نفحة المسك الداري لقارئ صحيح البخاري

الجرح المردود

وَلِلأَنْجُمِ الزُّهْرِ اسْتَمَوْا بِلِسَانِهِمْ                     وَمَنْ ذَا الَّذِي مِنْ أَلْسُنِ الخَلْقِ يَسْلَمُ؟!
          المراد (بالنجم) نجم الأئمَّة مالك، و(الزهر) ظاهر، وفيهما توريتان إحداهما مرشَّحةٌ للأخرى، ذكر ابن عبد البرِّ كلام ابن ابي ذئب، وإبراهيم بن سعد في مالك بن أنس، قال: وقد تكلَّم في مالكٍ أيضًا عبد العزيز بن سلمة، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، ومحمَّد بن إسحاق، وعابوا أشياء من مذهبه، وقد برَّأ الله عزَّ وجل مالكًا عمَّا قد قالوا، وكان عند الله وجيهًا.
          قال: وما مثل من تكلَّم في الشافعي ومالك ونظائرهما؛ إلَّا كما قال الأعشى:
كناطح صخرةً يومًا ليَفْلِقَها                      فلم يضرَّها وأوهى قرنه الوعل
          أو كما قال الحسن بن حميد:
يا ناطحَ الجبلِ العالي ليكلمه                     أشفق على الرأس لا تشفقْ على الجبلِ
          ولقد أحسن أبو العتاهية حيث يقول:
ومن ذا الذي ينجو من النَّاس سالمًا                     وللنَّاس قالٌ بالظنون وقيلُ
          وقيل لابن المبارك: فلان يتكلَّم في أبي حنيفة، فأنشد:
حسدوا أنْ رأوك فضَّلك الله                     بما فُضِّلتْ به النجباء
          وقيل لأبي عاصم النَّبيل: فلان يتكلَّم في أبي حنيفة، فقال، هو كما قال نصيب:
سلمت وهل حيٌّ من النَّاس يسلمُ
          وقال أبو الأسود الدؤلي:
حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه                     فالقوم أعداءٌ له وخصوم
وَمَا عَابَ إِتْيَانٌ لِذِي مُلْكٍ اسْتَوَى                     وَلَا خِدْمَةٌ إِنْ كَانَ بِالصِّدْقِ يَخْدِمُ
          في «المقدِّمة»: أحمد بن عبد الملك بن واقد الحرانيُّ، وقد ينسب إلى جدِّه، قال ابن نمير: تركت حديثه لقول أهل بلده، وقال الميمونيُّ: قلت لأحمد: إنَّ أهل حرَّان يسيئون الثناء عليه، فقال: أهل حرَّان قلَّ أنْ يرضوا على إنسان، وهو يغشى السلطان بسبب ضيْعةٍ له.
          قلتُ: فأفصح أحمد بالسبب الذي طعن فيه أهل حرَّان من أجله، وهو غير قادح.
          قال أبو حاتم: كان من أهل الصِّدق والإيمان.
          وعاب ابن زائدة حميد / الطويل؛ لدخوله في شيء من الأمراء.
          وتوقَّف ابن سيرين في حميد بن هلال؛ لدخوله في عمل السلطان.
          ويقال: إنَّ مالكًا كره أبا الزناد عبد الله بن ذَكْوان؛ لأنَّه كان يعمل للسلطان، وقد قال البخاريُّ: أصحُّ أسانيد أبي هريرة: أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة.
          وقال الدارقطنيُّ في عنبسة بن سعيد بن العاص: ثقةٌ، وهو جليسٌ للحجَّاج بن يوسف.
          وقال الذهبيُّ: قد تكلَّم من لا يفهم في الزهريِّ؛ لكونه خضب بالسوداء، ولبس زيَّ الجند، وخدم عند هشام بن عبد الملك، وهذا بابٌ واسعٌ، والماء إذا بلغ قلَّتين لم يحمل الخبث.
          وفي «المقدِّمة»: في ترجمة عكرمة: قال أبو طالب: قلت لأحمد: ما كان شأن عكرمة، كان ابن سيرين لا يرضاه؟! قال: كان يرى رأي الخوارج، وكان يأتي الأمراء يطلب جوائزهم، ولم يترك موضعًا إلَّا خرج إليه.
          وقال عبد العزيز بن أبي داود: رأيت عكرمة بنيسابور، فقلت له: تركت الحرمين وجئت إلى خراسان؟ فقال: جئت أسعى على عيالي.
          وقال أبو نعيم: قدم على الوالي بأصبهان، فأجازه بثلاثة آلاف درهم.
          قال في الجواب: وأمَّا قبوله لجوائز الأمراء فليس ذلك بمانعٍ من قبول روايته، وهذا الزهريُّ قد كان في ذلك أشهر من عكرمة، فلم يترك أحدٌ الرواية عنه بسبب ذلك.
وَلَكِنَّ أَحْسَنَ الحُلَى لِذَوِي العُلَا                     تَحَلِّيهِمُ بِأَنْ يَتِيهُوا عَلَيْهِمُ
          وذلك كإسماعيل بن عُليَّة الأسديِّ، أسد خزيمة مولاهم البصريُّ، أصله من الكوفة، روى عن عبد الله بن المبارك أنَّه كان يتَّجر ويقول: لولا خمسة ما تجرت السفيانان وفضيل وابن السماك وابن عُليَّة، يعني: لِيَصِلَهم.
          فقدِم سنة، فقيل له: قد ولَّى ابن عُليَّة القضاء، فلم يأته ولم يصله بشيء، فأتى إليه ابن عُليَّة، فلم يرفع رأسه إليه، ثُمَّ كتب إليه ابن المبارك يقول:
يا جاعلَ العِلمِ لَهُ بازِيًا                     يصطادُ أموالَ المساكينِ
احتَلْتَ للدُّنْيَا وَلذَّاتِهَا                     بحِيلَةٍ تَذْهَبُ بِالدِّينِ
فَصِرْتَ مَجْنُونًا لَهَا بَعْدَمَا                     كُنْتَ دَوَاءً لِلمجَانِينِ
أَيْنَ رِوَايَتُكَ فِي سَرْدِهَا                     لِتَرْكِ أبْوَابِ السَّلَاطِينِ
أَيْنَ رِوَايَتُكَ فِيمَا مَضَى                     عَنِ ابنِ عَوْنٍ وابنِ سِيرينِ /
إنْ قُلتَ: أُكْرِهْتَ فَذَا بَاطِلٌ                     زَلَّ حِمَارُ الشَّيخِ فِي الطِّينِ
          فلمَّا وقف على الأبيات ذهب إلى الرشيد، ولم يزل به إلى أنْ أعفاه.
          قال شعبة فيه: سيِّد المحدِّثين، وقال أحمد: إليه المنتهى في التَّثبُّت بالبصرة، اتُّفق على جلالته وتوثيقه، وَلِيَ صدقات البصرة والمظالم ببغداد في آخر خلافة هارون، وكانت أمُّه عُلَيَّة نبيلة عاقلة، وكان صالح المريُّ وغيره من وجوه أهل البصرة وفقهائها يدخلون عليها فتبرز لهم وتجادلهم وتسائلهم.
          أقول: مَن شاء أنْ يعرف هذا فلينظر في كتاب «الإحياء» في (مخالطة العلماء للسلاطين) وما ذكروا في تفسير قوله تعالى:{ وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ }[هود:113].
          وبهذا صَدَّ كثيرٌ ممَّن طلب العلم عن كثير من الشيوخ، وقد وجدت بطرَّة «الكشَّاف» في تفسير { وَلاَ تَرْكَنُواْ }[هود:113] بخطِّ شيخ شيوخنا أبي حفص:
قلْ للأمير مقالةً                     من عالمٍ فطِنٍ نبيهِ
إنَّ الفقيه إذا أتى                     أبوابكم لا خير فيهِ
          وهي منسوبةٌ لأبي إسحاق الشاطبيِّ، قد ذيَّلتُها بقولي في الحال، شبه ارتجال:
إن رام يومًا نصحكم                     قلتم جهُول أو سفيه
ورميتموه بأنَّه                     متكلِّفٌ ما ليس فيه
وإذا أنلتم مرَّةً                     له بعض حقٍّ يرتجيه
قلتم ذباب واقع                     في عين نجس ينتجيه
لو كان ذا صدق بنا                     عن مالنا أو ما يليه
المال مالُ الله ما                     أنتم سوى وكلاءٍ فيهِ
ومن الحقوق عليكم                     أن تبلغوه من ذويهِ
من دون إحواج إلى                     طلب له من طالبيهِ
ولرُبَّ ذي مدحٍ لكم                     متعرِّضٍ بنيات فيهِ
جعل المديح حبالةً                     لقناصِ حقٍّ يقتضيهِ
أو أنْ يؤدى نصحكم                     في نشر مدح يحتليهِ
إذ ليس يحسن أن يُوا                     جهكم بسوءٍ يعتريهِ /
الصِّدقُ قلتم لو نحا                     سبل الهدى كان النزيه
لو كان ذا فقه جرى                     متثبِّتًا في نهج ذيهِ
          أي: صاحب فقه، وإنْ قيل: لا يضاف إلَّا إلى الظاهر:
إنَّ الفقيه هو الذي                     في دينه كان الفقيه
دع عنك رخصة راكنٍ                     لهم لضرِّ يختشيهِ
ولدفعِ ضرِّ من سوى                     ولجلب نفع يبتغيهِ
وما ذاك إلَّا جالبٌ                     للضرِّ فيما يعتميهِ
أو دافع للنَّفع في                     ما ظنُّ نفعًا يبتغيهِ
ولمتَّقي الله النجا                     ثمَّ النَّجاح لمتقيهِ
والله غير مضيِّعٍ                      عبدًا على عبدٍ يتيه
لا سيِّما من يجتبي                     صرف الحلال ويصطفيه
من يستعفَّ يعفُّه                     وينيله ما يرتضيه
لكنَّنا لم نصطبر                     الصبر مَطعَمُهُ كريه
قال الرسول المجتبى                     لشعاره ما يجتبيه
تلقون بعدي أثرةً                     صبرًا عليها يا بنيه
حتَّى تلاقوني على                     حوض يلذُّ لشاربيه
ولنحن أنصارُ النبـ                     ـيِّ بألسُن المدح النزيه
حبًّا له لا بُدَّ من                     صبرٍ على ما نلتقيهِ
الصَّبر مرقى للمنى                     هو سُلَّم من يرتقيهِ
يا ربَّنا هيِّئ لنا                      مِن أمرنا رُشدًا نليهِ
وَعِيبَ عَلَيْهِمْ قَبْضُ أَجْرِ حَديِثِهِمْ                     وَمَنْ كَانَ ذَا وَجْهٍ لَهُ القَبْضَ سَلَّمُوا
          [في ترجمة] عيسى بن يونس بن أبي إسحاق السبيعيِّ يقال: لما حجَّ الرشيد، ودخل الكوفة، أمر أبا يوسف أنْ يأمر المحدِّثين بملاقاته إلَّا اثنين: عبد الله بن إدريس، وعيسى بن يونس، فأرسل ولديه المأمون والأمين أن يروحا إليه، ويقرأا الحديث عليه، ففعلا، فأمر له بعشرة آلاف درهم، فامتنع، فظنُّوا / أنَّه استقلَّها فضوعف له، فقال: لو ملأتم المسجد إلى السقف ذهبًا لم آخذ شيئًا على الحديث، قيل: حجَّ خمسًا وأربعين حجَّةً، وغزا خمسًا وأربعين غزوةً.
          وسيأتي في التعريف بالفضل بن ذكين، ما فيه شاهد للجواز بلامَيْن.
          وفي [ترجمة] هشام بن عمَّار: قال ابن عديِّ: سمعتُ قسطنطين يقول: حضرتُ مجلسه فقال له المستمليُّ مَن ذكرت؟ فقال: حدَّثنا بعض مشايخنا ثُمَّ نعس، فقال لهم المستمليٌّ: لا تنتفعون، فجمعوا له شيئًا فأعطوه، وكان بعد ذلك يملي عليهم، بل قال الإسماعيليُّ عن عبد الله بن محمَّد بن يسار: أنَّ هشامًا كان يأخذ على كلِّ ورقتين درهمًا ويشارط، وقال صالح بن محمَّد: أنَّه كان لا يُحدِّثُ حتَّى يأخذ، وحفص بن عمر بن سخبرة ثقةٌ ثبتٌ، عيب بأخذ الأجرة على الحديث.
وَنَقْرٌ لِطُنْبُورٍ وَلَحْنُ قِرَاءَةٍ                     وَمَا بِعُدُولٍ جَرْحٌ أَنْ يَتَنَغَّمُوا
          في «المقدِّمة»: إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهريُّ: ثقةٌ، حجَّةٌ، قاله ابن معين.
          وقال أحمد والعجليُّ وحاتم: ثقةٌ، وقال صالح جزرة: كان صغيرًا حين سمع من الزهريِّ، وقال ابن عديِّ: هو من ثقات المسلمين، ثمَّ روى عن عبد الله بن أحمد عن أبيه قال: ذكر عند يحيى بن سعيد بن إبراهيم بن سعد، وعقيل بن خالد، فجعل يقول: عقيل وإبراهيم كابن سعد كأنَّه يضعِّفهما، قال أحمد: وأيش ينفع هذا؟ هذان ثقتان لم يخبرهما يحيى، قال ابن عديِّ: كلام من تكلَّم فيه؛ فيه تحامل، وأحاديثه عن الزهريِّ مستقيمة، أخرج له الجماعة.
          أقول: قال التقيُّ السبكيُّ: كان من العلماء الثقات، وَلِيَ قضاء المدينة، وكان أبوه قاضيها، وكان إبراهيم أسود اللَّون، قدم بغداد فأكرمه الرشيد، وأظهر برَّه، وسُئلَ عن الغناء فأفتى بتحليله.
          وذكر الإمام الخطيب أبو بكر بن ثابت في «تاريخ بغداد»: إبراهيم بن سعد بن إبراهيم قال: قدم العراق فأكرمه الرشيد، فسُئِلَ عن الغناء فأفتى بإباحته، فأتاه بعض المحدِّثين ليسمع منه أحاديث الزهريِّ، فسمعه يغنِّي، فقال: كنت حريصًا على السماع منك، فأمَّا الآن فلا أسمع منك حرفًا، فقال: إذًا لا أفقد إلَّا شخصك، وعليَّ أن لا أحدِّثَ ببغداد ما / أقمت فيه حديثًا؛ حتَّى أغنِّي قبله، فبلغ ذلك الرشيد فدعا به فسأله عن حديث المخزوميَّة التي قطعها رسول الله صلعم في سرقة الحليِّ، فدعا بعودٍ، فقال الرشيد: أعود المجمر؟ قال: لا، ولكن عود الطرب، فتبسَّم، ففهمها الشيخ فقال: لعلَّه بلغك يا أمير المؤمنين حديثي الذي ألجأني إلى أن حلفت، فدعا الرشيد بعودٍ فغنَّاه.
          وفي «طُرَّة»: قدم بغداد وأقام بها ووَلِيَ بيت المال لهارون الرشيد.
          وفي «المقدِّمة»: قال ابن أبي حاتم: روى وهب بن جرير عن شعبة أنَّه قال: أتيتُ منزل المنهال بن عمرو، فسمعت منه صوت الطنبور فرجعت ولم أسأله، فقلت: فهلَّا سألته عسى كان لا يعلم؟!
          قلت: وهذا اعتراضٌ صحيح، فإنَّ هذا لا يوجب قدحًا في المنهال.
          وفي رواية ابن أبي حاتم: سمعت عبد الله بن أحمد يقول: ترك شعبة المنهال بن عمرو على عمد، قال ابن أبي حاتم: لأنَّه سمع من داره صوت قراءة بالتطريب.
          قال في «المقدِّمة»: حكى جرير عن مغيرة: أنَّه قال: كان المنهال حسن الصوت، وكان له لحنٌ يقال له: وزن سبعة، وهذا لا يجرح الثقة.
          أقول: في (سبأ): { وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ }[سبأ:10].
           وفي (ص): { إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ }[ص:18].
          وفي «الصحيح»: «لقد أوتي هذا مزمارًا» وقد اعترضوا على خليل في قوله: «وقراءة بتلحين».