فتح الباري شرح صحيح البخاري

كتاب الحيض

          ♫
          ░░6▒▒ (كِتابُ الحَيْضِ)
          (وقَوْلِ اللهِ ╡: {وَيَسْأَلونَكَ(107) عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ...} إلى قولِهِ: {وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة:222]).
          خَرَّجَ مسلمٌ في «صحيحه» مِنْ حَديثِ حمَّاد بن سلَمة: حَدَّثَنَا ثابتٌ، عَنْ أَنَسٍ: ((أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا إِذَا حَاضَتِ الْمَرْأَةُ فِيهِمْ لَمْ يُؤَاكِلُوهَا، وَلَمْ يُجَامِعُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ فَسَأَلَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صلعم النَّبِيَّ صلعم فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: {وَيَسْأَلُونَك عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ...} إلى آخر الآية [البقرة:222]، فقالَ رسولُ الله صلعم: اصْنَعُوا كُلَّ شَيْءٍ إِلَّا النِّكَاحَ...)) وذكر بقيَّة الحديث.
          فقوله ╡: ({يَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ} [البقرة:222]) أي: عَن حُكمه والمباشَرة فيهِ.
          و({الْمَحِيضِ}) قيل: إنَّهُ مَصدر كالحَيض، وقيل: بل هوَ اسم للحَيض، فيكون اسمَ مصدرٍ.
          وقوله تعالى: ({قُلْ هُوَ أَذًى} [البقرة:222]) فُسِّر الأذى بالدَّم النَّجِس وبما فيهِ مِنَ القذَر والنَّتن، وخروجه مِنْ مَخرج البَول، وكلُّ ذَلِكَ يؤذي.
          قالَ الخطَّابيُّ: الأذى هوَ المكروه الَّذِي ليسَ بشديدٍ جدًّا كقوله: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى} [آل عمران:111]، وقوله: {إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ} [النساء:102]، قالَ: والمراد: أذًى يُعتزَل منها موضعُه لا غيرُه، ولا يتعدَّى ذَلِكَ إلى سائر بَدنِها، فلا يُجْتَنَبْنَ ولا يُخْرَجْنَ مِنَ البيوتِ كفعلِ المجُوس وبعضِ أهل الكِتابِ، فالمراد: أَنَّ الأذى بهنَّ لا يبلغُ الحدَّ الَّذِي يجاوزونه(108) إليه، وَإِنَّمَا يُجْتَنَبُ منهنَّ موضعُ الأذَى، فإذا / تطهَّرن حلَّ غِشْيانُهنَّ.
          وقوله تعالى: ({فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة:222]) قَد فسَّره النَّبِيُّ صلعم باعتزال النِّكاح، وسيأتي فيما بعدُ إن شاء الله تعالى ذكرُ ما يحرُم مِنْ مباشرةِ الحائض وما يحلُّ منهُ في الباب الَّذِي يختصُّ المباشرة مِنَ الكِتابِ.
          وقد قيل: إنَّ المراد بالمَحِيض هاهنا: مكانُ الحَيض، وهو الفرْج، ونصَّ على ذَلِكَ الإمام أحمدُ، وحكاه المَاوَرْديُّ عَن أزواج النَّبِيِّ صلعم وجمهور المفسِّرين، وحُكي الإجماعُ على أَنَّ المراد بالمحيضِ المذكور في أوَّل الآية: الدَّمُ.
          وقد خالف في ذَلِكَ ابنُ أبي موسى مِنْ أَصحابِنا في «شرح الخِرَقيِّ»، فزعَم أنَّ مذهب أحمد أنَّهُ الفرْج أيضًا، وفيه بُعْد.
          وجمهورُ أصحابِ الشَافِعيِّ على أَنَّ المراد بالمحيضِ في الآية الدَّمُ في الموضِعَين.
          وقوله: ({وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ} [البقرة:222]) نهيٌ بعد الأمرِ باعتزالهنَّ في المحيضِ عَن قُربانهنَّ فيهِ، والمراد بهِ: الجِمَاعُ أيضًا، وفيه تأكيدٌ لتحريم الوطْء في الحيض.
          وقوله: ({حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة:222] فيهِ قِراءتان: {يَطْهُرْنَ} بسكون الطَّاء وضمِّ الهاء و{يَطَّهَّرْنَ} بفتح الطَّاء وتشديدِها وتشديدِ الهاء.
          وقد قيل: إنَّ القراءة الأولى أُريد بها انقطاعُ الدَّم، والقراءة الثَّانية أريد بها التَّطهُّر بالماء.
          ومِمَّنْ فسَّر الأولى بانقطاع الدَّم ابنُ عبَّاس ومجاهدٌ وغيرهما. وابنُ جَريرٍ وغيرُه يشيرون إلى حكاية الإجماع على ذَلِكَ. ومنعَ غيرُه الإجماعَ، وقال: كلٌّ مِنَ القراءتين تحتمل أنْ يراد بها الاغتسالُ بالماء، وأَنْ يراد بها انقطاعُ الدَّم، وزوالُ أذاه.
          وفي ذَلِكَ نظرٌ، فإنَّ قراءة التَّشديد تَدُلُّ على نسبة فعل التَّطهر إليها، فكيف يراد بذلك مجرَّدُ انقطاع الدَّم ولا صنع لها فيهِ؟!
          وقوله: ({حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة:222]) غايةٌ للنَّهي عَن قُربانهنَّ، فيدلُّ بمفهومه على أَنَّ ما بعد التَّطهير يزول النَّهيُ.
          فعلى قراءة التَّشديد المفسَّرة بالاغتسال: إِنَّما يزول النَّهي بالتَّطهُّر بالماء، وعلى قراءة التَّخفيف: يَدُلُّ على زوال النَّهي بمجرَّد انقطاع الدَّم.
          فاستَدلَّ بذلك فرقةٌ قليلةٌ على إباحةِ الوطْء بمجرَّد انقطاع الدَّم، وَهوَ قول أبي حنيفة وأصحابه إذا انقطع الدَّم لأكثر الحيضِ، أو لدونِه، ومضى / عليها وقتُ صلاة، أو كانت غير مخاطَبة بالصَّلاة كالذِّمِّيَّة.
          وحُكي عَن طائفةٍ إطلاقُ الإباحة، منهُم: ابنُ بُكير وابنُ عبد الحكم، وفي نَقلِه عنهما نظَرٌ.
          والجمهورُ على أنَّه لا يُباح بدون الاغتسال، وقالوا: الآية وإنْ دلَّت بمفهومها على الإباحة بالانقطاع إلَّا أَنَّ الإتيان مشروطٌ لَهُ شرطٌ آخرُ وَهوَ التَّطهُّر، والمراد بهِ: التَّطهُّر بالماء بقولِهِ: ({فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ} [البقرة:222])، فدلَّ على أنَّه لا يكفي مجرَّد التَّطهُّر، وأنَّ الإتيان متوقِّف على التَّطهُّر، أو على الطُّهر والتَّطهُّر بعدَه، وفسَّر الجمهورُ التَّطهُّرَ: بالاغتسال، كَما في قولِهِ: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة:6].
          وحُكِي عَن طائفةٍ مِنَ السَّلفِ: أَنَّ الوُضوء كافٍ بعدَ انقطاعِ الدَّم، منهُم: مجاهدٌ وعِكْرِمةُ وطاوسٌ، على اختلافٍ عَنهُم في ذَلِكَ.
          قَالَ ابْنُ المُنْذِرِ: رُوِّينا بإسنادٍ فيهِ مَقالٌ عن عطاءٍ وطاوسٍ ومجاهدٍ أنَّهم قالوا: إذا أدركَ الزَّوجَ الشَّبَقُ أمَرَها أنْ تتوضَّأ، ثُمَّ أصابَ منها إن شاء.
          وأصحُّ مِنْ ذَلِكَ عَن عطاءٍ ومجاهدٍ موافقةُ القولِ الأوَّل _يعني المنعَ منهُ وكراهتَه بدون الغُسل_ قالَ: ولا يثبت عَن طاوسٍ خلافُ ذَلِكَ. قالَ: وإذا بطلَ أن يثبتَ عَن هؤلاء قولٌ ثانٍ كانَ القولُ الأوَّلُ كالإجماع. انتهى.
          ولذلك ضعَّف القاضي إسماعيلُ المالكيُّ الرِّواية بذلك عَن طاوسٍ وعطاءٍ لأنَّها مِنْ رِوايةِ لَيث بن أبي سُلَيم عنهما، وَهوَ ضعيفٌ.
          وحُكي عَن بعض السَّلف أَنَّ التَّطهُّر: غَسْلُ الفَرْج خاصَّة. رواه ابنُ جُريج وكعبٌ عَن عطاءٍ. ورواه مَعمَرٌ، عَن قَتادة، وحكاه بعضُ أصحابِنا عَن الأوزاعيِّ، ولا أظنُّه يصحُّ عَنهُ، وقاله قومٌ مِنْ أهلِ الظَّاهر.
          والصَّحيح الَّذِي عليهِ جمهورُ العلماء: أَنَّ تَطهُّر الحائض كتَطهُّر الجُنُب، وَهوَ الاغتسالُ.
          ولو عَدِمَتِ الماءَ فهل يباحُ وطؤُها بالتَّيمُّم؟ فيهِ قولان:
          أحدهما: يُباح بالتَّيمُّم، وَهوَ مذهبُنا، ومذهبُ الشَافِعيِّ وإسحاقَ والجمهورِ، وقولُ يحيى بن بُكير مِنَ المالكيَّة، والقاضي إسماعيلَ منهُم أيضًا.
          وقال مكحولٌ ومالكٌ: لا يُباح وَطؤُها بدون الاغتسال بالماء.
          وقوله: ({فَأْتُوهُنَّ} [البقرة:222]) إباحةٌ، وقوله: ({مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ} [البقرة:222]) أي: باعتزالهنَّ، وَهوَ الفَرْج، أو ما بين السُّرةَّ والرُّكبة، على ما فيهِ مِنَ الاختلاف كَما سيأتي، رُوِيَ هَذا عَن ابن عبَّاسٍ ومجاهدٍ / وعكرمةَ.
          وقيل: المراد: مِنَ الفرْج دونَ الدُّبر، رواه عليُّ بن أبي طلحةَ عَن ابنِ عبَّاسٍ.
          وروى أبانُ بن صالحٍ، عن مجاهدٍ، عن ابن عبَّاسٍ، قالَ: {مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ} [البقرة:222] أنْ تعتزلوهنَّ. ورواه عكرمةُ، عَن ابن عبَّاسٍ أيضًا.
          وقيل: المراد مِنْ قِبَل التَّطهُّر لا مِنْ قِبَل الحيض، ورُوِيَ عَن ابن عبَّاسٍ أيضًا وغيرِه.
          والتَّوَّابون: الرَّجَّاعون إلى طاعة الله مِنْ مخالفتِه.
          والمتطهِّرون: فسَّره عطاء وغيره بالتَّطهُّر بالماء، ومجاهدٌ وغيره: بالتَّطهُّر مِنَ الذُّنوب.
          وعن مجاهدٍ أنَّهُ فسَّره: بالتَّطهُّر مِنْ أدْبار النِّساء. ويشهَد لَهُ قولُ قومِ لوط: {إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [الأعراف:82].