أصل الزراري شرح صحيح البخاري

حديث: سترت النبي وهو يغتسل من الجنابة

          281- وبه قال: (حدثنا عبدان)؛ هو لقب عبد الله العتكي (قال: أخبرنا عبد الله)؛ هو ابن المبارك (قال: حدثنا)، وفي رواية: (أخبرنا) (سفيان)؛ هو الثوري، وقال الكرماني: (هو ابن عيينة)، وقدمنا في أول أبواب (الغسل) ما يرجح الأول، لا يقال: الالتباس في أحدهما يقدح في الحديث؛ لأنا نقول: لا قدح؛ لأنَّ كلًّا منهما على شرط المؤلف؛ فافهم، (عن الأعمش) هو سليمان بن مهران، (عن سالم بن أبي الجَعْد) بفتح الجيم، وسكون العين المهملة، (عن كُريب) بضمِّ الكاف؛ مصغرًا، مولى ابن عباس، (عن ابن عباس)؛ هو عبد الله ☻، (عن) خالته (مَيمُونة)؛ بفتح الميم الأولى، وضم الثانية، أم المؤمنين بنت الحارث ♦ (قالت: سترت النبيَّ) الأعظم، وفي رواية: (رسول الله) (صلعم)؛ أي: بثوب (وهو يغتسل من الجنابة) جملة اسمية محلها النصب على الحال، وزعم العجلوني أن هذا الحديث مر في باب (من أفرغ بيمينه على شماله) بلفظ: (وسترته)، فالضمير فيه عائد إلى النبيِّ ◙ بدليل ما هنا من التصريح بقولها: (سترت النبيَّ ◙)، وبه يظهر ما قلناه هناك من المناقشة مع الشراح؛ حيث جعلوه عائدًا على الإناء الذي دل عليه (غسلًا) المتقدم، والعجب منهم حيث غفلوا عما هنا أو أهملوه انتهى.
          قلت: حفظت شيئًا وغابت عنك أشياء، فإن الشراح لم يغفلوا ولم يهملوه؛ لأنَّ لفظ الحديث هناك: (قالت ميمونة: وضعت لرسول الله صلعم غسلًا وسترته)، زاد في باب (نفض اليدين بثوب)، والقاعدة: أن الضمير يرجع إلى أقرب مذكور، فيتعين أن يكون الضمير عائدًا على الإناء الذي فيه الماء؛ لأنَّ قولها: (غُسلًا)؛ بضمِّ الغين المعجمة؛ الماء الذي يغتسل به؛ يعني: / أنها وضعت الماء في الإناء وسترته خوفًا من وقوع شيء فيه يفسده؛ لأمره ◙ بتغطية الأواني.
          فقوله: (فالضمير...) إلخ ليس بشيء، بل يتعين هناك أن يكون الضمير عائدًا على الإناء؛ لأنَّه أقرب مذكور، وللعلة المذكورة.
          وقوله: (بدليل...) إلخ ممنوع؛ فإن ما هنا لا يدل على ما ذكر هناك؛ لأنَّ القصة مختلفة وإن كان الراوي واحدًا؛ لأنَّ الاغتسال متعدد ضرورة، فهذا لا يدل على ما قاله أصلًا.
          وقوله: (وبه ظهر...) إلخ ممنوع، بل ظهر شذوذ ما قاله؛ فالمناقشة التي ذكرها مردودة عليه؛ لأنَّها عن غير دليل، وقد أوضحت المقام هناك؛ فارجع إليه إن شئت.
          وقوله: (والعجب...) إلخ لا عجب منهم، ولا غفلة، ولا إهمال، فإن الشراح منهم حفاظ، ومنهم متقنون، فوقوع الغفلة منهم بعيد جدًّا، بقي الإهمال؛ فإنما أهملوه حيث إنه لم يدل عليه ما هناك؛ لاختلاف القصة، كما لا يخفى، والعجب من هذا القائل كيف تثبت في ذهنه ذلك وهو بعيد جدًّا؛ لعدم الدليل عليه، وما استدل به؛ فهو غير صحيح، فزاد في الطنبورة نغمة، وفي الشطرنج جملًا، والله تعالى أعلم.
          (فغسل يديه)؛ أي: إلى الرسغين، (ثم صب) أي: الماء (بيمينه على شماله فغسل فرجه) أي: القبل والدبر وما حولهما، (و) غسل (ما أصابه) أي: من البول والمني وغيرهما، (ثم مسح بيده) بالإفراد (على الحائط أو الأرض)؛ بالشك من ميمونة، كما مر، وفي رواية: (بيده الحائط) من غير شك، (ثم توضأ وضوءه للصلاة)؛ أي: الوضوء المفروض بأن أتى بسننه وآدابه (غير رجليه) فإنه أخَّر غسلهما؛ لأنَّهما في مستنقع الماء المستعمل، (ثم أفاض) من الإفاضة؛ وهي الإسالة؛ أي: أسال (على جسده الماء)؛ أي: على رأسه، وما نزل عنه، فعمم جميع جسده، وتكفي المضمضة والاستنشاق في الوضوء عن الغسل؛ لأنَّ السنة تنوب عن الفرض كما تقدم، (ثم تنحَّى)؛ أي: تباعد عن مكانه الذي اغتسل فيه إلى مكان آخر نظيف، (فغسل قدميه)؛ أي: رجليه تحرُّزًا عن الماء المستعمل، وليكون البدء والختم بأعضاء الوضوء، ومطابقة الحديث للترجمة في قولها: (سترت النبيَّ صلعم) .
          قال في «عمدة القاري»: (وقد قلنا: إن البخاري ذكر حديث ميمونة هذا في ثمانية مواضع، وهذا هو الثامن، وقد تقدم هذا في أول الغسل، غير أن بينه وبين سفيان الثوري اثنين؛ أحدهما: هو شيخه عبدان، والآخر: ابن المبارك، وقد ذكرنا فيه من أنواع ما يتعلق به مستقصًى؛ فافهم) .
          (تابعه) أي: تابع سفيان الثوري (أبو عَوانة)؛ بفتح العين المهملة، وتخفيف الواو؛ هو الوضاح اليشكري في الرواية عن الأعمش، وقد ذكر البخاري هذه المتابعة في باب (من أفرغ بيمينه)، (وابن فضيل) أي: وتابعه أيضًا محمَّد بن فضيل في الرواية عن الأعمش، وروايته موصولة في «صحيح أبي عَوانة» البصري؛ كلاهما (في الستر) وفي بعض النسخ: (في التستر)؛ أراد: تابعا سفيان في لفظ: (سترت النبيَّ ◙) لا في بقية الحديث، ووقع ذكر الستر أيضًا في هذا الحديث من رواية أبي حمزة عند المؤلف، ومن رواية زائدة عند الإسماعيلي، وقدمنا ما يتعلق بهذا الحديث مستوفًى، والله أعلم.