُّ أحدٌ في تفاوتِ ما بين قتادةَ وعاصمِ بن سليمانَ الأحولِ في غير أبي عثمانَ، وقد قالَ عليُّ بن المدِيْنِيِّ: سمعت يحيى بن سعيدٍ وذُكِرَ عندهُ عاصمٌ الأحولُ فقال: لم يكن بالحافظ، فإما أن يكون قد ظهر ليحيى بن سعيدٍ من حديث عاصمٍ في شيخٍ من الشُّيوخِ ما اقتضى مخالفةَ ما قاله سفيان وشعبة فيهِ، أو قد قرنَ له بمن هو فوقهُ في الحفظ والإتقانِ، كالزُّهريِّ والأعمشِ وقتادةَ ويحيى بن أبي كثير فقصَّرَ به عن رُتبتهم.
          وقد قالَ أبو زُرعةَ الرَّازيُّ فيه: هو صالحُ الحديثِ، فتأمل تفاوت هذه الألفاظ في ذِكْرِهِ، واعلم أن موجبَ ذلكَ اختلافُ السؤالِ / ، واللهُ أعلم.
          وقال عبد الرَّحمنِ بن مهديٍّ: أئمةُ الناس في زمانِهم أربعةٌ: حمَّاد بن زيدٍ بالبصرة وسفيان بالكوفة ومالكٌ بالحجاز والأوزاعيُّ بالشَّام، يعني في الحديث والعلمِ، وقد تركَ الليثَ بمصرَ وترك جماعةً غيرَ هؤلاء.
          فهذا كُلُّهُ يدلُّ على أن ألفاظهم في ذلكَ تصدر على حسبِ السؤالِ وتختلف بحسب ذلكَ، وتكون بحسب إضافة المسؤولِ عنهم بعضُهم إلى بعضٍ، وقد يُحكم بالجرحةِ على الرجل بمعنى لو وجدَ في غيره لم يُجرحْ به لما شُهِرَ من فضلِهِ وعلمه، وأن حاله يحتمل مثل ذلك، فقد قال عليُّ بن المَدِينيِّ: كتبنا عن ابن نُمير قديمًا لا يذكرُ الحارثَ بن حصيرةَ ولا أبا يعفورٍ ولا حَلَّامَ بن صالحٍ، وإنما كان يحدِّث عن هؤلاء الضعفاءِ ثم حدَّثَ عن هؤلاءِ بعدُ، ثم قال: لو كان غير ابن نُمير لكانَ، ولكنه صدوقٌ.
          فعلى هذا تُحمل ألفاظُ الجرَّحِ والتَّعديلِ من فهم أقوالهم وأغراضهم، ولا يكونُ ذلك إلا لمن كانَ من أهل الصِّناعةِ والعلمِ بهذا الشأنِ.
          وأما من لم يَعْلَمْ ذلكَ، وليس عنده من أحوالِ المحدِّثين إلا ما يأخذهُ من ألفاظ أهل الجرحِ والتَّعديلِ، فإنه لا يمكنُهُ تنزيلُ الألفاظ هذا التَّنزيل، ولا اعتبارها بشيء مما ذكرنا وإنما يتبعُ في ذلك ظاهرَ ألفاظهم فيما وقع الاتِّفاقُ عليه، ويقف عند اختلافِهم واختلافِ عباراتهم، والله الموفق للصَّواب برحمته.


[1] في المخطوط: «شقيق» وهو تصحيف.
[2] في المخطوط: «شعبة» وهو تصحيف.
[3] في المخطوط: «عمرو» وهو تصحيف.