البخاري أضواء على حياته وجامعه

محن الدنيا

          الحاسدون
          ازدحم الناس حول منزل الذُّهليِّ يستطلعون إشراقة وجه البخاري، ويتلهَّفون لسماع كلمةٍ منه في شوق وحنين، والبخاري لا يبخل عليهم بعلم ولا يحجم عن مسألة، فضاقت صدور الحاسدين، حين ضاع مركزهم وغابت شمسهم، فكيف يقلبون العرس إلى مأتم.. إنَّه سؤالٌ من أحدهم يُحرجُ به الشَّيخ، ويلفِّق عليه شيئاً.
          قال السائل: ما تقول في لفظ القرآن هل هو مخلوق؟... فصدَّه الذُّهليُّ، وخشي من الفتنة المتوقَّعة، والبخاري أعرض عن السائل ثلاث مرات، ولكن أجابه أخيراً بصراحة ووضوح: (أفعالنا مخلوقة وألفاظنا من أفعالنا).
          الفتنة النكراء
          ارتفع صوت هذا الرجل يفتري على البخاري شيئاً لم يقله، فنادى: أيها الناس إنَّ البخاري قال: (لفظي بالقرآن مخلوق) فلا تجلسوا إليه، وشاعت الفتنة النكراء، واشتد أوارها، وهجر الناس مجلس الإمام باستثناء الإمام مسلم بن الحجاج وأحمد بن سلمة.
          إنها فتنة قديمة ولدت زمن المأمون، واستمرت إلى عهد المتوكِّل، / حيث تبنَّت الدَّولة رأياً شاذاً (يقول بخلق القرآن)، وقد أُلصقت التهمة بالإمام زوراً وهو القائل للسائل: الامتحان بدعة.
          كما أوضح للرأي العام رأيه بصراحة فقال: (كلام الله غير مخلوق، وأفعال العباد مخلوقة).
          ولكنه الحسد في قلوب أولئك النفر الذي سخَّروا علمهم لإرضاء الشياطين.
          السلوك العلمي
          كان ممن هجره وشغَّب عليه مضيفه الشَّيخ الذُّهليُّ، وكان البخاري روى عنه الحديث فهل يُلغي هذه الروايات انتقاماً لنفسه أم سيبقيها انتصاراً للعلم؟!
          لقد سلك الطريق الثاني، فسجَّل بأمانة علمية عظيمة روايات الذهلي، فتراه يقول: حدَّثنا محمد أو محمد بن خالد دون أن يذكره صراحة، حتى لا يظن أنَّ البخاريَّ يثبت على نفسه التُّهمة الباطلة، وكيلا ترسخ في أذهان الجاهلين... أنها فتنة لم تغير من السُّلوك العلميِّ الموضوعي الذي اتصف به أمامنا العظيم، فارتفع فوق الحاسدين والدجَّالين.
          بخارى تكرم العائد
          وقف أهل سمرقند موقفاً غير مشرَّف، فردَّ شيخنا رداً مناسباً، فقد قرَّر النُّزوح عن سمرقند إلى بخارى، فامتطى راحلته وسار على بركات الله لا تثنيه مشقة ولا تردُّه محنة ما دام ربه معه، والسُّنَّة طريقته... تلك هي / بخارى... لا ليست بخارى، إنها قباب بيضاء وحشود لا آخر لها... نظر محمد بن إسماعيل عن قرب فرأى سرادقات أُعدت وزينات نُصبت على الطريق المؤدِّية إلى بخارى... كل هذا لاستقبال العائد العظيم... ما أبهج يوم اللقاء، وما أسعد البخاري اليوم وهو يعود إلى عرينه، تُنثر فوقه الدَّراهم، ويفرش طريقة بالأزاهير، وترتفع إليه الأكفُّ، وتحييه الحناجر والقلوب، إنه تكريم يليق بالعالم فَقَدَتْهُ أمتنا اليوم، ومنحته لغير أهله... وما أسعد بخارى بابنها الحبيب.
          الدنيا بين يديه
          وفي مرابع الصبا ومراتع الأنس نَعِمَ البخاريُّ بلقاء الأحبة، يا لها من أيام سعيدة زحفت فيها بخارى؛ لتنهل من علم ابنها البار وترتوي من فضله وعبقريته، وهو السيد المفضال لا يبخل على طالب ولا يتكلف مكرمة، وروَّاد العلم يحيطون به إحاطة السِّوار المعصم...
          إنها غاية السعادة لو دامت لإمامنا العظيم، فهل سيبقى لطلاب العلم، أم يقبل دعوة أمير بخارى محمد بن خالد الذُّهلي؛ ليصبح مؤدِّباً لأولاده ومعلماً، فهل يختار الدنيا بقصورها وحبورها ويترك دروس العلم ينتفع بها ألوف الطلبة... إنَّه رفض العرض كله وركل الدنيا برجله؛ ليبقى خادماً للأمة لا لفرد، عبداً لله لا للمستبد، لقد ألقى البخاري درساً على مسامع / الدنيا في كرامة العالم وشرف العلم، ذلك الدرس الذي فهمه علماؤنا فاستعلوا به على الطغاة، وصانوا كرامة العلم فألبسهم الله ثوب الخلود.
          وكان هذا الأمير قد أمر الناس أن يغادروا مجلس البخاريِّ، فرفضوا، فانتقم لنفسه بأن أصدر أمراً بنفيه من بخارى.
          مغادرة بخارى
          غادر البخاري مدينته وألوف المودِّعين الذين تابعوا دروسه بنهم وتحدُّوا قرار أمير بخارى القاضي بعدم مجالسة البخاري أو السماع منه، هذه الألوف تذرف عيونها وتتمزَّق قلوبها في ساعة الفراق التي تتفطر فيها الأفئدة وتغصُّ العيون...
          ولكن لا يجدي بكاء ولا ينفع حزن؛ لأن المطية سارت تحمل البخاري! ولكن أين ستمضي به إن قلبه الحزين قد ذاق كثيراً من الحرمان، ولكن هذه المرة أصابه سهم في بلده... ماذا عساه يقول           دعواتٌ على هذا الأمير انطلقت من فمه فاستجابها الله؛ ليلقى هذا الأمير مصيره الأسود بعد شهر واحد في أحد سجون بغداد، فقد زجَّ به الموفَّق شقيق الخليفة المعتمد في السجن، ولَفَظَ فيه أنفاسه.
          رسالة من سمرقند
          تابع الشيخ سيره مستلهماً من الله الصَّبر، مستمداً منه العون بقصد مدينة سمرقند، فهل سيصل إليها؟ / وهل سيصعد بلقاء طلبة العلم فيها؛ ليبلغ ما منحه الله إياه؟!
          ثم استقرَّت بين يديه رسالة، إنَّها من سمرقند تقول: إنَّ أهل سمرقند انقسموا إلى قسمين؛ فريق يؤيِّد زيارته وفريق يعارض... وخشية وقوع ما لا يُحمد عقباه تنصحُ الرسالةُ البخاريَّ ألا يزور سمرقند.
          ابتسم شيخنا حينما قرأها، فقد أضافت إلى مصائبه ونكباته شيئاً جديداً، ولكن قلبه الكبير أكبر من أن تهدُّه المصائب أو تزعزعه النكبات.
          إلى قرية خرتنك
          ثنى الإمام البخاري عنان دابته إلى قرية (بيكند) ومنها سار إلى قرية (خرتنك) على مسافة ثلاثة فراسخ من سمرقند؛ ليستريح من عناء الطريق وعناء السفر، وقد وصل إلى هذه القرية التي دخلت التاريخ من بابه الواسع.
          وفي هذه القرية أقرباءٌ له نزل في رحابهم، ثم انتقل إلى بيت البخاريين، يحدِّث الناس ويفيض بالمعارف على طلبة العلم، ولعلَّ أروع أيامه قضاها في هذه القرية الجميلة، مع الطبيعة الحالمة بأنهارها وبساتينها الوارفة الظلال، يقضي شطراً من وقته في هذه الربوع يناجي خالقه ويشعر بلذة وسعادة بقربة الله.
          ولعله خفَّف كثيراً مما لقيه من عَنَت صحبتُه لأبي منصور غالب بن جبرائيل الخرتنكي، حيث كان يخرج معه إلى ريف (خرتنك)، ما أسعدهما حين عبس الناس، فإنَّ الطبيعة تبقى / باسمةَ الثَّغر، تُوحي للعظماء كثيراً من معاني الاعتماد على الله، فهو الذي يمنح السعادة ويعطي الكرامة.
          وتجول في خاطر البخاري أفكار شتى. ماذا عساه سيفعل؟ هل سيبقى في خرتنك وبعض أهلها ليسوا معه؟ أم سيعود إلى بخارى وقد تجهَّمت في وجهه؟ أم إلى نيسابور وقد أُوذي فيها؟ أم إلى سمرقند وقد اختلف أهلها إلى فريقين؟ ثم اتفقوا على توجيه دعوةٍ له ليزورهم، وقد وصلت رسالةٌ في هذا المعنى. لا يعلم إلا الله أين سيتَّجه البخاري.