الناظر الصحيح على الجامع الصحيح

حديث: كان رسول الله يعالج من التنزيل شدة

          5- (شِدَّةً): إمَّا مفعولٌ به لـــ(يُعالِجُ)، [4أ] وإمَّا مفعولٌ مطلقٌ، أي: معالجةً شديدةً.
          (وَكَانَ مِمَّا يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ): قال الكِرمانيُّ: (أي: كان العلاجُ ناشئًا مِن تحريك الشفتين، أي: مبدأُ العلاجِ منه، أو «ما» بمعنى: «مَنْ» إذ قد تجيء للعقلاء أيضًا، أي: كان ممَّن يحرِّك) انتهى.
          وقال غيرُه: أعاد (كان)، وهو جائزٌ إذا طال الكلامُ، كما في قوله تعالى: {أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ}.
          وقال الكِرمانيُّ: (قال عياض: معناه: كثيرًا ما كان يفعلُ ذلك، وقيل: معناه: هذا من شأنه ودأبه) انتهى كلامُ الكِرمانيِّ، فجعل (ما) كناية عن ذلك، ومثلُه قوله: (كان يقولُ ممَّا يقولُ لأصحابه: «مَن رأى منكم رؤيا»)، / وأدغم النون في ميم (ما)، وقيل: معناها: (ربَّما)، وهو قريبٌ من الأوَّل؛ لأنَّ (ربَّما) قد تأتي للتكثير.
          وقال شيخُنا بعد إيراد كلام الكِرمانيِّ _وهو: أي: كان العلاجُ ناشئًا من تحريكِ الشفتين، أي: مبدأُ العلاجِ منه، أو (ما) موصولةٌ، وأُطلقت على مَن يَعقل مجازًا_: (وفيه نظرٌ؛ لأنَّ الشِّدَّة حاصلةٌ له قبل التحريك، والصوابُ ما قاله ثابتٌ: إنَّ المراد: كان كثيرًا ما يفعلُ ذلك، وورودُ «ممَّا» في هذا كثيرٌ، ومنه حديثُ الرؤيا، ومنه قولُ الشاعر: [من الطويل]
وَإِنَّا لَمِمَّا نَضْرِبُ الْكَبْشَ ضَرْبَةً                     عَلَى وَجْهِهِ يُلْقِي اللِّسَانَ مِنَ الْفَم /
          ويؤيِّدُه: ما في «التفسير»: «كان رسول الله صلعم إذا نزل جبريلُ بالوحي فكان ممَّا يحرِّك به لسانَه وشفتيه»، فأتى بهذا اللفظ مجرَّدًا عن تقدُّمِ العِلاج الذي قدَّره الكِرمانيُّ، فظهر ما قال ثابتٌ، ووجهُ ما قال غيرُه: أنَّ «مِن» إذا وقع بعدها «ما» كانت بمعنى «رُبَّما»، وهي تطلق على القليل والكثير، وفي كلام سيبويه مواضعُ من هذا، منها قولُه: «اعلم أنَّهم ممَّا يحذفون كذا»، ومنه حديثُ البراء: «كنَّا إذا صلَّينا خلفَ النبيِّ صلعم ممَّا نحبُّ أن نكونَ عن يمينه»، وفي حديث سمرةَ: «كان رسول الله صلعم إذا صلَّى الصبح ممَّا يقول لأصحابه: مَن رأى منكم رؤيا»).
          (فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ...) إلى قولهِ: (فَأَنْزَلَ اللهُ): جملةٌ معترضةٌ بالفاء، وذلك جائزٌ، كما قال الشَّاعر: [من الكامل]
وَاعْلَمْ _فَعِلْمُ المَرِءِ يَنْفَعُهُ_                     أَنْ سَوفَ يَأْتِي كُلُّ مَا قُدِرَا /
          (فَأَنْزَلَ اللهُ): عطفٌ على (كَانَ... يُعَالِجُ).
          (كَمَا قَرَأَهُ): (الهاء) للقرآن، وضميرُ الفاعِل عائدٌ إلى (جبريل)، وفي بعضها: (قرأَ) بحذف المَفعُول.
          [قوله: (قَرَأَهُ النَّبِيُّ صلعم كَمَا قَرَأَ): كانَ النبيُّ صلعم يقرأُ ما قرأه جبريلُ بعينه؛ ولهذا قال: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1]، ونحن كذلك نقولُ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، وهذا فيه دلالةٌ على التقيُّدِ بألفاظِ القرآن، وأنَّه لا يجوزُ تغييرُها ولا التعبيرُ عنها بغيرِ العربيَّةِ، ولا العدولُ إلى معناها، وهذا اتِّفاقٌ مِنَ العلماءِ إلَّا ما يُحكى عن بعضِهم، ويقال: إنَّه رجعَ عنه.
          وأمَّا غيرُ القرآنِ فإنَّه إذا أتاه جبريلُ به يكونُ ◙ متصرِّفًا فيه، فيذكرُه بمعناه مرَّةً، وبلفظِه أُخرى، والأغلبُ الأوَّلُ]
.