نفحة المسك الداري لقارئ صحيح البخاري

التعريف بالإمام البخاري

          وفي هذا حسن تخلُّص للتعريف بصاحب الكتاب، وهو كما قال في «المقدِّمة»: أبو عبد الله محمَّد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبه الجُعفيُّ، وُلِدَ يوم الجُمعة بعد الصَّلاة، لثلاث عشرة ليلة خَلَتْ من شوَّال، سنة أربع وتسعين ومِئة، ببخارى، قال المستنير بن عتيق: أخرَجَ ذلك لي محمَّد بن إسماعيل بخطِّ أبيه، وجاء عنه من طُرقٍ، ومات إسماعيل ومحمَّدٌ صغيرٌ، فَنَشَأ في حجر أُمِّه، و(بَرْدِزْبَه): بفتح الباء الموَّحدة، وسكون الرَّاء المهملة، وكسر الدَّال المهملة، وسكون الزَّاي المعجمة، وفتح البَّاء الموَّحدة، بعدها هاء، هذا هو المشهور في ضبطهِ، وبه جزم ابن ماكولا، وقيل في ضبطه غير ذلك.
          أقول: قال ابن السبكيُّ: بذالين معجمتين، مكسورة فساكنة فباء، ويقال: بدل بردزبه: الأحنف، قال وهذا ما كنَّا نسمعه من الشيخ الإمام الوالد رحمة الله عليه قال: في «المقدِّمة»: وبردزبه بالفارسيَّة: الزَّارع، كذا يقول له أهل بُخارى، وكان بردزبه فارسيًّا على دين قومه، ثمَّ أسلَم ولَدُهُ المغُيرة، على يدِ اليمان الجعفيِّ، وأتى بُخارى فَنُسِبَ إليه نسبةَ ولاءٍ، عَمَلًا بمذهب مَنْ يرى أنَّ من أسلم على يدِ شخصٍ كان ولاؤه له.
          أقول: قال المزِّيُّ في «تهذيبه»: ويمان هذا: هو أبو جدِّ عبد الله بن محمَّد المُسْنَدِيِّ الجُعفيِّ، وجدُّه جعفر.
          قال في «المقدِّمة»: / وأمَّا والده إبراهيم بن المغيرة، فلَمْ نقف على شيءٍ من أخبارِه، وأمَّا والد محمَّد، ذُكِرَتْ له ترجمةٌ في كتاب «الثقات» لابن حبَّان، فقال في الطبقة الرابعة: إسماعيل بن إبراهيم والد البخاريِّ، يروي عن حمَّاد بن زيد، ومالك، روى عنه العراقيِّون، وذكره ولده في «التاريخ الكبير» فقال: «إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة، سَمِعَ من مالك وحمَّاد بن زيد، وصَحِبَ ابن المبارك».
فَقَدْ كَانَ مِنْ أَوْعَى الرِّجَالِ                     مُبَلِّغًا لِمَا بَلَّغُوا كَأنَّهُ لِلنَّبِي فَمُ
          روى المزِّيُّ في «تهذيبه» بسنده إلى محمَّد بن أبي حاتمٍ قال: «قلت لأبي عبد الله محمَّد بن إسماعيل: تحفَظ جميع ما أدخَلت في مُصنَّفَاتِك؟ قال: لا يخفى عليَّ جميع ما فيها، وبه إلى جعفر بن محمَّد القطَّان، إمام الجامع بكرمينية، يقول: سَمِعْتُ محمَّد بن إسماعيل البخاريَّ يقول: كَتبتُ عن ألف شيخٍ، وأكثر ما عندي حديث إلَّا أذكر إسناده» وبه إلى أُحيد بن أبي جعفر، والي بخارى، قال: قال محمَّد بن إسماعيل يومًا: «رُبَّ حديثٍ سمِعته بالبَصرة، كتبته بالشام، ورُبَّ حديثٍ سمِعته بالشام، كتبتُه بمصر، قال: فقلت: يا أبا عبد الله بكماله؟ قال: فسكت».
          وبه إلى بُندار محمَّد بن بشَّار: «حُفَّاظ الدُّنيا أربعة: أبو زُرعة بالرَّيِّ، ومسلم بن الحجَّاج بنيسَابور، وعبد الله بن عبد الرحمن الدارميُّ بسمرقند، ومحمَّد بن إسماعيل البخاريُّ ببُخارى».
          وبه إلى عبد الله بن أحمد ابن حنبل سَمِعْتُ أبي يقول: «انتهى الحفظ إلى أربعةٍ من أهلِ خُرَاسَان: أبو زُرعة الرازيُّ، ومحمَّد بن إسماعيل البخاريُّ، وعبد الله بن عبد الرحمن السمرقنديُّ، والحسن بن شجاع البلخيُّ».
          وبه إلى أبي بكرٍ محمَّد بن حُريث: «سألتُ الفضل بن العبَّاس الرازيّ، أيُّهما أحفظ أبو زُرعة، أو محمَّد بن إسماعيل؟ فقال: لَمْ أكنِ التقيت مع محمَّد بن إسماعيل البخاريِّ، فاستقبلني ما بين حلوان وبغداد، قال: فرجعت معه مرحلة، قال: وجهدت الجهد على أنْ أجيءَ بحديثٍ لا يعرفه، فما أمكنني، وأنا أغرب على أبي زُرعة عدد شهر عدَّة».
          وبه إلى محمَّد بن أبي حاتم الورَّاق قال: سمعت سُليم بن مجاهد يقول: «كُنتُ عند محمَّد بن سلام البيكنديِّ، فقال: لو جِئت لرأيت صبيًّا يحفظ سبعين ألف حديثٍ، قال: فخرجت في طلبه حتَّى لقيته فقلت: أنتَ الذي تقول: أنا أحفظ سبعين ألف حديثٍ؟ قال: نعم؛ / وأكثر منه، ولا أجيئك بحديث من الصحابة والتَّابعين إلَّا عرفت مولد أكثرهم ووفاتهم ومساكنهم، ولستُ أروي حديثًا من الصحابة أو التابعين ؛ _يعني: من الموقوفات_ إلَّا ولي في ذلك أصلٌ، أحفظُ ذلك عن كتابِ الله أو سنَّة رسول الله صلعم».
          وبه إلى عليِّ بن الحسين بن عاصم البيكنديِّ: «قَدِمَ علينا محمَّد بن إسماعيل، واجتمعنا عِندَه، ولم يكن يتخلَّف عنه من المشايخ أحدٌ، فتذاكرنا عنده، فقال رجلٌ من أصحابنا: أراه حامد بن حفص، سمعت إسحاق ابن راهويه يقول: كأنِّي أنظر إلى سبعين ألف حديث من كتابي» قال: فقال محمَّد بن إسماعيل: «أوَتعجبُ من هذا؟ لعلَّ في هذا الزمانِ من ينظر إلى مِئَتَي ألف حديث من كتابه» وإنَّما عَنَى به نفسه.
          وبه إلى محمَّد بن حمدويه، سمعت به إسماعيل يقول: «أحفظ مِئة ألف حديثٍ صحيحٍ، ومِئتي ألف حديث غير صحيحٍ».
          وقال محمَّد بن أبي حاتم: قَدِمَ رجاء الحافظ، فقال لأبي عبد الله، ما أعددت لقدومي حين بلغك؟ وفي أيِّ شيءٍ نظرت؟ قال: ما أحدثت نظرًا، ولا استعددت لذلك، فإنْ أحببت أنْ تسأل عن شيءٍ؛ فافعل، فجعل يناظره في أشياء، فبقيَ رجاء لا يدري، ثمَّ قال أبو عبد الله: هل لكَ في الزيادة؟ فقال استحياءً منه وخجلًا: نعم، قال: سلْ إنْ شِئت، فأخذ في أسامي أيوب، فعدَّ نحوًا من ثلاثة عشر، وأبو عبد الله ساكتٌ، فظنَّ رجاء أنْ قد صنع شيئًا، فقال: يا أبا عبد الله؛ فاتَك خيرٌ كثيرٌ، فزيَّف أبو عبد الله في ذلك سبعة، وأغرب عليه أكثر من ستِّين رجلًا، ثمَّ قال لرجاء: كم رويت في العَمَامَةِ السَّوداء؟ قال: مِئة، كم رويت أنتَ؟ قال: يُروى لي أربعين حديثًا، فخجل رجاء، ويَبِسَ ريقه، ولله دَرُّ أبي الفتوح العجليِّ، إِذْ يقول فيه من قصيدة:
كأنَّ البخاريَّ في جمعه                     تلقَّى من المصطفى ما اكتتب
وَفِي الحِفْظِ أقْوَامٌ تَسَامَتْ وَمَا سَمَوْا                     كَمَا قَدْ سَمَا حُفَّاظُهُ وَتَسَنَّمُوا
          وفي «الطبقات»: «كان أبو بكر السمعانيُّ يُملي في مجلس وعظه الأحاديث بأسانيدها، فاعترَض عليه بعض المنازعين، وقال محمَّد بن السمعانيُّ: يصعد المنبر ويعدُّ الأسامي، ونحن لا نعرف، ولعلَّه يضعها في الحال، وكتب هذا الكلام في رقعةٍ، وأُعطيت له بعد أن صَعَدَ المنبر، فنظر فيها وروى حديثًا: / «مَنْ كذب عليَّ متعمِّدًا؛ فليتبوَّأ مقعدَه من النَّار» بنيِّفٍ وتسعين طريقًا، ثمَّ قال: إِنْ لَمْ يكن في هذا البلد أحدٌ يعرف الحديث، فنعوذ بالله من المقام في بلدٍ ما فيها مَنْ يعرف الحديث، وإن كان؛ فليكتب عشرة أحاديث بأسانيدها، ويترك اسمًا أو اسمين من كلِّ إسنادٍ، ويخلط الأسانيد بعضها ببعضٍ، فإنْ لَمْ أميِّز بينها، وأضع كلَّ اسم منها مكانه؛ فهو كما يدَّعيه، وفعلوا ذلك امتحانًا، فردَّ كلَّ اسمٍ إلى موضعه» وسيأتي لصاحب الكتاب ما هو أعظم من ذلك في هذا الباب.
          وحكى أنَّ أبا الفضل الهمدانيَّ الأديب: لمَّا ورد بنيسابور وتعصَّبوا له، ولقِّب بديع الزمان، أُعجِب بنفسه؛ إذ كان يحفظ المِئة بيت إذا أُنشدَت بين يديه مرَّةً، ويُنشدها من آخرها إلى أوَّلها مقلوبةً، وأنكر على النَّاسِ قولهم: الحافظ في الحديث، ثمَّ قال: وحفظ الحديث ممَّا يُذكر، فسَمِعَ به الحاكم بن البيِّع، فوجَّه إليه بجزءٍ وأجَّله جمعةً في حفظه، فردَّ إليه الجزء بعد الجمعة، وقال: مَنْ يحفظ هذا؟ محمَّد بن فلان؛ وجعفر بن فلان؛ عن فلان أسامٍ مختلفة، وألفاظ متباينة، فقال له الحاكم: فاعرفْ نفسك، واعلَمْ أنَّ حفظ الحديث أصعب ممَّا أنتَ فيه.
وَقَدْ كَانَ مِنْ أدْرَى الرِّجَالِ لِمَا رَوَوْا                     تَآلِيفَهُ عَنْ سِرِّ ذَلِكَ تَبْسَمُ
          قال في «المقدِّمة»: وقال حاشد بن إسماعيل: قال لي أبو مصعب: أحمد بن أبي بكرٍ الزهريُّ محمَّد بن إسماعيل، أفقه عندنا، وأبصر بالحديث من أحمد ابن حنبل، فقال له رجلٌ من جُلسائه: جاوزت الحدَّ؟ فقال له أبو مصعب: لو أدركت مالكًا، ونَظَرْتَ إلى وجهِهِ ووجه محمَّد بن إسماعيل؛ لقلت: «هما سواءٌ في الحديث والفقه».
          قلت: عبَّر بقوله: ونظرْتَ إلى وجهِهِ عن التَّأمُّل في معاوية.
          وقال عبدان بن عثمان: ما رأيتُ شابًّا أبصر من هذا؟ وأشار إلى محمَّد بن إسماعيل.
          وسُئِلَ قتادة عن طلاق السكران، فدخل محمَّد بن إسماعيل، فقال للسائلِ: هذا أحمد ابن حنبل، وإسحاق ابن راهويه، وعليُّ بن المدينيِّ قد ساقَهُم الله إليك، وأشار إلى البخاريِّ.
          وقال يعقوب بن إبراهيم الدَّورقيُّ ونُعيم بن محمَّد الخزاعيُّ: «محمَّد بن إسماعيل فقيهُ / هذه الأُمَّة».
          وقال بُندار محمَّد بن بشَّار: «هو أفقه خلق الله في زماننا».
          وقال الفربريُّ: سَمِعْتُ ابن أبي حاتمٍ يقول: «سَمِعْتُ حاشدَ بن إسماعيلٍ يقول: كنت بالبَصرة، فسمِعت بِمَقْدَمِ محمَّد بن إسماعيل، فلمَّا قَدِمَ، قال محمَّد بن بشَّار: دَخَلَ اليوم سيِّد الفقهاء».
          ومن تآليفه: هذا «الجامع» وهو أجَلُّها وأعظمها، ومنها: «التاريخ» الذي صنَّفه عند قبر النبيِّ صلعم في الليالي المقُمِرة، ومنها: «التاريخ الأوسط» ومنها: «التاريخ الصغير» ومنها: «برُّ الوالدين» ومنها: «خلق أفعال العباد» الذي صنَّفه بسبب ما وقع بينه وبين الذهليِّ، ومنها: «كتاب الضعفاء» إلى غير ذلك ممَّا ذكروا من تآليفه.
وَفِي الفَهْمِ أقْوَامٌ تَعَالَوْا وَمَا عَلَوْا                     كَمَا قَدْ عَلَا فُهَّامُهُ وَتَسَلَّمُوا
          تقدَّم حديث: «نضَّر الله» وفي «الصَّحيح»: «مثل ما بعثني الله»، وقد حمل ابن عبَّاس وغيره قول الله تعالى:{ وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ } [الأعراف:58]، وقوله تعالى: { أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ } [الرعد:17] على المجاز، فراجع الآيتين، يلج الصبح لذي عينين، ويُروى كما لأبي نعيمٍ في «تاريخ أصبهان» من حديث عليِّ بن أبي موسى، عن أبيه، عن جدِّه، عن آبائه مرفوعًا: «كونوا دراةً ولا تكونوا رواةً»، وفي «الطبقات»: وقفت امرأةٌ على مجلسٍ فيه يحيى بن معين، وأبو خيثمة، وخلف بن سالم في جماعةٍ يتذاكرون الحديث، فسمعتهم يقولون: وقال رسول الله صلعم: ورواه فلان، وما حدَّث به غير فلان، فسألتهم عن الحائض هل تغسِّل الموتى؟ وكانت غاسلة، فلم يجبها أحدٌ منهم، وكانوا جماعةً، وجعل بعضهم ينظر إلى بعضٍ، فأقبل أبو ثورٍ فقالوا: عليكِ بالمُقبِل، فالتفتَتْ إليه قد دنا منها، فسألته، فقال: نعم؛ لحديث القاسم عن عائشة أنَّ النبيَّ صلعم قال لها: «إنَّ حيضتك ليست في يدك» وقولها: «كنت أفرق رأس الرسول صلعم وأنا حائضٌ».
          قال أبو ثورٍ: فإذا فرقت رأس الحيِّ، فالميِّت أَولى به، فقالوا: نعم؛ رواه فلان، وأخبرنا فلان، ونعرفه من طريق كذا، وخاضوا في الروايات والطُّرق، فقالت المرأة: فأين أنتم إلى الآن؟ وما / أحسن قول مَنْ قال:
إنَّ الذي يروي ولكنَّه                     يجهل ما يروي وما يكتب
كصخرة تنبع أمواهها                     تسقي الأراضي وهي لا تشرب
          وقول مَن قال:
كَنْ في الرواية ذا العنـ                     اية بالرِّواية والدِّراية
واروِ القليل وراعه                     فالعلم ليس له نهاية
وَذَلِكَ نَتْجٌ لاِتِّبَاعِهِ لِلَّذِي                     عَلَامَةُ حُبِّ اللهِ نَهْجُهُ الْأَقْوَمُ
          أي: (وَذَلِكَ) المذكور من كونه أوعى الرجال وأدراهم نتيجةً، اتِّباع رسول الله صلعم، حثَّ عليها قوله تعالى: { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ }[آل عمران:31] وفي الحديث القدسيِّ: «فإن أحببته كنت».
          وقوله: (نَهْجُهُ)؛ أي: اتِّباع نهجِه.
وَقَدْ رِيءَ نَوْمًا إِنْ خَطَا المُصْطَفَى خَطَا                     وَتَعْبِيرُ ذَاكَ هَدْيُهُ المُتَحَتِّمُ
          قال المزِّيُّ في «التهذيب» بسنده إلى الفربريِّ قال: سمعت محمَّد بن أبي حاتمٍ ورَّاق البخاريِّ بخوارزم يقول: رأيت أبا عبد الله، محمَّد بن إسماعيل ؛ _يعني: في المنام_ خلفَ رسول الله صلعم يمشي، فكلَّما رَفَعَ النبيُّ صلعم قَدَمَهُ، وضع أبو عبد الله محمَّد بن إسماعيل قَدَمَهُ في ذلك الموضع.
          وبه إلى النجم بن الفُضيل، وكان من أهل الفهم قال: رأيتُ النبيَّ صلعم في المنام خَرَجَ من قرية ماستين، ومحمَّد بن إسماعيل خلفه، فكان النبيُّ صلعم إذا خطا خطوةً، يخطو محمَّد ويضع قَدَمَهُ على خطوة النبيِّ صلعم، ويتبع أثره.
وَأقْرَأَهُ السَّلَامَ يَا لَلسَّلَامِ عَنْ                     نَبِيِّ الهُدَى صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا
          قال المزِّيُّ في «تهذيبه» بسنده إلى محمَّد بن يوسف الفربريِّ: رأيتُ النبيَّ صلعم في النوم، فقال لي: أين تريد؟ قلت: أُريد محمَّد بن إسماعيل البخاريِّ، فقال: أقرئه منِّي السلام.
وَبَشَّرَنَا بِهِ بِقَوْلِهِ: «نَالَهُ                     رِجَالٌ» عُمُومًا، ذُو اللِّوَاءِ المُقَدَّمُ
وَ«أوْ رَجُلٌ» رِوَايَةٌ آذَنَتْ بِهِ                     خُصُوصًا وَهَذا الفَضْلُ أزْكَى وَأعْظَمُ
وَذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَا                     ءُ واللهُ ذُو الفَضْلِ الْعَظِيمِ يُعَظَّمُ /
          قيل: في قوله تعالى: { فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ } [المائدة:54] هم الفُرس، لأنَّه ◙ سُئِلَ عنهم، فضرب بيده على عاتق سليمان وقال: «هذا وذووه لو كان الإيمان بالثريا، لناله رجالٌ _أو رجلٌ_ من أبناء فارس» قال عبد الله بن وهْب: دخل عبد الملك المسجد الحرام، فرأى حِلَق العلم والذِّكر، فأُعجب بها، فأشار إلى حَلْقة فقال: لِمَنْ هذه؟ فقيل: لعطاء، ونظر إلى أُخرى فقال: لِمَنْ هذه؟ فقيل: لميمون بن مهران، ونظر إلى أُخرى فقال: لِمَنْ هذه؟ فقيل: لمكحول، ونظر إلى أُخرى فقال: لِمَنْ هذه؟ فقيل: لمجاهد، فكلُّهم من أبناء الفُرس، فرجع إلى منزله، وبعث إلى أحياء قريش، فجمعهم فقال: يا معشر قريش؛ كنَّا فيما قد علمتم، فمنَّ الله علينا بمحمَّد صلعم، وبهذا الدِّين، فحقَّرتُموه حتَّى غلبكم أبناء الفُرس، فلم يردَّ عليه أحدٌ إلَّا عليَّ بن الحسين؛ فإنَّه قال: { ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء } [الجمعة:4] ثمَّ قال عبد الملك: ما رأيتُ هذا الحيَّ من الفُرس ملكوا من أوَّل الدَّهر، فلَمْ يحتاجوا إلينا، وملكنا فما استغنينا عنهم ساعةً.
خُرَاسَانُ آثَارٍ وبَدْرٌ لِشَامِهَا                     وَرَوْضٌ لِجَانٍ سِيبَهُ لَيْسَ يُفْصَمُ
          (خُرَاسَانُ) بالفارسيِّة: مطلع الشمس، والشام: المساء، وجان: روح الملك، والسِّيب: التفَّاح، وفي «معجم البكريِّ»، قيل: معنى خراسان بالفارسيِّة: مطلع الشمس، والعرب إذا ذكرت المشرِق كلَّه؛ قالوا: فارس خراسان، وخراسان من فارس، وعلى هذا تأويل حديث النبيِّ صلعم: «لو كان الإيمان...» الحديث، أنَّه عنى أهل خراسان، لأنَّك إذا طلبت مصداق هذا الحديث في فارس؛ لم تجده لا أوَّلًا ولا آخرًا، أو تجد هذه الصِّفة نفسها في أهل خراسان، دخلوا في الإسلام رغبةً، ومنهم: العلماء، والنُّبَلاء، والمحدِّثون، والنُّسَّاك، والمتعبِّدون، وأنت إذا حصَّلت المحدِّثين في كلِّ بلدٍ؛ وجدت نصفهم من خراسان، وجُلُّ رجالات الدُّنيا من خراسان؛ البرامكة والقحاطبة، وطاهر وبنوه، وعليُّ بن هاشمٍ وغيرهم.
          وأمَّا أهل فارس: فإنَّما كانوا كَنَارٍ خمدت، لم تبقَ لها باقيةٌ تُذكَر، ولا شرفٌ يُعرَف إلَّا ابن المقفَّع، وابنا سهلٍ: الفضل والحسن.
          أقول: وقد قال أحمد ابن حنبل فيما رواه الخطيب بسندٍ صحيحٍ: «ما أخرجت خراسان مثل محمَّد بن إسماعيل» وقال الحافظُ عماد الِّدين بن كثير: «إنَّه دخل بغداد ثمانِ مرَّات، / في كلِّ مرَّةٍ منها يجتمع بالإمام أحمد ابن حنبل، فيحثُّه على الإقامة ببغداد، ويلومه على الإقامة بخراسان» وتقدَّم قول أحمد.
دُجَى عِلْمَيِ الْوَرَى كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ                     أَنَارَهُ، لَا يَغْشَى نَهَارَهُ مُظْلِمُ
          (دُجَى) بالفارسيِّة؛ بمعنى: الكلام، وبالعربيِّة؛ بمعنى: الظُلمة، وتقدَّم قوله: «ولست أروي حديثًا».
مُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالحِكْمَةَ الَّتِي                     أَبَانَتْ رَسُولُ اللهِ وَهْوَ المُعَلِّمُ
مُعَلِّمُ خَلْقِ اللهِ فِي أَوَّلٍ لَهُ                     وَفِي آخِرٍ رَضِيعُهُ لَيْسَ يُفْطَمُ
لِنَقْلِ الثِّقَاتِ عَنْهُ وَهْوَ كِتَابُهُ                     أعَزُّ كِتَابٍ فِي الْحَدِيثِ وَأَحْكَمُ
          قال في «الكشَّاف»: في قوله تعالى: { وَآخَرِينَ } [الجمعة:3] مجرور عطف على { الْأُمِّيِّينَ } [الجمعة:2]؛ يعني: أنْ بعثَهُ في الأُميِّين الذين على عهده، وفي {آخَرِينَ}: من {الْأُمِّيِّينَ} لم يلحقوا بهم سيلحقون بهم؛ وهم الذين بعد الصحابة رضوان الله عليهم، وقيل: لمَّا نزلت؛ قيل: مَن هم؟... إلى آخره.
          قال الطيبيُّ: روينا عن البخاريِّ ومسلم والترمذيِّ عن أبي هريرة قال: كنَّا عند رسول الله صلعم حين نزلت سورة الجمعة؛ فتَلاها، فلمَّا بلغ: { وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ } [الجمعة:3]؛ قال رجلٌ: يا رسول الله؛ مَن هؤلاء الذين لم يلحقوا بنا؟ فلمْ يكلِّمه حتَّى سأله ثلاثًا، قال: وسلمان فينا؟ فوضع رسول الله صلعم يده على سلمان وقال: «لو كان الإيمان بالثُّريا، لتناوله رجالٌ من هؤلاء».
          قال في «الكشَّاف»: وقيل: هم الذين يأتون من بعدهم إلى يوم القيامة، ثمَّ قال: ويجوز أنْ ينصب، أي: { وَآخَرِينَ }[الجمعة:3] عطفًا على المنصوب في { وَيُعَلِّمُهُمُ } [الجمعة:2]؛ أي: ويعلِّمهم ويعلِّم آخرين؛ لأنَّ التَّعليم إذا تناسق إلى آخرِ الزمان، كان كلَّه مسندًا إلى أوَّله، فكأنَّه هو الذي تولَّى كلَّ ما وجد منه.
          قال الطيبيُّ: يعني يصحُّ إسناد التَّعليم إلى رسول الله صلعم للأمم الفائتة؛ للحصر إلى انقراض العالم إذا تناسقت العنعنة من الثقات المتقنين؛ لأنَّهم الذين حملوا المتون من تحريف الزائغين، والإسنادَ من تولِّي الكاذبين، صحَّ أنْ يُقال: هو الذي بعث في الأُميِّين رسولًا منهم يعلِّمهم الكتاب والحكمة، / ويعلِّم آخرين منهم لمَّا يلحقوا بهم، وهذا يدلُّ على جلالة قدر المحدِّثين، وعلوِّ مرتبتهم، { ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء }[الجمعة:4] اللَّهمَّ اجعلنا من زمرتهم.
          ولعمري؛ إنَّ علم الرواية من أقوى أركان الدِّين، وأقوى عُرى المتَّقين، لا يرغب في نشره إلَّا كلُّ صادق وتقيٍّ، ولا يزهد في نصره إلَّا كلُّ منافق شقيٍّ، قال أبو النَّصر بن سلام: «ليس شيءٌ أثقل على أهل الإلحاد ولا أبغض إليهم من سماع الحديث، وروايته وإسناده».
          وقال ابن القطَّان: «وليس في الدُّنيا مبتدعٌ، إلَّا وهو يبغض الحديث».
          وقال ابن المبارك: «الإسناد من الدِّين، ولولا الإسناد؛ لقال: من شاء ما شاء».
          وقال محمَّد بن أسلم الطوسيُّ: «قربُ الإسناد قربٌ إلى الله تعالى».
          وقال الحاكم النيسابوريُّ: «لولا كثرة مواظبة المحدِّثين على حفظ الإسناد؛ لدرس منار الإسلام، ولتمكَّن أهل الإلحاد والبِدَع فيه بوضع الأحاديث، وقلب الأسانيد، والإسناد واسطةٌ بين الحقِّ والخلق، وهو سلَّم السَّلامة، ومرقاة النَّجاة، ومفتاح النَّجاح، فمَن رفع قدره؛ ارتفع، ومَن وضع شأنه؛ اتَّضع».
          أقول: وهذا المعنى اللَّازم من عطف {آخَرِينَ} على ضمير {يُعَلِّمُهُمُ} لازمٌ أيضًا من عطفه على {الْأُمِّيِّينَ}، والله أعلم.
بِهِ بَشَّرَ الْحَبِيبُ وَهْوَ مُبَيِّنٌ                     لِتَبْشِيرِ مَوْلَاهُ وَمَا الشَّمْسُ تُكْتَمُ
          إذ لمَّا قال تعالى: { إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ }[النساء:133]؛ قيل: مَن هم يا رسول الله؟ قال: «الفُرس» ولمَّا نزل: { فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ }[المائدة:54]؛ قيل: مَن هم؟... إلى آخره.
          ولمَّا نزل: { وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ }[محمد:38]؛ قيل: مَن هم يا رسول الله؟ قال: «الفُرس»، ولمَّا نزل: { وَآخَرِينَ } [الجمعة:3]؛ قيل: مَن هم؟ قال: «هم الفُرس».
كَذَلِكَ بَشَّرَ الخَلِيلُ بِهِ كَمَا                     رَأتْ أمُّهُ حُلْمًا وَلَمْ تَكُ تَحْلُمُ
          رَوَى المزِّيُّ في «تهذيبه» بسنده: ذهبت عينا محمَّد بن إسماعيل في صغره، فرأت والدتَه في المنام إبراهيم الخليل ◙، فقال: يا هذه؛ قد رَدَّ الله على ابنك بصَرَه؛ لكثرة دعائك، ولكثرة بكائك، قال: فأصبح وقد ردَّ الله عليه بصره.
          ففي رؤياها الخليل بالخصوص؛ إشارةٌ إلى أنَّه تكون له بشارة كما كانت لإبراهيم، وهو بشارة وأيُّ بشارةٍ           وإليه أشار بقوله:
يُشِيرُ إِلَى أنْ حَالُهُ مِثْلُ حَالِهِ                     بِهِ يَقْتَدِي وَهْوَ الْإِمَامُ المُيَمَّمُ /
وَأنَّهُ يُبْتَلَى بِنَارِ العِدَى وَمِنْ                     لَظَاهَا بِبَرْدٍ مِنْ رِضَا الرَّبِّ يَسْلَمُ
وَيَخْرُجُ مِنْ أَرْضٍ لِأَرْضٍ مُطَوِّفًا                     لَهُ كَادَتِ الْأَقْطَارُ تَسْعَى وَتَقْدَمُ
فَطَوْرًا عِرَاقِيًّا وَطَوْرًا حِجَازِيًّا                     بِهِ كُلُّ شَادٍ مِنْهُمُ يَتَرَنَّمُ
          قال في «التهذيب» بسنده إلى الفربريِّ: حدَّثنا أبو جعفر محمَّد بن أبي حاتمٍ [البخاريُّ] قال: قلت لأبي عبد الله محمَّد بن إسماعيل البخاريِّ: كيف كان بدأ أمرك في طلب الحديث؟ قال: أُلهِمتُ حفظ الحديث وأنا في الكُتَّاب، وقال: قلت: وكم أتى عليك إذْ ذاك؟ قال: عشر سنين أو أقلَّ، ثمَّ خرجت من الكُتَّاب بعد العشر، فجعلت أختلف إلى الداخليِّ وغيره، فقال يومًا فيما كان يقرأ للناس: سفيان، عن أبي الزُّبير، عن إبراهيم، فقلت له: يا أبا فلان؛ إنَّ أبا الزُّبير لم يروِ عن إبراهيم؛ فانتهرني، فقلت له: ارجعْ إلى الأصل إنْ كان عندك؛ فدخل، فنظر فيه، ثمَّ خرج فقال لي: كيف هو يا غلام؟ فقلت: هو الزُّبير بن عديٍّ، عن إبراهيم، فأخذ القلم منِّي وأصلح كتابه وقال لي: صَدقت، قال: فقال له بعض أصحابه: ابن كم كنت إذ رددتَ عليه؟ فقال: ابن إحدى عشرة، قال: فلمَّا طعنت في ست عشرة، حفظت كتب ابن المبارك ووكيع، وعرفت كلام هؤلاء ؛ _يعني: أصحاب الرأي_ ، ثمَّ خرجت مع أمِّي وأخي أحمد إلى مكَّة، فلمَّا حججت؛ رجع أخي، وتخلَّفت بها في طلب الحديث.
          قال في «المقدِّمة»: فكان أوَّل رحلته على هذا، سنة عشر ومِئتين، ولو رحل أوَّل ما طلب؛ لأدرك ما أدركه أقرانه من طبقةٍ عاليةٍ ما أدركها، وإن كان أدرك ما قاربها.
          قال المزِّيُّ: «فلمَّا طعنت في ثمان عشرة؛ جعلت أُصنِّف [قضايا] الصَّحابة والتَّابعين وأقاويلهم، وذلك أيَّام عبيد الله بن موسى، وصنَّفت كتاب «التَّاريخ» إذ ذاك عند قبر الرسول صلعم في الليالي المُقمِرة، وقال: «قَلَّ اسمٌ في «التَّاريخ» إلَّا وله عندي قِصَّةٌ، إلَّا إنِّي كرِهت تطويل الكتاب».
          قال في «المقدِّمة»: «وقال البخاريُّ: أقمتُ بالحجاز ستَّة أعوامٍ، ولا أُحصي كم دخلت الكوفة وبغداد مع المحدِّثين، وقال: دخلتُ على الحميديِّ وأنا ابن ثمان عشرة سنة ؛ _يعني: أوَّل سنة حجَّ_ فإذا بينه وبين آخَر اختلافٌ في حديثٍ، فلمَّا بَصُر بي / قال: جاء مَنْ يفصل بيننا، فعرضا عليَّ الخصومة، فقضيت للحميديِّ وكان الحق معه».
          وقال أبو سهلٍ محمود بن النَّضر الفقيه: «دَخلتُ البَصرة والشام، والحجاز والكوفة، ورأيتُ علماءها، فكلَّما جرى ذكر محمَّد بن إسماعيل، فضَّلوه على أنفسهم».