الناظر الصحيح على الجامع الصحيح

باب قول الله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ}

          ░58▒ (بَابُ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ})[الأنبياء:47]: في نصبِ {الْقِسْطَ} وجهانِ:
          فقيل: نعتٌ لـ{الْمَوَازِينَ}، وعلى هذا يَرِدُ الاعتراضُ؛ وهو فَلِمَ أُفْرِدَ؟ ويُجابُ بجوابينِ؛ أحدُهما: أنَّه في الأصلِ مصدرٌ، والمَصْدَرُ يُوَحَّدُ مطلقًا، الثاني: أنَّه على حَذفِ مضافٍ، أي: ذواتِ القِسْطِ.
          الوجه الثاني: أنَّه مفعولٌ مِنْ أجلِهِ، وفيه نظرٌ؛ مِنْ حيثُ إنَّ المفعولَ له إذا كان معرَّفًا بـ«أل»؛ يَقِلُّ تجرُّدُه مِنْ حرفِ العِلَّةِ، تقول: «جئتُ للإكرامِ»، ويَقِلُّ: (الإكرامَ)، ومنهُ: [من الرجز] /
لَا أَقْعُدُ الجُبْنَ عَنِ الهَيْجَاءِ
وَلَوْ تَوَالَتْ زُمَرُ الأَعْدَاءِ
          إشارةٌ: {لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ}: قال الكِرمانيُّ: (أي: في يومِ) انتهى.
          وفي هذه اللَّامِ أوجُهٌ؛ أحدُها: ما قالَهُ الكِرمانيُّ، الثاني: قال الزمخشريُّ: (هذِهِ اللَّامُ مِثْلُها في قولِكَ: «جئتُ لخَمْسٍ خَلَونَ مِنَ الشهرِ»)، والَّذي قاله الكِرمانيُّ ذهبَ إليه ابنُ قُتيبةَ، وابنُ مالِكٍ، وهو رأيُ الكوفيِّينَ، ومنه عندَهم: {لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ} [الأعراف:187]، وقولُ مسكينٍ الدارميِّ: [من الطويل]
أُولَئِكَ قَوْمِي قَدْ مَضَوْا لِسَبِيلِهِمْ                     كَمَا قَدْ مَضَى مِنْ قَبْلُ عَادٌ وَتُبَّعُ /
          وقولُ الآخَرِ: [من الطويل]
وَكُلُّ أَبٍ وَابْنٍ وَإِنْ عُمِّرَا مَعًا                     مُقِيمَيْنِ مَفْقُودٌ لِوَقْتٍ وَفَاقِدُ
          [والثالثُ: أنَّها على بابِها مِنَ التعليلِ، ولكنْ على حَذْفِ مضافٍ، أي: لحسابِ يومِ القيامة].
          (وَأـإَِنَّ أَعْمَالَ): بكسرِ الهمزةِ وفتحِها.
          (وَيُقَالُ: القِسْطُ: مَصْدَرُ المُقْسِطِ؛ وَهوَ العَادِلُ، وَأَمَّا القَاسِطُ؛ فَهوَ الجَائِرُ): قال الكِرمانيُّ: («المقسِط»؛ بالكسرِ: مصدرُهُ «الإقساطُ»، لا «القسط»، لكنَّ المرادَ: المصدرُ المحذوفُ الزوائدِ نظرًا إلى أصلِهِ، فهو مَصْدرُ مَصْدَرِهِ؛ إذْ لا خفاءَ أنَّ المَصْدرَ الجاري على فِعلِهِ هو «الإقساطُ»، و«المقسِطُ» هو العادلُ.
          فإنْ قلتَ: المزيدُ لا بُدَّ أنْ يكونَ مِنْ جنسِ المزيدِ عليه؟
          قلتُ: إمَّا أن يكونَ «المُقسِط» مِنَ «القِسْط»؛ بالكسرِ، وإمَّا أنْ يكونَ مِنَ «القَسْط»؛ بالفتحِ، الَّذي هو بمعنى الجَوْر، والهمزةُ للسَّلْبِ والإزالةِ).
          وقالَ الزركشيُّ: (اعتُرِضَ عليه بأنَّ مصدرَ «المقسِط» «الإقساط»؟ وأجيبَ: بأنَّ ذلكَ في الجاري على فعلِهِ، وليس هوَ مُرادَ البخاريِّ، وإنَّما أرادَ بـ«المَصْدَرِ» المحذوفَ الزوائدِ؛ كـ«القَدْر» مصدر «قَدَرْتُ»؛ إذا حذفتَ زوائِدَهُ ورددتَه إلى الأصلِ، وهو كثيرٌ، وإنَّما تَحْذِفُ العربُ زوائِدَ المَصْدرِ؛ لتَرُدَّ الكلامَ إلى أصلِهِ) انتهى. /
          وقالَ غيرُه: إنْ قيلَ: قولُه: (وَيُقَالُ: القِسْطُ: مَصْدَرُ المُقْسِطِ)، وهذا يقتضي أنْ يكونَ المصدرُ مُشْتقًّا مِنِ اسمِ الفاعلِ، وما للنَّاسِ إلَّا قولان؛ أحدُهما: أنَّ الفعلَ مشتقٌّ مِنَ المصدرِ، والثاني: العكسُ، والأوَّلُ هو مذهبُ أهلِ البصرةِ، وهو المنصورُ، والذي قاله البخاريُّ قولٌ ثالثٌ.
          فيُجابُ عنه: بأنْ يُقالَ: (القِسْطُ): مَصْدَرٌ لاسمِ الفاعلِ، واسمِ المفعولِ، والمَوضِعِ، ولِغَيرِه؛ بمعنى: أنَّ الكُلَّ مشتقةٌ منه على اختيارِ ابنِ مالكٍ في «الشافيةِ»، ويُقالُ: الَّذي يَصْدُرُ عنِ[110أ] المُقسِطِ هو القِسْطُ، أي: أنَّ المُقسِطَ يَصْدُرُ عنه العَدْلُ؛ وهو القِسْطُ.