المختصر النصيح في تهذيب الكتاب الجامع الصحيح

حديث: فإلينا وليأتني وأنا مولاه فلأدع له

          1390- قال البخاريُّ: حدثنا يحيى ابن بكير: حدثنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم. [خ¦2298]
          وحدثنا المكي بن إبراهيم: حدثنا يزيد بن أبي عبيد، عن سلمة بن الأكوع قال: كنا جلوسًا عند النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم؛ إذ أُتي بجنازة فقالوا: صلِّ عليها، فقال: «هل عليه دين»؟ فقالوا: لا، قال: «فهل ترك شيئًا»؟ قالوا: لا، فصلى عليه، ثم أُتي بجنازة أخرى، فقالوا: يا رسول الله؛ صل عليها، قال: «عليه دين؟» قيل: نعم، قال: «فهل ترك شيئًا؟» قالوا: ثلاثة دنانير، فصلى عليها، ثم أُتي بالثالثة، قالوا: صل عليها قال: «هل ترك شيئًا؟» قالوا: لا، قال: «فهل عليه دين؟» قالوا: ثلاثة دنانير، فقال: «صلوا على صاحبكم»، قال أبو قتادة: صلِّ عليه يا رسول الله وعلي دينه، فصلى عليه. [خ¦2289]
          قال البخاريُّ: وحدَّثنا محمود بن غيلان: حدَّثنا عبيد الله، عن إسرائيل، عن أبي حصين، عن أبي صالح، عن أبي هريرة. [خ¦6745]
          وحدثنا أبو الوليد: حدثنا شعبة، عن عدي، عن أبي حازم، عن أبي هريرة. [خ¦2398]
          وحدثنا إبراهيم بن المنذر: حدَّثنا محمد بن فليح: حدثنا أبي، عن هلالٍ، عن عبد الرحمن بن أبي عَمْرة، عن أبي هريرة، عن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة» اقرؤوا إن شئتم: {النَّبيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب:6] فأيما مؤمن ترك مالًا؛ فليرثه عصبته مَن كانوا، فإن ترك دينًا أو ضياعًا؛ فليأتني وأنا مولاه». [خ¦4781]
          وقال أبو حازم: «ومن ترك كلًّا؛ فإلينا».
          وقال أبو صالح: «كلًّا أو ضياعًا؛ فأنا وليه فَلأُدعَ(1) له».
          وقال ابن شهاب فيه: فلما فتح الله عليه الفتوح؛ قال: «من توفي من المؤمنين فترك دينًا؛ فعليَّ قضاؤه، ومن ترك مالًا؛ فلورثته».
          قال المهلب: انفرد ابن شهاب بلفظ القضاء؛ لأنه حمله على المعنى الذي سبق إليه من أن تركه للصلاة على الميت المدْيان كان قبل الفتوح، وأن هذا الحديث ناسخ لذلك من أجل الفتوح، وهو منه _والله أعلم_ وَهْم، رضي الله عنه.
          وبهذا التأويل كان يظن أن على السلطان قضاء الديون عن المفلسين من بيت المال، ولذلك كان يتداين كثيرًا أبدًا حتى يثقله الدين، فيخرج إلى الملوك يسألهم أداءها عنه، ويخبرهم أن عليهم أداء دين المفلسين من بيت المال، كما كان تأول، حتى أدى عنه بعض بني مروان مالًا عظيمًا، ثم وهبه مالًا آخر؛ ليتصاون به، فلما خرج به؛ قال له غلام له: يا مولاي؛ خذ بالحزم في هذا المال، ولا تبذره، ولا تحوج نفسك إلى سؤال الملوك، فقال له: إن الكريم لا تحكمه التجارب.
          وليس الأمر على ما تأوله ابن شهاب، وإنما معنى الآية _والله أعلم_ أن الله عزَّ وجلَّ لما نسخ التبني الذي كان الناس يتوارثون به، والأخوة التي / كان صلَّى الله عليه وسلَّم يؤاخي بها بين المهاجرين والأنصار في أول الإسلام؛ استئلافًا للنفوس، وتعويضًا للمهاجرين عما تركوا من الأموال والأهل الموروثين، فكان يؤاخي بين المهاجري والأنصاري؛ ليؤنسه فيعوضه مما ترك من عصبته وماله، فلما كثر عدد المسلمين وظهر الإسلام؛ نسخ الله ذلك بأن قال عز من قائل: {ادْعُوهُمْ لِآَبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ} [الأحزاب:5] فكان منهم زيد بن حارثة الذي كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قد تبناه، وكان يدعى زيد بن محمد، فقال تعالى: {فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} [الأحزاب:5] مع قوله {النَّبيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب:6] يريد _ والله أعلم _: وقد تركوا التبني والموارثة به مع أنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فأنتم أولى أن تتركوا التبني والإخاء اللذين كنتم تتوارثون بهما، إذ {أُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا} [الأحزاب:6] من الهبة، والصدقة، والعون، والرفادة، والوصية بعد الوفاة، هذا معنى الآية عند حذاق العلماء بالتفسير، ولم يتوجه لابن شهاب الأمر على ما نزلت فيه الآية، فسبق إليه رحمه الله أنه كان قبل الفتوح، وأنه منسوخ بقوله عليه السلام: «ومن ترك دينًا أو ضياعًا؛ فليأتني وأنا مولاه» «وأنا وليه فَلْأُدْعَ له»، أن ذلك منه وعد بالأداء، فنقل الحديث بلفظ القضاء على معنى التفسير، والله أعلم.
          فإن قيل: فما معنى قوله عليه السلام: «فإلينا» «وليأتني وأنا مولاه» و«وليه فلأدع له».
          قيل معناه: أدعى للنظر في دين الميت؛ من أجل صغر ورثته، فإن كان ما ترك وفاء لدينه؛ أديته عنه كما شرط الله من رأس المال بقوله تعالى: {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء:11] وإن لم يكن فيه وفاء بدينه، وأراد الورثة الكبار أو رأى متولي أمر الصغار التمسك بالتركة ويضمن الدين عن موروثهم؛ نُظِرَ في ذلك بما يصلح من حال الميت في آخرته، وحال ذريته من بعده من الترفيق لهم بالسعي في المال، والنظرة لهم لعسرتهم، وكانوا من الغارمين الذين أحل لهم الصدقات، وجعل لهم نصيبًا من زكوات المسلمين بقوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ...} الآية إلى {والْغَارِمِينَ} [التوبة:60] ولم يذكر لهم في بيت مالهم نصيب؛ إذ بيت المال لا تكون فيه الزكاة، لأنه أمر عليه السلام بردها على الفقراء، وإنما يكون في بيت المال خمس المغانم والجزية، وقد قسمها الله تعالى ولم يذكر للغارمين فيها نصيبًا بقوله: {مَا أَفَاء اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى...} الآية [الحشر:6]، وقوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ...} الآية [الأنفال:41].
          فإن قيل: إن النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قد أعطى العباس ما قدر على حمله من المغانم والجزية، قيل له: أعطاه بمعنى القربى وبنص كتاب الله في الأُسراء، بقوله تعالى: {قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الَأسْرَى إِن يَعْلَمِ اللّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} [الأنفال:70] فكان العباس ممن أنجز له عليه السلام وعدَ الله عزَّ وجلَّ في كتابه، وفي ترك النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم أن يؤدي عن معاذَ بن جبل ما أحاط بماله من الديون حتى قسم ماله بينهم بالتفليس بعد فتوح اليمن وغيرها ما يرد تأويل ابن شهاب للحديث، وكذلك ترك عمر رضي الله عنه أن يؤدي عن أسَيفِع جهينة / ما أحاط بماله من الدين حتى خطب الناس في قسمة ماله بين دُيَّانه والفتوحات أعظم ما كانت وبيت المال أوفر ما كان قط في الإسلام؛ رَدٌّ أيضًا لتأويله، بل أحال النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم معاذًا على الهدية في تقديمه إلى اليمن، فقال له: «قد علمت الذي دار عليك في مالك، وقد طيبتُ لك الهدية» فأحاله على قبول الهدية في عمالته، بعد أن قسم ماله.
          إلا أن يقول قائل: إن قول ابن شهاب لا يتعدى وجه الحديث الذي نصه في الأموات لا في المفلسين، فيخطئُ على ابنِ شهاب؛ لأنه لم يتداين ابن شهاب عمره كله ويسأل السلاطين الأداءَ عنه في حياته إلا بهذا الحديث، ثم تكثَّر عليه بما لا حيلة له فيه، وذلك أنه عليه السلام لم يَغْرَم دين والد جابر بن عبد الله، وقد توفي وترك تسع بنات، وجابرًا عاشرًا، حتى احتاج إلى أن يشفع عند اليهود في ذلك، وسألهم أن يقطع لهم جميع حائطه بمالهم، فأبوا ذلك عليه حتى لجأ إلى الله عزَّ وجلَّ بالدعاء في البركة، فأدى الله عنه ببركة دعوته عليه السلام، وقد كان قطع لهم الحائط كله، ويترك الورثة بلا ثمرة، وذلك خلاف قول ابن شهاب، وبخلاف نص الحديث: «من ترك مالًا؛ فلورثته، ومن ترك دينًا؛ فعلي قضاؤه».
          وفي وصية الزبير رضي الله عنه لعبد الله ابنه عند الموت: إن وافى مالنا بديني وإلا فاستعن مولى الزبير؛ يريد: الله عزَّ وجلَّ، وذلك في أوفر ما كانت أموال المسلمين في بيت مالهم وأعظم ما كانت فتوحاتهم، فلو علم الزبير أن على بيت المال قضاء دينه بحكم رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كان يقول: استعن مولى الزبير وعلى بيت المال بقية ديني، لكن عبد الله فهم عنه، فكان عبد الله إذا وقع في كربة من دين الزبير يقول: يا مولى الزبير؛ أدِّ عنه، فما أدى عنه إلا من أصله في الغابة، ولم يؤد عنه من بيت المال شيء، لكن بركةٌ من مولى الزبير ومولى الجميع سبحانه في مال الزبير في الغابة.
          ثم ليس يمكن أن يكون عصرًا من الأعصر ولا وقتًا من الزمان لا يكون فيه ميت عن دين كان له مال، أو لا مال له، فلم يوجد في الإسلام خبر صحيح ولا حكم سلطان بأداء ديون الأموات من بيت المال وترك مالهم لورثتهم _كما تأول ابن شهاب_ لا عن النَّبي عليه السلام، ولا عن أحد الخلفاء المرضيين بعده هلم جرًّا، وفي عُدْمِ صحة ذلك عُدْمُ ما تأوله، فوهم فيه على أبي هريرة، أو نقله عن التفسير من لفظه، فخالف جميع الرواة للحديث عنه، والجماعة أثبت من المنفرد، والله الموفق.
          ولعل الذي ذكره إسماعيل القاضي من الرواية الضعيفة في ذلك كان من الزكوات أداء عن الورثة الأحياء الغارمين، أو من تبرع السلاطين، فخفي عليه ونقل الخبر مجملًا بالأداء، والله أعلم.
          وخرَّجه في باب الصلاة على من ترك دينًا، وخرَّجه في باب من ترك مالًا؛ فلأهله، وفي باب ابنَي عمٍّ؛ أحدهما أخ للأم والآخر زوج، وباب ميراث الأسير، وفي «الطلاق»، باب قول النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: «من ترك كلًّا أو ضياعًا؛ فإليَّ»، وفي سورة الأحزاب. [خ¦2398] [خ¦6731] [خ¦6745] [خ¦6763] [خ¦5371] [خ¦4781]


[1] كذا في الأصل، وفي «اليونينية»: (فلَأدعى).