التعديل والتجريح

باب في وجوب التحرز في الأخذ عن العدل

          (بابُ في وجوبِ التَّحرُّزِ في الأخذِ عن العُدُوْلِ)
          واعلمْ أن أخذَ الحديث يكونُ على وجهين: أحدهما: للعملِ به واتِّخاذِه دِيْنًا، فهذا يجبُ أن لا يُعتمدَ عليه إلا بعد أن يُؤخذ عن الثقةِ، وذلك الثقةُ عن ثقةٍ حتى يصل إلى النَّبي صلعم .
          والثاني: أن يُؤْخَذَ ليعلمَ أنه قد رُوي ويُعلم وجه ضعفهِ، فهذا يجوزُ أن يُؤخذَ عن كل ضَرْبٍ، ورُوِيَ عن سفيانَ الثَّوريِّ أنه قال: أُحِبُّ أن أكتبَ الحديثَ على ثلاثةِ أوجهٍ: حديثٌ أكتبه أريد أن أدينَ به، وحديثُ رجل أكتبه فأوقعه لا أطرحُهُ ولا أدين به، وحديثُ رجل ضعيفٍ أحبُّ أن أعرفَهُ ولا أغتابه.
          وقال الأوزاعيُّ: تعلَّم ما لا يؤخذُ به كما تعلَّم ما يؤخذ به.
          وقد روى أحمدُ بن إسحاقَ قال: رأى أحمدُ بن حَنبلٍ ☺ يحيى بن مَعينٍ في زاويةٍ بصنعاءَ، وهو يكتبُ صحيفةَ معمرٍ عن أبانَ بن أبي عيَّاشٍ عن أنسٍ، فقالَ له أحمدُ بن حنبلٍ ☼ : تكتبُ صحيفةَ معمرٍ عن أبانَ عن أنسٍ وتعلم أنها موضوعةٌ؟ فلو قال لكَ قائلٌ أنت تتكلمُ في أبانَ وتكتب حديثه على الوجه؟ فقال: رحمكَ الله أبا عبدِ اللهِ أكتب هذه الصحيفةَ عن عبد الرَّزَّاقِ عن معمرٍ عن أبانَ عن أنسٍ، وأحفظها كلُّها وأعلم أنها موضوعةٌ حتى لا يجيء بعد إنسانٌ فيجعل بدلَ أبان ثابتًا ويرويها عن معمرٍ عن ثابتٍ عن أنسٍ، / فأقول له: كذبت إنما هو أبانُ لا ثابتٌ.
          وأما أداءُ الضربِ الأول إلى من ينقلُهُ فواجبٌ ولازمٌ، فإنه لا يجوزُ أن يكتمَ علمًا يجد مُتَّحَمَّلًا له، وأما الضربُ الثاني فهو مُخَيَّرٌ في أدائه إلى من ينقلُهُ عنه أو ترك ذلك، فإن نقلهُ فليبين وجهه، وقد قال عليُّ بن المدينيِّ: سمعتُ بِشْرَ بنَ المُفَضَّلِ وقيل له: إن إسماعيلَ بن عُلَيَّةَ يحدِّثُ عن عبد الله بن زيادِ بن سمعانَ فقال: ما شأنهُ اختلطَ بعدي، وقال عليُّ بن المدينيِّ: سمعت يحيى بن سعيدٍ يقولُ: ينبغي لصاحبِ الحديثِ أن يكون ثبتَ الأخذِ ويفهمَ ما يُقالُ له وينظر الرِّجالَ ويتعاهدَ ذلك.
          والأصلُ في ذلك قولهُ تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيْبُوا قَوْمًا بِجَهَالَة فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُم نَادِمِيْنَ } [الحجرات:4] وقد روى أبو أسامةَ عن ابن عونٍ عن محمد يعني ابن سِيْرِيْنَ أنه قال: إن هذا الحديثَ دينٌ فانظروا عمَّن تأخذونَهُ.
          وقال عبدُ اللهِ بن المُباركِ: الإسنادُ من الدِّينِ، لولا الإسنادُ لقالَ من شاءَ ما شاءَ.
          وكان بهزُ بن أسدٍ يقولُ إذا ذُكِرَ له الإسنادُ الصحيحُ: هذه شهادةُ العُدول المرضيِّين بعضَهم على بعضٍ، وإذا ذُكِرَ له الإسنادُ وفيه شيءٌ قال: هذا فيهِ عُهْدَةٌ، ويقول: لو أن رجلًا ادَّعى على رجلٍ عشرةَ دراهم لم يستطع أخذَها إلا بشهادة العُدولِ، فدينُ الله أحقُّ أن يؤخذَ فيه بالعدول، وقال عبدةُ بن سليمانَ: قيل لابن المبارك في هذه الأحاديثِ الموضوعة قال: يعيش لهمُ الجهابذة.
          وقال الأوزاعيُّ: سمعتُ يزيدَ بن أبي حبيبٍ يقولُ: إذا سمعتَ الحديثَ فأنْشُدْهُ كما تَنْشُدُ الضَّالَةَ، فإن عُرِفَ فخُذْهُ وإلا فدَعهُ.
          وقالَ ابنُ عَوْنٍ: لا يُؤْخَذُ هذا العلمُ إلا عمَّن شُهِدَ له بالطلب، وروى المغيرةُ عن إبراهيمَ قال: كانوا إذا أرادوا أن يأخذوا عن الرَّجلِ نظروا إلى صلاتِهِ وإلى هَيْبَتِهِ وإلى سَمْتِهِ.
          وقال عبد الرَّحمنِ بن مَهْدِيٍّ: قال شُعبة: كنت أنظرُ إلى فمِ قتادةَ، فإذا قال: حدَّثنا كتبنا عنهُ فوقفْتُهُ عليه، وإذا لم يقل حدَّثنا لم أكتبُ عنه، قال عبد الرَّحمنِ بن مهديٍّ: خَصلتان لا يستقيم فيها حُسْنُ الظَّنِّ: الحكمُ والحديثُ، يعني لا يُستعملُ حسن الظنِّ في قبول الرِّوايةِ عمَّنْ ليس بمرضِيٍّ.