البخاري أضواء على حياته وجامعه

شبهات وردود

          في رحاب السُّنَّة
          قبل التدوين
          صرف صحابة رسول الله صلعم همَّهم إلى نشر السُّنَّة بطريق الحفظ والرواية، ومع هذا فإنَّ من الصحابة من كان يكتب الحديث ويجمعه. روى البخاريُّ عن أبي هريرة: (ما من أصحاب رسول الله صلعم أحدٌ أكثر حديثاً عنه مني، إلا ما كان من عبد الله بن عمرو فإنه كان يكتب ولا أكتب)، / وجاء رجل من أهل اليمن إلى رسول الله صلعم فقال: اكتب لي يا رسول الله، فقال: (اكتبوا لأبي فلان).
          وفي رواية عن عائشة أن أباها كان قد جمع ░500▒ حديث، وكان لعبد الله بن عمرو صحيفة يكتب فيها.
          كما أنَّ سيدنا عمر بن عبد العزيز أمر بكتابة الحديث وتدوينه في الصُّحف، وكتب بذلك إلى أبي بكر ابن حزم: (انظر ما كان من حديث رسول الله صلعم فاكتبه، فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء).
          وأمر عمر بن عبد العزيز أيضاً ابن شهاب الزهري بذلك، وقد كان معمر يكتب معه السُّنن، ثم شاع التدوين بعد الزهري.
          التدوين
          أول التآليف التي ظهرت في السُّنَّة كتاب عبد الملك ابن جريج بمكة (ت150) وابن إسحاق ومالك وأبو عروبة وحماد والثوري والأوزاعي ومعمر وابن المبارك، وعصر أولئك عصر ازدهار العلم. ثم ظهرت طبقة ثانية رأت أن يُفرد حديث رسول الله صلعم في التأليف، فألَّفوا ما عُرف بالمسانيد منها: «مسند الطيالسي» (204هـ) و«مسند الحميدي» شيخ البخاري (219هـ) وإسحق بن راهويه (237هـ) ابن [أبي] شيبة (229هـ)(1) وأحمد بن حنبل (241هـ).
          ثم تلت هذه الطبقة طبقة أخرى على رأسها الإمامان الجليلان أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري الجعفي / (256هـ) ومسلم بن الحجاج النيسابوري (261هـ) فعَظُم الانتفاع بصحيحيهما، وظهر أيضاً أصحاب السنن الأربعة، وأصبح الناس عيالاً عليهم في الحديث.
          ثبوت السنة
          يتوقف ثبوت السنة على أمرين: صحة المتن وصحة السند.
          1- صحة المتن: المتن هو نص الحديث، وهو إما أن يكون قول رسول الله صلعم أو قول صحابي يصف به قول الرسول صلعم أو صفته أو إقراره بقول أو فعل صدر أمامه ولم ينكر على صاحبه. وللحكم على حديث بصحة يجب أن يخلو من ركاكة في اللفظ أو المعنى، ومن مخالفة لنص القرآن، ومخالفة للمنطق السليم، وأن يخلو من مخالفة لما ثبت في التاريخ الصحيح والسنة، من أمثال ذلك ما رُوي أن رسول الله صلعم دخل الحمام وعليه مئزر، فرسول الله صلعم لم يدخل حماماً ولم يكن معروفاً في زمنه.
          2- صحة السند: السند هو الرجال الذين يروون الحديث، يرويه بعضهم عن الآخر وهكذا إلى رسول الله صلعم، ولكي يكون الحديث صحيحاً: يجب أن يكون كل رجاله عدولاً ضابطين، ثم يكون سند الحديث متصلاً لا انقطاع فيه، / فيحكم عليه بالصحة، وإن خلا من شيء من ذلك حكم عليه بالضعف، والعلم الذي يبحث في ثبوت الحديث وصحَّته يُعرف بعلم مصطلح الحديث، وهذا العلم فنٌّ عظيم لم تعرفه أمة، وقد أثنى ماركليوت على هذا العلم قال: (يكفي المسلمين فخراً علم رجال الحديث).
          درجات الحديث
          وقد وضع علماء الحديث قواعد عامة يُعرف بها كل حديث ودرجته وَفْق هذه القواعد وأعلى هذه الدرجات.
          1- الحديث المتواتر: وهو ما يرويه جمع عن جمع وهكذا للرسول الله صلعم يستحيل تواطؤهم عن الكذب، وهذا النوع من الحديث يفيد العلم القطعي.
          2- الحديث الصحيح: يجب أن يتوفر له الاتصال الصحيح وعدل الراوي وضبطه والخلوُّ من الشذوذ والعلة القادحة. ويعتمد عليه في الأحكام.
          3- الحديث الحسن: هو كالصحيح إلا أن رجاله أقلُّ ضبطاً وإتقاناً من رجال الصحيح، وهو حجة كالصحيح يعتمد عليه في استنباط الأحكام الشرعية ويجب الأخذ به.
          4- الحديث الضعيف: هو ما لا يتحقق فيه شروط / الصحيح ولا الحسن كضعف راوٍ واختلاف في ورعه، أو سقوط راو، ولا يحتج به في الأحكام.
          سهام طائشة
          كولد زيهر اليهودي
          أشرت في مقدمة الرسالة إلى فريقين من الناس حملوا لواء الحرب على الإسلام متمثلاً بالسنة المطهرة، وهؤلاء مستشرقون تحميهم حراب المستعمرين ويتزينون بمسوح العلم ويضعون السُّمَّ في الدَّسم، وينشرون أبحاثهم فيتلقَّفها الفريق الثاني، وهم فريق مضلل يردِّد كالببغاء آراء الأسياد، ومن الفريق الأول دائرة المعارف الإسلامية التي يشرف عليها مبشِّرون من إنكلترا، ومن المبشِّرين كولد زيهر اليهودي المجَري صاحب كتاب «مذاهب التفسير الإسلامي» الذي يحشو فيه افتراءاته وقد ترجمه الدكتور عبد الحليم النجار، وجاء في تقديم الدكتور عبد الحليم عن هذه الافتراءات (ص4): (هي نزعات لا يكاد يخلو منها كتاب من كتب المستشرقين، لاسيما فيما يتَّصل من الدين بسبب أو نسب، يمليها عليهم إلف ملازم أو هوى متبع أو قصد جاثر).
          وقد نقل فيه عن قصص خرافية كتودُّد الجارية، وآراء الدَّميري في كتابه «حياة الحيوان» / وروايات شاذة في كتب لا تتصل بالحديث أو التفسير.
          أمام للفريق الثاني فكثير أيضاً كأبي رية وزعانف آخرون.
لا يضر البحر أمسى زاخراً                     أن رمى فيه صبي بحجر
          السباعي:
          وننقل رداً على هؤلاء جميعاً للدكتور السباعي ☼ في كتابه «السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي». قال:
          يتلخص النقد في أمرين:
          1- بعض رجال البخاري ومسلم ضعفاء.
          2- يوجد في الصحيحين أحاديث منقطعة.
          والجواب على النقد الأول: من أوجهٍ مما نقل النووي عن أبي عمرو ابن الصلاح.
          ‌أ. أن يكون ذلك الراوي ضعيفاً عند غير الشيخين ثقة عندهما، ويقدم التعديل على الجرح خلافاً للقاعدة العامة؛ لأن الجرح مفسَّر السَّبب.
          ‌ب. أن يكون ذلك واقع في المتابعات والشواهد لا في الأصول.
          ‌ج. أن يكون ضعف الحديث طرأ بعد أخذ البخاري ومسلم عنه وهذا غير قادح.
          والجواب على النقد الثاني: إنَّ العلماء قد بيَّنوا هذه / الأحاديث وأزالوا ما وجه إليه من نقد ومن أشكال.
          تنقيح ابن حجر
          وقد كانت الأحاديث المنتقدة في زمن العقيلي أربعة فقط، فأزال الإمام العُقيلي الشبهة عنها، وزادت فيما بعد، فألَّف العلامة ابن حجر العسقلاني كتاباً خاصاً سماه: «تنقيح التنقيح» ليزيل الشبهة عن الأحاديث المنتقدة.
          ثم خفَّت حدة الاعتراضات نتيجة دفاع أعلام السُّنة عن «الجامع الصحيح» وقد جزم إمام الحرمين بأنه لو حلف إنسان بطلاق امرأته أنَّ ما في كتابي البخاري ومسلم مما حكما بصحته من قول النبي صلعم صحيحٌ لما ألزمته بالطلاق، ولا حنَّثته لإجماع علماء المسلمين على صحتهما. ولذلك قال المقدسي في الرجل يخرج عنه البخاري: (لقد جاز القنطرة).
          نقد شكلي
          وهذه الانتقادات التي قامت شكلية لا تتناول جوهر «الصَّحيح» وهي ناشئة عن شدة الحذر واليقظة التامة من علمائنا الأعلام مع اعترافهم أن كلَّ ما في «صحيح البخاري» صحيح.
          وقد قال الإمام النووي في شرحه على البخاري: (إنَّ النقد الموجَّه لـ«صحيح البخاري» مبنيٌّ على شروط لبعض المحدِّثين ضعيفة جداً ومخالفة لما عليه الجمهور. ومن النقد الحديث سوء فهم البعض للحديث أو للإعجاز العلمي فيه). /
          لا يبقى على ظهر الأرض
          فقد ردُّوا حديث: (لا يبقى على ظهر الأرض بعد مئة سنة نفس منفوسة) لأنهم فهموا منه أن العالمَ سيفنى بعد مئة سنة، والمراد ليس فناء العالم، بل لا يعمر أحد من الصحابة أكثر من مئة سنة، بدليل أن آخرهم موتاً هو أبو الطفيل عامر بن وائلة ☺ كان موته قبيل نهاية المئة.
          حديث الذباب
          وانتقدت أحاديث ظهر فيما بعد أنَّها تحمل طابع الإعجاز من النبي صلعم كحديث الذباب: (إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه كله، فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر شفاء). إذ بحث فيه علماء الطب وأثبتوا أن مادة مضادة للحيوية تقتل الجراثيم تفرزها الفطريات الموجودة على بطنها، وفي الجناح الآخر داء من الجراثيم المرضية التي تنقلها الذباب بأرجلها. وأيَّدت هذه الحقيقة دراسات العلماء الغربيين.
          ومثله حديث ولوغ الكلب في الإناء.
          ومثله أيضاً حديث من اصطبح بسبع تمرات.. ونحوه.
          نخلوا السنة
          أما علماء السنة فقد نخلوا السنة من الموضوعات على لسان النبي صلعم، وأفردوها بالتأليف، وقد بلغت هذه الكتب نحواً من أربعين مؤلفاً منها: «الموضوعات الكبرى» لابن الجوزي / و«تذكرة الموضوعات» للمقدسي و«سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة» للأستاذ الألباني صدر منها خمسة أعداد. /


[1] مات ابن أبي شيبة صاحب المصنف سنة 235هـ.