الناظر الصحيح على الجامع الصحيح

حديث: إنما الأعمال بالنيات

          1- (عَلَى الْمِنْبَرِ): اللَّامُ للعهدِ.
          (سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلعم يَقُولُ): اختُلف هل تتعدَّى (سمعتُ) إلى مفعولين؟ فجوَّزَه الفارسيُّ، لكن لا بُدَّ أنْ يكونَ الثاني ممَّا يُسمَع، نحو: سمعتُ زيدًا يقولُ كذا، فلو قلتَ: سمعتُ زيدًا [يضربُ] أخاك، لم يَجُز، والصحيحُ تعديتُها إلى واحدٍ، وما وقعَ بعدَه منصوبًا على الحال، والأوَّلُ على تقدير حذفِ مضافٍ، أي: سمعتُ كلامَ رسولِ الله صلعم؛ لأنَّ السَّمْعَ لا يقعُ على الذوات، ثم بيَّن هذا الحذفَ بالحال المذكور: وهي (يقولُ)، وهي حالٌ مبيِّنةٌ لا يجوزُ حذفُها. /
          (إِنَّمَا): الكلامُ فيها كثيرٌ، وقال النووي: («إنَّما» موضوعةٌ للحصر، تُثبِتُ المذكورَ، وتنفي ما عداه)، وهذا كلامٌ مستقيمٌ إذ لم يتعرَّض في قوله أنَّ (إنَّ) للإثبات و(ما) للنفي كما صرَّح به الأكثرون، وهو غير مستقيمٍ لأنَّ (ما) ليست نافيةً، بل هي كافَّةٌ مؤكِّدةٌ.
          روى صاحب «المفتاح» عن عليِّ بن عيسى الرَّبَعيِّ: أنَّ إفادة الحصر مِن (إنَّما) إنَّما كانت من (إنَّ) إنْ كانتْ لتأكيد إثباتِ المسندِ للمسندِ إليه، ثمَّ لمَّا اتصلتْ بها (ما) المؤكِّدةُ _لا النافيةُ على ما يظنُّه مَن لا وقوفَ له بعلمِ النَّحْو_ ضاعفَتْ(1) تأكيدَها، فناسبَ أن تُضمَّن معنى الحصرِ. /
          (الْأَعْمَالُ): حرفُ التعريفِ ليس لتعريف الماهيَّة؛ لأنَّ المفتقرَ إلى النيَّةِ أفرادُ الأعمال، لا مُطلَقُ[1ب] الأعمالِ من حيثُ الإطلاقُ، فهو إذًا إمَّا للعمومِ خُصَّ منه البعضُ بالإجماع، أو للعهدِ فالمعهودُ هو الأعمالُ التي عُهِدَتْ مِنْ قِبَلِ الشَّرْعِ، ويؤيِّدُه ما قيلَ: إنَّ المرادَ من (الأعمالِ): العباداتُ؛ لأنَّ غيرَها لا يفتقرُ إلى النيَّة.
          (بِالنِّيَّاتِ): يَحتمل أن تكون باءَ السببيَّةِ، ويَحتمل أن تكون باءَ المصاحبةِ، و(إنَّما الأعمالُ بالنِّيَّات) هو متعلِّقٌ بالخبر المحذوف، ولا جائزٌ أن يُقَدَّرَ وجودُها؛ لوجود العمل ولا نِيَّةَ، فتعيَّن أن يُقَدَّرَ نفيُ الصِّحَّة أو الكمال، والأوَّلُ أظهرُ؛ لأنَّه أقربُ إلى حضورِه بالذِّهْن عند الإطلاق، فالحَمْلُ عليه أَولى، وقد يقدِّرونه بالاعتبار، أي: اعتبار الأعمال بالنِّيَّات، وقدَّر بعضُ المحدِّثين: القبول، وهو راجعٌ إلى ثواب الآخرة، وهو مرتَّبٌ على الصحَّة والكمال، وقد تنفكُّ الصحَّة عنِ القبول بالنسبة إلى أحكام الدنيا فقط.
          وقال شيخنا في «الفتح»: (الباء للمصاحبة، ويَحتمل أن تكون للسببية، بمعنى أنَّها مقوِّمةٌ للعمل، فكأنَّها سببٌ في إيجاده، وعلى الأول: فهي من نفس العمل، فيشترط ألَّا تتخلَّف عن أوَّلِه).
          (مَا نَوَى): (ما) بمعنى: (الَّذي)، وصلتُه (نَوَى)، والعائدُ محذوفٌ، أي: نواه، فإنْ قدَّرت (ما) مصدريَّة لم يُحتج إلى حذفٍ؛ إذ (ما) المصدريَّة عند سيبويه حرفٌ، والحروف لا تعود عليها الضمائر، والتقدير: لكلِّ امرئٍ نيَّتُه.
          (إِلَى دُنْيَا): هو إمَّا متعلِّقٌ بـــ(الهجرة) إنْ قُدِّرَتْ (كانَ) تامَّةً، أو خبر لـــ(كانتْ) / إنْ كانتْ ناقصةً، قاله الكِرمانيُّ، وقال البِرْماويُّ: (وبمحذوفٍ إنْ قُدِّرَتْ ناقصةً، ويكونُ هو خبرَها) انتهى.
          و(دنيا) مقصورةٌ غيرُ منوَّنةٍ لأنَّها (فُعْلى) من (الدُّنُوِّ)، وموصوفُها محذوفٌ، أي: الحياة الدنيا.
          قال ابن مالك: (في استعمالها منكَّرًا إشكالٌ؛ لأنَّها تأنيث «أدنى»، وهو أفعل تفضيل، وكان حقَّها أنْ تستعملَ باللَّام، كـــ«الكُبرى» و«الحُسنى»، إلَّا أنَّها خُلِعت عنها الوصفيَّةُ رأسًا، وأُجريتْ مُجرى ما لم يكن وصفًا، كـــ«رُجْعى» و«بُهْمى»، ونحوُه قولُ الشاعر: [من البسيط]
وإنْ دعوتِ إلى جُلَّى ومَكْرُمةٍ                     يومًا سَراةَ كِرامِ الناسِ فادْعِينا
          فإنَّ «الجُلَّى» مؤنَّث «الأَجَلِّ»، فخُلِعتْ عنها الوصفيَّةُ، وجُعِلت اسمًا / للحادثة العظيمة).
          قال الكِرمانيُّ: (والدليلُ على جعلها اسمًا _أي: عَلَمًا_ قلب الواو ياءً؛ لأنَّه لا يجوزُ القلبُ إلَّا في «الفُعْلى» الاسميَّة).
          وقال الأصفهانيُّ: («الدنيا» تأنيث «الأدنى» مثل: «حُبْلى» لا ينصرف؛ لاجتماع أمرين، أحدهما: الوصفيَّة، والثاني: لزوم حرف التأنيث).
          وقال الكِرمانيُّ: (ليس ذلك لاجتماع أمرين فيها إذ لا وصفيَّة ههنا، بلِ / امتناع صرفه للزوم التأنيث للألف المقصورة، وهو قائمٌ مَقام العِلَّتين، فهو سَهْوٌ منه).
          (إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ): إمَّا أن يكون متعلِّقًا بـــ(الهجرة)، والخبرُ محذوفٌ، أي: هجرته إلى ما هاجر إليه غيرُ صحيحةٍ أو غيرُ مقبولةٍ، وإمَّا أن يكون خبرَ (فَهِجْرَتُهُ)، والجملةُ خبرَ المبتدأ، وهو (مَنْ كَانَتْ)، وأدخل (الفاء) في الخبر؛ لتضمُّنِ المبتدأ معنى الشرط، قاله الكِرمانيُّ، وتتمَّة كلامه ستأتي في أوَّل(2) (كتاب النكاح) [خ¦5070].


[1] في (ب): (ضاعفَ)، وهي غير واضحة في (أ).
[2] أول: مثبت من (ب)، ولعلها في هامش (أ).