نفحة المسك الداري لقارئ صحيح البخاري

المقدمة

          ♫
          وصلَّى الله على سيِّدنا ومولانا محمَّدٍ وآله وسلَّم.
          الحمد لله الذي نزَّل أحسن الحديث على أكرم مرسلٍ، ومسندٍ عنه حديث ليبِّين للنَّاس ما نزل إليهم، فكان أعظم مِنَّة عليهم، صلَّى الله عليه وعلى آله أمانِ أُمَّته، وصحبه نجومِ ملَّته، الصادقين في محبَّته، بالاعتصام بكتابه وسُنَّته.
          وبعد؛ فهذه منَحٌ إلهيَّة، ومواهب اختصاصية، تُشنَّف بها المسامع، وتشرَّف بها المجامع، وتُبهِج القارئ والسَّامع، لكتاب أبي عبد الله محمَّد بن إسماعيل البخاريِّ الجامع، ادَّخرها المولى الكريم، ذو الفضل العظيم، لأفقر عبده وأحوجهم لتأييده، حَمدُون بن عبد الرحمن ابن الحاج الفاسيُّ دارًا، المِرْدَاسيُّ نِجارًا، أمدَّه الباري بفتحه الساري، وسمَّيتُها: «نفحةُ المِسْكِ الدَّاري لقَارئ صحيحِ البخَاريِّ» شرحتُ بها قصيدةً لنا مضمّنةً لذلك، سالكًا فيها أحسنَ المسالك، مغنيةً عن كلِّ مقدمةٍ مهمَّةٍ لكيفية الشروع فيه مُفهمة، وهي هذه:
أَمُبْتَغِيًا شَيْخًا بِهِ يَتَقَوَّمُ                     لِسَيْرٍ وَيَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ
          (بِهِ يَتَقَوَّمُ لِسَيْرٍ) لقوله تعالى: { إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } [الإسراء:9]؛ أي: وبه يصير شيخًا بنفسه يهدي غيره للتي هي أقوم.
فَهَذَا كِتَابُ اللهِ أيُّ خَلِيفَةٍ                     عَنِ المُصْطَفَى مِنْ بَعدِهِ وَمُحكَّمُ
          (أيُّ خليفةٍ) ويلزم منه أنْ يكون محكمًا، وقد قال تعالى: { أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا } [الأنعام:114]ولله دَرُّ البوصيريِّ إذ قال:
محكَّماتٌ فما يُبقينَ من شُبَهٍ                     لذي شِقاقٍ ولا يُبقينَ من حكم
كَمَا أَطْلَعَتْهُ البِكْرُ فِي مَطْلَعٍ وَفِي                     نَظَائِرِهَا مِنْ ذَاكَ مَا لَيْسَ يُكْتَمُ
          (البِكْر) البقرة (ونظائرها) الكهف، وطه، وفاطر، والصَّافَّات، والطُّور، والواقعة، / والجمعة، والمرسلات، والنَّازعات، و{أَلَمْ نَشْرَحْ} والعلق، والفلق، كما ذلك مبيَّنٌ في قصيدتنا «الميميَّة».
          أشار إلى أنَّ الله جلَّ عُلاه، أقام كتابه العزيز الذي معجزته معه، ولا تنقضي عجائبه، وقام الخليفة عن رسول الله، ولذلك لم يبعث من بعده رسولًا كما بعث بعد موسى مثلًا، كما أشار إليه في صدر الكتاب العزيز بقوله: { الم. ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ }[البقرة:1-2]؛ أي: زيادة هدًى لهم من أيِّ الأصناف الثلاثة كانوا، وفي أيِّ زمانٍ بانوا، يستنبطون منه بحسب تقويمهم، وقد قال الرسول: «إنِّي لأعلمكم بالله، وأتقاكم له» وفي حديث عليٍّ ☺: «أو فهمٍ أوتيه رجلٌ في كتاب الله».
          { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ }[البقرة:6]؛ أي: ممَّن حضر حالة النزول أو أتى بعد ذلك، { سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ } [البقرة:6] بهذا الكتاب، كما قال تعالى: { لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ } [الأنعام:19] عن سعيد بن جبير: «مَنْ بلغه القرآن فكأنَّما رأى محمَّدًا صلعم».
          وفي (الكهف): { لِّيُنذِرَ } [الكهف:2]؛ أي: ينذر بالكتاب طوائف الكفَّار، وخصوصًا الذين قالوا اتَّخذ الله ولدًا زمان النزول وبعده، ويبشِّر المؤمنين على العموم أيضًا، وقد ختمت بقوله: { قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا }[الكهف:109].
          وفي (طه): { إِلَّا تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى } [طه:3]؛ أي: لمن حضر أو بلغه القرآن، { وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْرًا } [طه:99]، { وَمَنْ أَعْرَضَ عَن } [طه:124] في زمانك أو بعده، { فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى } [طه:123]؛ أي: ومَنْ لم يتبع فيضلُّ ويشقى، فمن لم يُعرض عن ذكري الذي هو أعظم هداي؛ فإنَّ له معيشةً طيِّبة وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذا، ومن أعرض... إلى آخره.
          وفي (فاطر): { جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ } [فاطر:1] الذين من جملتهم النازلون بالذِّكر، {رُسُلًا} فـ{ مَا يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ } [فاطر:2] فمنْ حضر النزول أو تأخَّر من رحمةٍ بالذكر المنزَّل، { إِنَّمَا تُنذِرُ } [فاطر:18] ؛ أي: بالكتاب، { الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالغَيْبِ }[فاطر:18]؛ أي: ممَّن حضر ومن لا، وفي آخرها: { وَأَقْسَمُوا...}[فاطر:42] إلى آخره.
          وفي (الصَّافات): { فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا } [الصافات:3]؛ أي: على مَنْ نزلت عليه بالوحي من الرسل الذين أعظمهم محمَّد صلعم المبلِّغ لمن حضر ومن تأخَّر، وفي آخرها: { وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ... }[الصافاتك167] إلى آخره، وهكذا يعتبر فيما بقي من السور.
          وفي «صحيح البُخاريِّ» من حديث عمر: «فإنْ يكنْ محمَّد قد مات، فإنَّ الله قد جعل بين أظهركم نورًا تهتدون به بما هدى الله محمَّدًا» وسيأتي حديث: «إنِّي تاركٌ فيكم ثقلين»، وفي رواية: «خليفتين»، وفي حديث الديلميِّ عن معاذ رفعه:«أطيعوني ما دمت بين أظهركم، فإذا ذهبت فعليكم بكتاب الله، أحلُّوا حلاله، وحرِّموا حرامه...» الحديث، ولله دَرُّ القائل: /
كتابي إليكم فافهموه فإنَّه                      رسولٌ إليكم، والكتابُ رسولُ
هُدًى، كُلُّ نَوْعٍ مِنْهُ هَادٍ لِمَا هَدَى                     لَهُ رَوْضَةٌ أَزْهَارُهَا تُتَنَسَّمُ
وَجُلُّهُ فِي الزَّهْراءِ يُزْهِرُ وَجْهُهُ                     يَلُوحُ لِمَنْ يَرَى وَلَا يَتَلَثَّمُ
وَهَذِي أَحَاديثُ الرَّسُولِ مُبِينَةٌ                     لَهُ وَلِأَدْوَاءِ الجَهَالَةِ مَرْهَمُ
          قال الخطيب التبريزيُّ في خطبة «مشكاة المصابيح»: أمَّا بعد؛ فإنَّ التمسُّك بهُداه لا يثبت إلَّا باقتفاء لما صدر من مشكاته، والاعتصام بحبل الله لا يتمُّ إلا ببيان كشفه لمجملاته.
          قال شارحه: ولا خفاء في الإجمالات القرآنيَّة، والتبيينات الحديثيَّة، فإن الصَّلاة مجملةٌ، لم يبيِّن أوقاتها وأعدادها وأركانها وشرائطها وواجباتها وسننها ومكروهاتها ومفسداتها إلَّا السُّنَّةُ، وكذا الزَّكاة لم يعلم مقدارها وتفاصيل نصابها ومصارفها إلَّا بالحديث، وكذا الصَّوم، والحجُّ، وسائر الأمور الشرعيَّة، والقضايا، والأحكام الدينيَّة، وتمييز الحلال والحرام، وتفاصيل الأحوال الأخرويَّة.
          ونحنُ نقول: قال تعالى: { رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ }[البقرة:129]؛ أي: في الأمَّة المسلمة، { رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو }[البقرة:129] يقرأ متابعًا مواصلًا عليهم، { آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } [البقرة:129]؛ أي: دقائق الإشارات الشَّافية لأمراض القلوب، المانعة من اتِّباع الهوى.
          قال الحرَّاليُّ: فخصَّ تعليم الحكمة من عموم تعليم الكتاب؛ لأنَّ التوسُّل بالأحكام جهد عمل، والتَّوسُّل بالحكمة يسرُّ منال عقل؛ لأنَّ الحكمة منال الأمر الذي فيه عُسرٌ بسبب فيه يُسرٌ، وقال: وفي تكملة الكتاب والحكمة بكلمة إلى إنهاء إلى الغاية الجامعة لكلِّ كتاب وحكمة، وبذلك كان صلعم يتكلَّم بكلماتٍ يعجز عنها إدراك الخلق، ثُمَّ قال بعد: فعلى قدر ما وهب الله العبد من العقل يعلِّمه الكتاب والحكمة، يؤثر عن عمر ☺ أنَّه قال: كان رسول الله صلعم يكلِّم أبا بكرٍ ☺، فكأنَّما يتكلَّمان بلسان أعجم، لا أفهم ممَّا يقولان شيئًا.
          { وَيُزَكِّيهِمْ }[البقرة:129]؛ أي: يعلِّمهم ما لم يكونوا يعلمون، وقال تعالى تمشِّيًا ببعثته على طبق دعوة أبويه تلك: { كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ } [البقرة:151]؛ أي: يطهِّركم في أقوالكم وأفعالكم ممَّا دنَّس اليهود بإنكار النَّسخ، وكتم الحقِّ، فهذه الحالة التي اقتضت ذكر التزكية هنا / {وَيُعَلِّمُكُمُ...}[البقرة:151] إلى آخره، وقال: { لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ }[آل عمران:164] ممَّا يدنِّسهم؛ كالإقبال على الغنيمة التي كانت سبب الهزيمة؛ لكونه إقبالًا على الدنيا التي هي أمُّ الأدناس، فهذه الحال اقتضت ذكر التزكية هنا.
          { وَيُعَلِّمُهُمُ...}[البقرة:129] إلى آخره، وقال: { تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ } [يوسف:1]؛ أي: يبرِّئ الأمِّيين من الشرك الأكبر ليقبلوا ما جاءهم من العلم، فهذه الحال، وهو أنَّ البعث في الأمِّيين اقتضت ذكر التزكية هنا.
          { وَيُعَلِّمُهُمُ }[البقرة:129] وقال: { لَقَدْ جَاءكُمْ }[التوبة:128].
          وأشرنا في قصيدتنا «الميميَّة» التي تفسيرها بقولنا:
وجاءنا طبق دعوة الخليل ويا                     لله من مِنَّة عظمى لمغشم
شمس الرسالة أنفس الخليفة أعـ                     ـلاهم، وأعلاهم في كلِّ ما شمم
أعلاهم نسبًا ما دُرٌّ متسق                     أعلاهم حسبًا ما زهر مبتسم
عزيزٌ اعتزَّ بالعزيز لا شبه                     في خَلقٍ أو خُلقٍ أو علمٍ أو كرم
عليه ما عنِتوا حتَّى يزكيهم                     طوعًا وكرهًا من الأرجاس والرسم
شديدُ حرصٍ على هديهم وعلى                     أنْ يعلموا ما أتى من حكم أو حكم
كَأَنَّ كِتَابَ اللهِ مَنْسُوجُ سُنْدُسٍ                     وَلَفْظَ رَسُولِ اللهِ طَرْزٌ مُعَلَّمُ
كَأَنَّ كِتَابَ اللهِ مَرقُومُ عَسْجَدٍ                     ولَفْظَ رَسُولِ اللهِ غُنْجٌ مُنَمْنَمُ
          كنت وأنا أدرِّس «الصحيح» أُبيِّنُ في كلِّ بابٍ أصله من الكتاب، فرأيتُ في النوم كأنَّ في حجري لوحًا
          أخضر مُرصَّعًا بجواهر ترصيعًا، لا يرى مثله، ولا أرى حدَّ اللوح في الارتفاع إلى السماء، فأوَّلت اللوح بالكتاب، والجواهر المرصَّعة بالأحاديث المبيَّنة المكمِّلة لحُسنِه، ثُمَّ رأيت بعد كأنَّ قرطاسًا نزل من السماء مكتوبًا بالذهب بخطِّ المولى جلَّ شأنًا، وعظم سلطانًا، وقد أكحله النبيُّ صلعم بالغُنْجِ، فأخذته وبيدي قلم غُنْج، فجعلت أتتبع، هل ترك النبيُّ صلعم حرفًا منه لم يكَّحله، فلم أظفر به، فأوَّلتُ ذلك بذلك؛ لأنَّ كتابة الذهب لا تبيَّن إلَّا بالغنج.
وَذَلِكَ فِي تَاجٍ بِتُومَةٍ انْجَلَتْ                     وَفِي شِبْهِ تَاجٍ مِنْهُ دُرٌّ مُنَظَّمُ
          وذلك أن كون الأحاديث مبيِّنة لكتاب الله.
          و(التاج) آل عمران، و(شبهها) الإسراء، و{اقتَرَبَ} وسبأ، و{ص} والذاريات، والرحمن، والمنافقون، و{هَلْ أَتَى} و{عَبَسَ} والضحى، / والقدر، والإخلاص، أشار إلى أنَّ الله تعالى أشار في آل عمران ونظائرها إلى أنَّ الحديث مبيِّن للكتاب العزيز.
          ففي (آل عمران) { وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ }[آل عمران:4] ومعلومٌ ما قيل فيه، ولا يبعد أنْ يحمل أيضًا على بيان الرسول، ألا ترى إلى ذكر المبتدعة في داخل السورة التي ما ضلَّت وأضلَّت إلَّا من حيث ضلَّت عن سُنَّة رسول الله صلعم؟!
ولَيْسَ رُسُوخُ عِلْمٍ إِلَّا بِهَا وَمَنْ                     يَزِغْ زَاغَ قَلْبًا قَلَّمَا مِنْهُ يَسْلَمُ
          فيها أيضًا: { وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ }[آل عمران:7] وأخرج الديلميُّ وغيره عن عمر أنَّه قال: «سيأتي ناس يجادلونكم بشبهات القرآن، فخذوهم بالسُّنن، فإن أصحاب السُّنن أعلم بكتاب الله».
          قال الحاكم: لولا كثرة طائفة المحدِّثين على حفظ الأسانيد؛ لدرسَ منَارُ الإسلام، ولتمكَّن أهلُ الإلحاد والمبتدعة من وضع الأحاديث وقلب الأسانيد.
ورؤيا الإمام الأشعريِّ مزيلةٌ                     لريبٍ، فلا إشكال والله أعلم
          في «حاشية اليوسي»: ذكر الإفرانيُّ عن القاضي عياض عن أبي عبد الله الأزديِّ: أنَّ الأشعريَّ كان في ابتداء أمره معتزليًّا، وكان مقدمًا على نظائره في الاعتزال، ثُمَّ رجع إلى مذهب أهل السُّنَّة فكثر التعجُّب منه، وسئل عن ذلك فقال: نمتُ ليلة من رمضان، فرأيت النبيَّ صلعم وقال لي: «يا أبا الحسن؛ كتبت الحديث؟» فقلت: نعم، يا رسول الله، قال: «فهل كتبت فيه أنَّي قلت أنَّ الله يُرى في الآخرة بالأبصار؟» قلت: نعم، قال: «فلِمَ لا تقول به؟» قلت: قامت الأدلَّة العقليَّة على أنَّ القديم لا يُرى في الآخرة، فحملت الخبر على التأويل، ولم أحمله على ظاهره، فقال لي: «أطلب فإنَّك تجد ذلك على خلاف ما اعتقدت» فلمَّا أصبحت اشتغلت بالحديث والقرآن، وتركت علم الكلام، فلما كان في العشر الثاني رأيته فقال لي: «ما عملتَ في المسائل التي طلبتُ منك؟» قلت: يا رسول الله؛ تركت الكلام واشتغلت بالحديث والقرآن، فغضب وقال: «أقول لك شيئًا وتعمل غيره، وقد قلت لك: أُطلب علم الكلام، وأثبت مسألة الرؤية» فلما انتبهت قلت: والله ما أدري ما أفعل؟ كيف أدع المذاهب المقرَّرة بالمنام؟ فالويل لي من تشنيع المعتزلة إنْ قلت بذلك، وبقيت في أمري متفكِّرًا متحيِّرًا، فلمَّا أنْ كانت ليلة سبع وعشرين خرجت إلى الجامع، ودخلت في الصلاة، / فوقع عليَّ نومٌ كالموت الذي لا يندفع بحيلة، فقمت باكيًا على ما فاتني من ذلك، فلما دخلت البيت نِمْتُ، فرأيت النبيَّ صلعم فقال: «ما الذي عملت فيما قلتُ لك؟» قلت: يا رسول الله؛ كيف أدعُ مذهبًا نصرته أربعين سنة؟ يقول الناس: هذا رجل موسوس، يدعُ المذاهب بالمنامات، فغضب غضبًا شديدًا وقال: «كذلك كانوا يقولون: إنَّه موسوس ومجنون، وما تركت الحقَّ لأجل أقوال الناس، فهذه اعتذارات باطلة، فدعها، وانصر هذه المسائل من الرؤية، وعدم القول بخلق القرآن، والقضاء والقدر، وأنَّ الله قادرٌ على كلِّ شيء، والله تعالى يُلهمك الأدلَّة، وإيَّاك أنْ توقع في ذلك تقصيرًا، واسلك في نصرة ما قلت لك: الكتاب والسَّنُّة وأدلَّة العقول، فإنها حقٌّ وصوابٌ» فانتبهت ونصرت هذه الطريقة.
          قال الإفرانيُّ: فهذه المسائل التي أمره النبيُّ صلعم بها هي عمدة علم الكلام، وإذا أردت بسط الكلام في رؤيا الإمام؛ فانظر «حاشية شيخ شيوخنا أبي حفص سيِّدي عمر الفاسي».
هُمَا شَاهِدَا صِدْقٍ عَلَى النُّكَتِ الَّتِي                     تَحُلُّ بِقَلْبِ السَّالِكِينَ وتُرْسَمُ
          قال تعالى: { إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ } [آل عمران:31] قال أبو سليمان الدارانيُّ ☺: ربَّما تقعُ النكتة في باطني من نكت القوم أيَّامًا، فلا أقبلها إلَّا بشاهدين عدلين؛ وهما: الكتاب والسُّنَّة.
          وإلى هذا المعنى أشار إمام أهل الطريقة أبو القاسم الجنيد ☺بقوله: مَنْ لم يحفظ القرآن، ولم يكتب الحديث، لا يقتدى به في هذا الأمر؛ لأنَّ أمورنا مقيَّدةٌ بالكتاب والسُّنَّة.
لِتَوْرَاةٍ إنْجِيلٌ أَتَتْ مِثْلَمَا أَتَى                     لِذِكْرٍ حَدِيثٌ وَهْوَ فِي «وَيُعَلِّمُ»
          أي: { وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ }[آل عمران:48].
هُمَا الشَّهْدُ وَالزُّبْدُ الَّذِي نَطَقَتْ بِهِ                     سَحَابٌ أَظَلَّتْ مِنْ لَظًى تَتَحَطَّمُ
وَحَبْلٌ تَدَلَّى مِنْهُمَا كَانَ نَسْجُهُ                     وَفِي {اعْتَصِمُوا} بِهِ بَدَا وَهْوَ مُبْرَمُ
          وفيها: { وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ }[آل عمران:101]؛ أي: المبيِّن عن الله، { وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ } [التوبة:101] وأخرج البخاريُّ ومسلم وأبو داود والنسائيُّ وابن ماجه عن ابن عبَّاس: أنَّ رجلًا أتى رسول الله صلعم فقال: إني رأيت / الليلة في المنام ظلَّة ؛ _أي: سحابة_ تنطف السمن والعسل فأرى الناس يتكفَّفون منها فالمستكثر والمستقلُّ، وإذا سبب واصلٌ من الأرض إلى السماء، فأراك أخذت به فعلوت، ثُمَّ أخذ به رجلٌ آخر فعلا به، ثُمَّ أخذ به رجلٌ آخر فعلا به، ثُمَّ أخذ به رجل آخر فانقطع، ثُمَّ وصل، فقال أبو بكر: يا رسول الله؛ بأبي أنت وأمِّي؛ لتدعني فأعبرنَّها، فقال النبيُّ صلعم: «اُعبر» قال: أمَّا الظُّلة فالإسلام، وأمَّا الذي تنطف من العسل والسمن فالقرآن، حلاوته تنطف، فالمستكثر من القرآن والمستقلُّ، وأمَّا السبب الواصل من السماء إلى الأرض فالحقُّ الذي أنت عليه، تأخذ به فيعليك الله، ثمَّ يأخذ به رجلٌ من بعدك فيعلو به، ثمَّ يأخذ به رجلٌ آخر فيعلو به، ثمَّ يأخذ به رجلٌ آخر فينقطع به، ثمَّ يوصل له فيعلو به، فأخبرني يا رسول الله؛ بأبي أنت وأمِّي، أصبتُ أم أخطأت؟ قال النبيُّ صلعم: «أصبت بعضًا وأخطأت بعضًا» قال: فوالله يا رسول الله لَتحدِّثني بالذي أخطأت قال: «لا تُقسم».
          قيل: أخطأ لكونه عبَّر العسل فقط.
          أقول: فيه نظرٌ لا يخفى على من نظر، بل عبَّر العسل والسمن لكونه حلوًا أيضًا؛ لأنَّ من القرآن ما هو كالعسل، ومنه ما هو كالسمن، { هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ }[آل عمران:7].
          قالوا: وكان من حقِّه أن يعبِّرهما بالقرآن والسُّنَّة؛ لأنَّهما بيانٌ للكتاب المنزِّل عليه، وبهما تتمُّ الأحكام كتمام اللَّذة به؛ أي: السمن.
          أقول: والعسل كالقرآن الذي تنزل به الملائكة ولها دويٌّ، والسمن المستخرج من اللبن: السُّنَّة المستخرجة من القرآن.
          قوله: (وحبل) يشير به إلى أنَّ الحبل المذكور في الحديث هو مأخوذٌ منهما، وهو الحقُّ وما عليه الجماعة، وهو الذي انقطع بعثمان ثمَّ وصل له لمَّا أعتبهم، وفي «طبقات السبكيِّ» عن موسى بن طلحة قال: ما رأيت أخطب من عائشة ولا أعرب، لقد رأيتها يوم الجمل وثار إليها النَّاس فقالوا: يا أمَّ المؤمنين؛ حدِّثينا عن عثمان وقتله، فاستجلست النَّاس ثُمَّ حمدت الله وأثنت عليه، ثُمَّ قالت: «أمَّا بعد؛ فإنَّكم نقمتم على عثمان خصالًا ثلاثًا: إمرة الفتى، وضرب السوط، وموقع الغمامة المحماة، فلما أعتبنا منها [مصتموه موص] / الثوب بالصابون، عدوتم به الفقر الثلاث: حرمة الشهر الحرام، وحرمة البلد الحرام، وحرمة الخلافة، والله لعثمانُ كان أتقاكم للربِّ، وأوصلكم للرحم، وأحصنكم فرجًا، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم».
          قال البوشنجيُّ: أمَّا قولها: (إمرة الفتى) فإنَّ عثمان ولَّى الكوفة الوليد بن عقبة بن أبي معيط لقرابته منه، وعزل سعد بن أبي وقاص.
          وأمَّا قولها: (ضرب السوط) فإنَّ عثمان تناول عمَّار بن ياسر، وأبا ذرٍّ ببعض التقويم كما يؤدِّب الإمام رعيَّته.
          وأمَّا قولها: (موقع الغمامة المحماة) فإنَّ عثمان حمى أحماء في بلاد العرب لإبل الصَّدقة، وقد كان عمر حمى أحماء أيضًا، لذلك فلم ينكر النَّاس ذلك على عمر، فهذه الثلاث التي قالتها عائشة، فلما استعتبوه منها أعتبهم ورجع إلى مرادهم.
          وقولها: (مصتموه موص) الموص: الغسل، والفقر: الفرص، يقال: أفقر الصيد إذا وجد الصائد فرصته، وكان عثمان آمنًا أنَّهم لا يعدون عليه في الشهر الحرام، وأنَّهم لا يستحلِّون حرم رسول الله صلعم وهي: المدينة، وكانت الثالثة: حرمة الخلافة.
          قلت: ومع هذا فلم يشر الشاعر في قوله:
قتلوا ابن عفَّان الخليفة محرمًا                     ودعا فلم أرَ مثله مخذولًا
          إلى شيء من الحرمات الثلاث، ولا حرمة الإحرام، فإنَّ عثمان لم يكن أحرم بالحجِّ، وإنما أراد على ما ذكر الأصمعيُّ أنَّهُ لم يكن أتى مُحرمًا يحلُّ عقوبته.
          أقول: في هذا نظرٌ، وإنما أراد بقوله محرمًا: الدخول في الحرمات الثلاث، كيف وخطبة عائشة إذ ذاك كانت شائعةً ذائعة هناك؟!.
          وقوله: (وَفِي {اعْتَصِمُوا})؛ أي: { وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا }[آل عمران:103]، قيل: المراد به دينه؛ أي: المنتظم منهما، وفي «ترجمة البُخاريِّ»: (باب: الاعتصام بالكتاب والسنُّة) ثمَّ إيراد حديث: «لو أنَّ علينا...» نزلت هذه الآية: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ }[المائدة:3] ترجيح له على غيره، وقد أخرج الإمام أحمد وأبو داود عن معاوية رفعه: «أنَّ أهل الكتاب افترقوا في دينهم اثنتين وسبعين ملَّة، وأنَّ هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملَّة ؛ _يعني: الأهواء_ كلُّها في النَّار إلَّا واحدة، وهي الجماعة» وقيل: كتابه وقيل: رسوله وقيل: الجماعة، / والحقُّ أنَّها عباراتٌ والمقصود واحدٌ.
          وفي (سورة الإسراء) ما تضمَّن أنَّه صلعم أوتيَ في إسرائه من العلم والحكمة ما لم يؤتَ غيره، كما قال في النجم: { فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى } [النجم:10] وفيها: { وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا } [الإسراء:55] وفيها تلميحٌ لما أوتيه صلعم من العلم والحكمة الذي فضِّل به على داود وسليمان، وقد بيَّنَّا ذلك في قصَّة الإسراء من «شرح الميميَّة» وقال: فيما أتى بعدها صعودًا من (سورة النحل): { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ } [النحل:44] قال البقاعيُّ: أي: كافَّة بما أعطاك الله من الفهم الذي فُقتَ فيه جميع الخلق، واللسان الذي هو أعظم الألسنة وأفصحها، وقد أوصلك الله فيه إلى رتبةٍ لم يصل إليها أحد، ما نزل إليهم من هذا الشرع الهادي إلى سعادة الدارين بتبيين المجمل، وشرح ما أشكل من علم أصول الدين الذي رأسه التوحيد، ومن البعث وغيره.
          وفي { اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ }[الأنبياء:1]؛ أي: عن النظر في آيات الله المجلوَّة، { أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ } [الأعراف:185] والمتلوَّة، وعن آيات الرسول، {مُعْرِضُونَ} عنها وعمَّن ينبِّههم عليها.
          وفي وسط السورة ذكر ما أتى الله أنبياءه من العلم والحكمة وذكر داود وسليمان، وفي آخرها: { إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ. وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } [الأنبياء:106-107].
           وفي (سبأ): { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ } [سبأ:1] ولا متصرِّف فيهما سواه حتَّى يتحكَّموا على الله ويقولوا:
          { لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ }[الزخرف:31].
          { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ }[الزخرف:32].
          { وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا }[الحج:51].
          { وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ }[سبأ:6].
          { وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا }[سبأ:10].
          وآتيناك يا محمَّد ما هو أفضل ممَّا آتيناهما، { قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى } [سبأ:46].
          وفي (ص): { وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ } [ص:1]؛ أي: المنزَّل إليك أيُّها الرسول الذي آتيناه من الحكمة وفصل الخطاب ما لم نؤته أحدًا كما في داخل السورة ذكر ما أوتيه داود وسليمان، وفي آخرها: { مَا كَانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ }[ص:69].
          وقد أدخل في ذلك رؤياه ربُّه ╡ في أحسن صورة، وقوله له: «فيمَ يختصم الملأ الأعلى؟».
           وفي (الرحمن): { خَلَقَ الْإِنسَانَ. عَلَّمَهُ الْبَيَانَ }[الرحمن:3-4].
          قال الإمام أبو حامد في «لباب المعارف العقليَّة»: يمكن أنْ يكون الإنسان شخصَ / محمَّد صلعم، وأنَّ الله تعالى علَّمه القرآن، وكتب معانيه في قلبه، ثُمَّ أوحى إليه بواسطة جبريل ◙ وأمره بالبيان على المسموع المعلوم بلسانه مع أمِّته وأصحابه كما قال: { وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ . نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ }[الشعراء:192-193].
          ولنا من قصيدة في «ختم البُخاريِّ» قبل اطِّلاعنا على كلام أبي حامد ظانِّينَ أنَّا لم نصبوا إليه، ولله كلُّ المحامد:
سبحان من علَّم القرآن معجزة                     دامت، وبحرًا مفيضًا دائمًا مددا
أبقاه فينا محمَّد خليفته                      يفيد ما لم تفد رسل وما نفدا
سبحان من خلق الإنسان علَّمه الـ                     ـبيان ينبي به عن كلِّ ما قصدا
وإنَّما صفوةُ الإنسان نخبته                     محمَّدٌ خيرُ من أتى ومن وردا
أتى مبيِّن أحكام به خفيت                     وحكمة شفت الفؤاد والجسدا
حتَّى جلا الملَّة السمحاء سافرةً                      فكان أعظم رحمة لنا وهدى
وخصَّ ربُّه أمَّة به رُحمت                      بما به خصَّ معطيًا لما سندا
حتَّى كان رسول الله شافهها                      في كلِّ حينٍ بما أتى به وهدى
          وفي {هَلْ أَتَى}: { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنزِيلًا. فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ ...}[الإنسان:23-24] ثُمَّ أمره بمثل عبادة داود، وفي السورة التي تلتها صعودًا: { ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ }[القيامة:19]؛ أي: بيان مجملاته، وتوضيح مشكلاته، وفي «موطَّأ» مالك: بلغه أنَّ رسول الله صلعم قال: «تركت فيكم أمرين لن تضلُّوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسُنَّة نبيِّه صلعم» قال الإمام أبو بكر ابن العربيِّ: قد رويَ هذا الحديث مسندًا من حديث أبي هريرة وعمر، أمَّا حديث أبي هريرة فقال: قال رسول الله صلعم: «إنِّي قد خلَّفت فيكم الثقلين _أو قال_ اثنين لن تضلُّوا ما تمسَّكتم بهما: كتاب الله وسنَّتي» قال الإمام الرازيُّ: الهدى على الهدى في اتِّباع كتاب الله وسُنَّة نبيِّه؛ فهي المبيِّنة مراد كتاب الله، إذا أشكل ظاهره إثبات السنَّة عن باطنه، وهو مراد الله منه، وقال الحافظ ابن عساكر:
واظبْ على جمع الحديث وكتبه                     واجهد على تصحيحه في كتبه
فهو المفسِّر للكتاب وإنَّما                     نطق النبيُّ لنا به عن ربِّه /
هُمَا كَفَّتَانِ لِلْقِيَاسِ مَنَاطِ الاجْـ                     ـتِهَادِ بِهِ يَبْدُو الَّذِي هُوَ مُبْهَمُ
هُمَا وَالقِيَاسُ، وَالقِيَاسُ جَنَاهُمَا                     أُصُولٌ لِإِجْمَاعٍ وَقَدْ تَتَلَثَّمُ
وَذَلِكَ فِي النِّسَا لِمَنْ كَانَ ذَا ائْتِسَا                     تَرَتَّبَ عَقْدًا مِثْلُهُ لَيْسَ يُفْصَمُ
          قال تعالى في (سورة النساء): { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ...}[النساء:59] إلى آخره، { لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ }[النساء:105] إشارة للاجتهاد، { وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ...}[النساء:115] إلى آخره، إشارة للإجماع.
          وقوله: (ترتَّب...) إلى آخره، إشارة لردِّ من قدَّم الإجماع على القياس وإنْ كان فاق ذكاء إياس.
          ومن نظائر (سورة النساء) (سورة النحل) وفيها: { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا...}[النحل:89] إلى آخره.
          و(سورة الحجِّ) وفيها: { وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ } [الحج:8].
          و(سورة الأحزاب) وفيها:{ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا }[الأحزاب:46].
بِهِ عَمَلٌ لِأَهْلِ طَيْبَةَ مُلْحَقٌ                     ذُرَا الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَهُمْ هُمُ
          ومن طاعة الرسول؛ أي: المذكورة في قوله: { وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا } [النور:54] لطيبة؛ أي: أهلها.
كَمَا فِي {وَمَا آتَاكُمُ} شَمْسُهُ انْجَلَتْ                     لَنَا وَهْيَ عَنْ غَيْرٍ بَدَتْ تَتَلَثَّمُ
          قال مالكٌ وأتباعه: إجماع علماء المدينة حجَّة، وأحرى عندهم إجماع أهل الحرمين.
          وفي «البُخاريِّ» بعد (باب: الاعتصام بالكتاب والسُّنَّة) (باب: ما ذكر النبيُّ صلعم وحضَّ عليه من اتِّفاق أهل العلم، وما أجمع عليه الحرمان)؛ أي: أهلهما مكَّة والمدينة، وما كان بها من مشاهد النبيِّ صلعم، والمهاجرين والأنصار، ومصلَّى النبيِّ صلعم، والمنبر والقبر.
          قوله: (وما كان بها)؛ أي: بالمدينة، مُراده ترجيح مذهب مالك، فذكر ما يدلُّ على فضل المدينة وأهلها، ثُمَّ ذكر حديث جابر ☺عن النبيِّ صلعم: «إنَّما المدينة كالكير تنفي خبثها وينصع طيبها» ثُمَّ قصَّة عمر وقول عبد الرحمن بن عوف له: أمهل حتَّى تقدم المدينة دار الهجرة، ودار السنَّة فتخلص بأصحاب رسول الله صلعم من المهاجرين والأنصار...إلى آخره.
          وروى الترمذيُّ وغيره وصحَّحه: «عليكم بسنَّتي وسُنَّة الخلفاء الراشدين من بعدي تمسَّكوا بها، وعضُّوا عليها بالنواجذ».
          وأخرج أبو حاتم وأحمد في المناقب: «الخلافة من بعدي ثلاثون سنة ثُمَّ تكون ملكًا»؛ أي: تصير، وكانت مدَّة الأربعة [إلَّا ستَّة] أشهر مدَّة الحسن بن عليٍّ ☻.
          وروى الترمذيُّ / وغيره وحسَّنه: «اقتدوا باللَّذين من بعدي أبي بكر وعمر» وفي «المحلَّى» ممزوجًا بكلام ابن السبكيِّ، وقالت المالكيَّة: لا يجب العمل به، أي: بخبر الواحد فيما عمل أهل المدينة فيه بخلافه؛ لأنَّ عملهم كقولهم حجَّةٌ مقدَّمة عليه.
          قلنا: لا نسلِّمُ حجِّيَّة ذلك، وقد نفت المالكيَّة خيار المجلس الثابت بحديث الصحيحين: «إذا تبايع الرجلان فكلٌّ منهما بالخيار ما لم يتفرَّقا» لعمل أهل المدينة بخلافه.
          وقال ابن عبد البرَّ: أجمع العلماء ثبوت هذا الحديث، وقال به أكثرهم، وردَّه مالكٌ وأبو حنيفة وأصحابهما، ولا أعلمُ أحدًا ردَّه غيرهم.
          وقال بعض المالكيَّة: دفعه مالكٌ بإجماع أهل المدينة على ترك العمل به، وذلك عنده أقوى من خبر الواحد، كما قال أبو بكر بن عمرو بن حزم: إذا رأيت أهل المدينة أجمعوا على شيء فاعلمْ أنَّهُ الحقُّ.
          وقال بعضهم: لا تصحُّ هذه الدعوى؛ لأنَّ سعيد بن المسيِّب وابن شهاب روي عنهما نصًّا العمل به، وهما من أجلِّ فقهاء المدينة، ولم يروَ عن أحدٍ من أهلها نصًّا العمل به، إلَّا عن مالك وربيعة بخلف عنه، وأنكر ابن أبي ذئب _من فقهائها في عصر مالك_ عليه ترك العمل به، حتَّى جرى منه في مالك قول خشن حمله عليه العنفُ، لم يُستحسن مثله منه، وهو قوله: مَنْ قال: البيِّعان ليسا بالخيار حتَّى يفترقا استُتِيب، فكيف يصحُّ لأحدٍ أنْ يدَّعي إجماع أهل المدينة في هذه المسألة؟!.
          وقال بعض المفسِّرين في قوله تعالى: { إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً } الآية[البقرة:282].
          ظاهر الآية نفي خيار المجلس، وأنَّ التراضي كافٍ في إباحة الأكل وهو المشهور عند المالكيَّة، وما ثبت في الحديث لم يصحبه عمل أهل المدينة، وعملهم عند مالك مقدَّمٌ على الخبر الصحيح؛ لأنَّه كالمتواتر وهو يقدَّم على خبر الآحاد.
          وبنفي خيار المجلس قال أيضًا أبو حنيفة والفقهاء السبعة، قيل: إلَّا ابن المسيِّب، وقيل: له قولان، وقد ذكر مالك في «الموطَّأ»: حديث خيار المجلس، وقال عقبه: إذ كان قول منهم قول كثير من الصحابة الذين كانوا يستشيرونهم، والعمل عندنا على خلافه، وذكره؛ لئلا يتوهَّم أنَّه لم يبلغه، وأثبته من المالكيَّة ابن حبيب، وعبد الحميد الصَّائغ وهي إحدى المسائل التي حلف بالمشي إلى مكَّة لا يفتي فيها بقول الإمام ونظمها من قال:
عبد الحميد خالف الإمام                     لدى ثلاثٍ هاكها نظاما
جنسيَّةُ القمح مع الشعير                     تدمية بيضا بلا نكير /
نفي خيار مجلس وقد حلف                     بالمشي لا يفتي من سلف
          واُعترِضَ عليه بأنَّه إنْ لم يعلم بعمل أهل المدينة فقصورٌ، وإنْ علم به؛ فإن قال بقول مالك بتقديم عملها على خبر الآحاد فلا وجه لحلفه، وإنْ لم يقل به؛ لزمه أنْ يخالف الإمام في كلِّ ما قدَّم فيه عملها على خبر الآحاد، وإنْ أنكر أنْ يكون عملهم في هذه المسألة بخلاف الخبر فمكابرة لتصريح الإمام بذلك في «الموطَّأ» وتلقِّى الناس له بالقبول، ومثل هذا يتوجَّه على ابن حبيب، وإنْ كان توجُّهه على الحالف أقوى.
          وقد يجاب بأنَّ حديث خيار المجلس اتَّفق عليه الشيخان فصار قطعيَّ الصحَّة كما قال العراقيُّ:
واقطع بصحَّةٍ لما قد أسندا
          فالذي يلزم عبد الحميد وابن حبيب أنْ يقولا بتقديم ما اتَّفق عليه الشيخان من الأحاديث على عمل أهل المدينة، لا بتقديم كلِّ خبر آحاد على عملهم.
          وفي «طبقات السبكيِّ»: قال أبو ثور: سمعتُ الشافعيَّ يقول: حضرت مجلسًا وفيه محمَّد بن الحسن بالرَّقَّة، وجماعة من بني هاشم وقريش وغيرهم مِمَّنْ ينظر في العلم، فقال محمَّد بن الحسن: قد وضعتُ كتابًا لو علمتُ أنَّ أحدًا يردُّ عليَّ منه شيئًا تبلغه الإبل لأتيته، قال: فقلتُ له: قد نظرت في كتابك هذا، فإذا ما بعد البسملة خطأٌ كلُّه قال: وما ذاك؟! قلتُ له: قلتَ: قال أهل المدينة كذا، فإن أردت كلَّهم فخطأ؛ لأنَّهم لم يتَّفقوا على ما قلت، وإنْ أردت مالكًا وحده فأظهَرُ في الخطأ إذ ليس هو كلُّ أهلِ المدينة، وقد كان من علماء المدينة في زمنه من يشتدُّ نكيره عليه، فأيُّ الأمرين قصدتَ فقد أخطأت.
          أقول: فيه نظرٌ؛ لأنَّ خروج القُلِّ من الجُلِّ لا يضرُّ، ومن اشتدَّ نكيره على مالك فقد لا يكون فيما ادَّعاه من عمل أهل المدينة بل في غيره.
          وبعدما كتبنا هذا بأيامٍ قليلة، ونحن نُدرِّسُ السورة الجليلة، سورة النِّساء التي بها لذوي القياس ائتساء، وقد ذكرنا في آية فرائضها بعض ما يدخل فيها من غوامضها، ممَّا ورد عن الرسول، وعن الفقهاء الفحول، وكلُّه بالقياس المزيل للإلباس، وكذلك في آية: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ...} إلى: { أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُم }[النساء:19-24] ما يحرم من النِّساء وما يحلُّ، وكذلك في آية: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ ...} إلى: { عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ }[النساء:29] مِنْ صور البيع الممنوعة والجائزة التي وردت عن الرسول والفقهاء متمايزة، خصوصًا وعمومًا، منطوقًا ومفهومًا، نصًّا وقياسًا، لا يبقي إلباسًا. /
          رأيتُ ليلة الثالث من صفر الخير عام 1232هـ قائلًا يقول لي: سورة البقرة سورة الله، وسورة آل عمران سورة الرسول، وسورة النِّساء سورة النَّاس، ورأيتُ كأنَّ رجلًا ينسج شقَّةً وهو يتلقَّف اللحمة من الهواء، وجيء لي بشقَّةٍ لا أرى لها ظرفًا وهي مبصومة مرقومة في غاية الحُسنِ، ثُمَّ رأيت أحد أولياء الله الموصوفين بالقطابة، جاء معه رجلٌ معه آنيتان من لبنٍ؛ أحدهما حليبٌ، والأخر أخرج زبدة [معليًا] عليه، فشربت من الحليب، وقال لي: زدْ لا تخف غصَّةً أو ما هذا معناه، فلمَّا قمتُ قلتُ في الواقعة التي هي لما تقدم مشايعة.
هُوَ الدِّينُ شِقَّةٌ كِتَابٌ وَسُنَّةٌ                     سَدَاهُ وَلُحْمَةٌ قِيَاسٌ مُتَمِّمُ
فَقَدْ قِيلَ لِي بِنَوْمٍ البِكْرُ سُورَةٌ                     لِرَبٍّ وَسُورَةُ القَدِيمِ تُقَدَّمُ
وَتَاجٌ لِتَاجِ الرُّسْلِ أَعْلَاهُمُ هُدًى                     وَمَا بَعْدَهَا بِسُورَةِ النَّاسِ تُوسَمُ
وَشِمْتُ بِهِ وَاللهِ نَاسِجَ شِقَّةٍ                      يُلَقَّى مِنَ السَّمَاءِ مَا بِهِ يُلْحَمُ
وَجِيءَ بِهَا لِي وَهْيَ مَخْتُومَةٌ وَمَا                     لَهَا طَرَفٌ تَرَاهُ عَيْنٌ فَيُخْتَمُ
وَشِمْتُ بِهِ ظَرْفًا مِنَ اللَّبَنِ امْتَلَا                     وَآخَرَ يَعْلُو الزُّبْدُ فِيهِ ويَنْجُمُ
طَعِمْنَا مِنْ أَوَّلٍ وَقَالَ الَّذِي أَتَى                     بِهِ زِدْ وَهَذَا العِلْمُ وَاللَهُ أَعْلَمُ
          وهذه الأبياتُ لا تحتاجُ إلى تعبير، كما أنَّ ما تضمَّنته من الرؤيا غنيٌّ عن التعبير.
وَهَذِهِ أَرْكَانُ احْتِجَاجٍ لِدِينِنَا                     بِهَا كَمَلَ الدِّينُ القَوِيمُ المُقَوِّمُ
وَبَعْدَ اهْتِدَاءٍ اعْتِدَاءٌ وَقَدْ أَتَى                     لَهُ نَاهِيًا {لَا تَسْأَلُوا} {لَا تُحَرِّمُوا}
وَإِلَّا اقْتِدَاءٌ وَاقْتِفَاءٌ لِذِي عَمًى                     عَلَيْهِ قَرِينُهُ امْتَطَى وَهْوَ مُلْجَمُ
          في «البخاريِّ» بعد (باب: الاعتصام) (باب: ما يكره من كثرة السؤال)؛ أي: عن أمور مغيَّبةٍ ورد الشرعُ بالإيمان بها مع ترك كيفيَّتها، كما وقع من بني إسرائيل إذ أمروا بذبح بقرة، وقال تعالى: { أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ } الآية[البقرة:108]، والسؤال عمَّا لا يكون له شاهدٌ في عالم الحسِّ، كالسؤال عن قُربِ الساعة، وعن الروح، وعن مدَّةِ هذه الأمَّة، إلى أمثال ذلك ممَّا لا يعرف إلَّا بالنقل الصَّرف، قال: وتكلُّف ما لا يعنيه، وقوله تعالى: { لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء } الآية[المائدة:101] انظره.
          وبعدها (باب: ما يكره من التعمُّق)؛ أي: التشديد، شدَّدوا فشدَّ الله عليهم (والتنازع في العلم)؛ أي: المجادلة لغرضٍ نفسانيٍّ، / أو بغير حجَّةٍ (والغلوُّ)؛ أي: الزيادة في الدين والبدع لقوله تعالى: { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ } [المائدة:77].
          [رواه] النسائيُّ وابن ماجه عن ابن عبَّاس رفعه: «إياكم والغلوَّ في الدِّين، فإنما أهلك مَنْ كان قبلكم الغلوُّ في الدِّين».
          وهو مثل البحث في الربوبيَّة حتَّى تحصل نزغةٌ من نزغات الشيطان، وجاء بأحاديث؛ منها حديث عائشة: صنع النبيُّ صلعم شيئًا ترخَّصَ فيه، وتنزَّه عنه قومٌ؛ أي: فسردوا الصوم واختاروا العزوبيَّة، ومنه يعرف الشيء، وتنزُّههم عمَّا ترخَّص فيه النبيُّ صلعم تعمُّقٌ، قال: فبلغ ذلك النبيَّ صلعم، فحمد الله ثُمَّ قال: «ما بالُ أقوامٍ يتنزَّهون عن الشيء أصنعه، فوالله إنِّي لأعلمهم بالله، وأشدُّهم له خشيةً».
هُمَا صَاحِ مِيزَابَا العُلُومِ الَّتِي أَتَى                     بِهَا فَارْتَوَى مُعَلِّمٌ وَمُعَلَّمُ
          أخرج الشيخان عن أبي هريرة رفعه: «ومنبري على حوضي».
          قال سيِّدي عبد الجليل القصريُّ في «شعبه»: إنَّ الماء المبارك الذي أُعطِيهِ مولانا رسول الله صلعم له ثلاثُ مراتب:
          الأولى: في الجنَّة، وهو الكوثر.
          الثانية: في القيامة، وهو الحوض الذي يصبُّ فيه ميزابان من الجنَّة؛ أحدهما ذهب والآخر فضَّة.
          الثالثة: هي مياه العلم التي جاء بها صلعم، فروي من شربها رواةُ العلم ومُعلِّموه ومتعلِّموه إلى يوم القيامة على حسب درجاتهم في الشرب والفهم والذوق.
          وميزاباه: الكتاب والسنَّة، فهو الذي في الحديث أنَّ منبره على حوضه، فهو عليه حالًا ومآلًا؛ لأنَّه موضع كلامه ومخاطبته للخلق بالعلم الذي آتاه الله ╡، انظر: «شرح دلائل الخيرات» في اسمه «صاحب المنبر».
هُمَا صَاحِ يَنْبُوعٌ لِأَنْهَارِ جَنَّةٍ                     وَعِنْدَ وُرُودِكَ الجِنَانَ سَتَعْلَمُ
          قال تعالى: { أَفِيضُواْ عَلَيْنَا } الآية[الأعراف:50].
          [روى] الإمام أحمد والترمذيُّ وصحَّحه عن معاوية بن حيدة رفعه: «في الجنَّة بحرُ اللبن، وبحرُ الماء، وبحرُ العسل، وبحرُ الخمر، ثمَّ تشقَّق الأنهارُ منها بعد ذلك».
          وفي «الصحيح»: «إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس، فإنَّه أوسط الجنَّة، وأعلى الجنَّة، ومنه تفجَّرُ أنهار الجنَّة، وفوقه عرش الرحمن».
          وعن أبي هريرة رفعه: «سَيْحَانُ وَجَيْحَانُ والفُرَات والنِّيلُ كلٌّ من أنهار الجنَّة».
          قال كعب الأحبار: «نهر دجلةَ نهرُ ماءِ أهلِ الجنَّة، ونهر أهل الفرات نهرُ لبنهم، ونهر مصر نهر خمرهم، ونهرا سَيْحَان وجَيْحَان نهر / عسلهم، وهذه الأنهار الأربعة تخرج من نهر الكوثر».
          قال النيسابوريُّ: قال بعض علماء التأويل: لا شكَّ أنَّ الماء أعمُّ نفعًا للخلائق من اللبن والخمر والعسل، فهو بمنزلة العلوم الشرعيَّة لعموم نفعها للمكلَّفين كلِّهم، وأمَّا اللبن فهو ضروريٌ للنَّاس كلِّهم، ولكن في أوَّل التربية والنماء فهو بمنزلة العلوم الغريزيَّة الفطريَّة، وأمَّا الخمر والعسل فليستا من ضروريَّات التعيُّن فهما بمنزلة الحقيقة الكسبيَّة إلَّا أنَّ الخمر يمكن أنْ يخصَّ بالعلوم الذوقيَّة، والعسل بسائرها.
وَبَاقِي العُلُومِ آلَةٌ أَوْ نَتِيجَةٌ                     وَإِلَّا ضَلَالَاتٌ بِهَا الْقَلْبُ يُظْلِمُ
          أخرج أبو داود وابن ماجه عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنَّ رسول الله صلعم قال: «العلم ثلاثة: آيةٌ محكمةٌ، أو سُنَّةٌ قائمةٌ، أو فريضةٌ عادلةٌ، وما سوى ذلك فهو فضل»؛ أي: لا مدخل له في أصل علوم الدِّين، والفريضة العادلة هي المستنبطة من الكتاب والسنَّة، فانحصر الشرف.
          ولله دُرُّ من قال من قصيدة:
ما العلمُ إلَّا كتاب الله أو أثرٌ                     تجلو بنور هديه كلَّ مُلْتَبسِ
فاعكف ببابهما على طلابهما                     تمحو العمى بهما عن كلِّ مُلتمسِ
ورد بقلبك عذبًا من حياضهما                     تغسل بماء الهدى ما فيه من دَنَسِ