نفحة المسك الداري لقارئ صحيح البخاري

معرفة المبهمات

نَعَمْ بِاتِّفَاقِ الِاسْمِ مِنْهُمُ مُبْهَمٌ                     كَمَا لِمُحَمَّدٍ لِمَا لَيْسَ يُبْهَمُ
          قال بعض الفُضلاء في نظمه للمُدلِّسين:
ثُمَّ محمَّدٌ البخاريُّ الإمام                     وصَفه به ابنُ منده الهُمام
قال لنا أطلق في الإجازة                     وهذه دعوى فما أجازه
وهو مردودٌ بالاستقراء                     من صاحب «الفتح» بلا امتراء
بل قال عنده لِما لم يسمع                     وزيده لنا لسمعه فعي
وإنَّما يذكره معلَّقًا                     إذا يرى شيئًا لشرطه بقي /
          فتبيَّن أنَّ هذا باطلٌ، ليس تحته طائلٌ؛ ولذلك لم نعرِّج عليه فيما أشرنا إليه، بل عرَّجنا على ما ذكروه وما أنكروه من أنَّه روى عن محمَّد بن يحيى بن عبد اللَّه الذُّهليِّ النَّيسابوريِّ _أحد الحُفَّاظ الأعيان، الثِّقة المأمون، الغنيُّ عن البيان_ مقدار ثلاثين موضعًا، ولم يصرِّح به في موضعٍ، فيقول: محمَّد بن يحيى الذُّهليُّ، بل يقول: (حدَّثنا محمَّد) لِما بينه وبينه من الوحشة، حيث دخل إلى نيسابور _أعني: البخاريَُّ_ واستوطنها، فشغَّب عليه الذُّهليُّ في مسألة خلق اللَّفظ، قال السخاويُّ: (ولم يكن ذلك بمانعٍ للبخاريِّ من التَّخريج عنه؛ لوفور ديانته وأمانته، وكونه عَذَره في نفسه بالتَّأويل، غير أنَّه خشيَ مِنَ التَّصريح به أن يكون بتعديله له صدقه على نفسه فأخفى اسمه).
          وفي «الطَّبقات» لابن السبكيِّ في (ترجمة محمَّد بن إبراهيم البوشنجيِّ العبديِّ): شيخ أهل الحديث في زمانه بنيسابور، سمع من إبراهيم بن المنذر الحزاميِّ، وأبي جعفر عبد الله بن محمَّد النُّفيليِّ، وعبد العزيز بن عمران بن مِقلاص، وعليِّ بن الجعد، وروى عنه خلقٌ كثيرٌ، وقيل: إنَّ البخاريَّ روى عنه حديثًا في «الصَّحيح» وذكر محمَّد بن يعقوب بن الأخرم، وفي «الصَّحيح» للبخاريِّ: حدَّثنا محمَّدٌ: حدَّثنا النُّفيليُّ، ذكرهُ في (تفسير سورة البقرة).
          قال شيخُنا الذَّهبيُّ: فإن لم يكن البوشنجيُّ فهو محمَّد بن يحيى، قال: والأغلب أنَّه البوشنجيُّ.
          قلت: وكذا ذَكَره شيخنا المزِّيُّ في «التَّهذيب».
          وقال الكلاباذيُّ: هو الذُّهليُّ، وقال الحاكم: هو البوشنجيُّ، قال: هذا الحديث ممَّا أملاه البوشنجيُّ بنيسابور، وقالَ أبو نعيم: هو محمَّد بنُ إدريسَ الرَّازيُّ أبو حاتم،قال في «الفتح»: هو محمَّد بن إدريس بن المنذرِ بن داودَ بن مهرانَ الغطفانيُّ الحنظليُّ، أبو حاتم الرَّازيُّ، أحدُ الأئمَّةِ الأعلام، وُلِدَ سنةَ خمسٍ وتسعينَ ومئة.
          قال ابن أبي حاتم: سمعت أبي يقولُ: (قلت على باب أبي الوليد الطيالسيِّ: مَن أغرب عليَّ حديثًا صحيحًا؛ فلهُ درهمٌ، وكان ثَمَّ خلقٌ؛ أبو زرعة فمَن دونه، وإنَّما كان مرادي أنْ يُلقيَ عليَّ ما لم أسمع به، فيقولون: هو عند فلان فاذهب واسمعه، فلم يتهيَّأ لأحدٍ أنْ يُغرِّبَ عليَّ حديثًا) وسمعت أبي يقول: (قَدِمَ محمَّد بن يحيى النِّيسابوريُّ الريَّ، فألقيتُ عليه ثلاثةَ عشرَ / حديثًا من حديث الزُّهريِّ، فلم يعرفْ منها إلَّا ثلاثة أحاديث).
          قال شيخنا الذَّهبيُّ: إنَّما ألقى عليه من حديثِ الزُّهريِّ؛ لأنَّ محمَّدًا كان إليه المنتهى في معرفةِ حديثِ الزُّهريِّ، قد جمعهُ وصنَّفهُ وتتبَّعهُ حتَّى كانَ يُقال له: (الزُّهريُّ).
          انظر بقيَّة ترجمته في «الطَّبقات».
          وفي «نُخبة الفِكر» للحافظ ابن حَجَر ممزوجًا بشرحه: (وإنْ روى الرَّاوي عنِ اثنين متَّفِقَي الاسم، أو مع اسمِ الأبِ، أو مع اسمِ الجدِّ، أو مع النِّسبةِ، ولم يتميَّزا بما يخصُّ كلًّا منهما، فإنْ كانا ثقتينِ؛ لم يضرَّ، ومن ذلك ما وقع في «البخاريِّ» في روايته عن أحمدَ بن عيسى أو عن محمَّدٍ غير منسوبٍ عن أهل العراقِ، فإنَّه إمَّا (محمَّد بن سلامٍ) أو (محمَّد بن يحيى الذُّهليُّ) وقد استوعبتُ ذلكَ في مقدِّمة «شرح البخاريِّ» ومَن أرادَ لذلك ضابطًا كلِّيًّا يمتازُ أحدُهما عنِ الآخرِ، فباختصاصه ؛ _أي: الشَّيخِ المرويِّ عنهُ_ بأحدهما يتبيَّن المُهمَلُ، ومتى لم يتبيَّن ذلك أو كان مختصًّا بهما معًا؛ فإشكاله شديدٌ، فيُرجَعُ فيه إلى القرائنِ والظَّنِّ الغالب).
          أقولُ: والفرقُ بينَ المُهمَلِ والمُبهمِ: أنَّ المُبهمَ لم يُذكَرِ اسمُه، والمُهمَل ذُكِرَ اسمُهُ.
          وقالَ سيِّدي العربيُّ الفاسيُّ في «نظمِ النُّخبة»:
المهملُ إذا روى راوٍ عن اثنين اتَّحد                     اسماهما فصاعدًا وما ورد
مميِّزُ الُمهملِ في المراد ذا                     وباختصاصه البيانُ يُحتَذى