فتح الباري شرح صحيح البخاري

أبواب السهو

          ♫
          ░░22▒▒ (بَاْبُ مَاْ جَاْءَ فِي السَّهْوِ إِذَاْ قَاْمَ مِن رَكْعَتَي الفَرْضِ).
          1224- (حَدَّثَنَاْ عَبْدُ اللهِ بنِ يُوْسُفَ، أَخْبَرَنَاْ مَالِكٌ عَن ابْنِ شِهَاْبٍ، عَن الأَعْرَجِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ ابنِ بُحَيْنَةَ أَنَّهُ قَاْلَ: صَلَّى لَنَاْ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّي اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكْعَتَيْنِ مِن بَعْضِ الصَّلَوَاْتِ، ثُمَّ قَاْمَ فَلَمْ يَجْلِسْ فَقَاْمَ النَّاْسُ مَعَهُ، فَلَمَّاْ قَضَى صَلَاْتَهُ وَنَظْرَنَاْ تَسْلِيْمَهُ كَبَّرَ قَبْلَ التَّسْلِيْمِ فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ وَهُوَ جَاْلِسٌ ثُمَّ سَلَّمَ).
          1225- (حَدَّثَنَاْ عَبْدُ اللهِ بنِ يُوْسُفَ، حدَّثنا مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَيْ بنِ سَعِيْدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ ابنِ بُحَيْنَةَ أَنَّهُ قَاْلَ: إِنَّ رَسُوْلَ اللهِ صلعم قَاْمَ مِن اثْنَتَيْنِ مِن الظُّهْرِ لَمْ يَجْلُسْ بَيْنَهُمَاْ، فَلَمَّاْ قَضَى صَلَاْتَهُ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ).
          قد خرَّج البخاري هذا الحديث فيما سبَق في أبواب التشهد [خ¦829] مِن حديث شعيب، عن الزهري، ومِن حديث جعفر بن ربيعة، عن الأعرج، وفي حديثهما: أن ذلك كان في صلاة الظهر.
          وقد أجمعَ العلماءُ على أن مَن ترك التشهد الأول مِن الصَّلاة الرباعية أو المغرب وقام إلى الثالثة سهوًا فإن صلاته صحيحةٌ ويسجدُ للسَّهوِ، وقد رُوي ذلك عن خلقٍ مِن الصَّحابة بأنهم فعلوه.
          ورُوي عن عُمر أنه تشهَّد مرتين، فقضى التشهُّد الأول في تشهده الأخير.
          روى سفيان الثَّوريُّ، حدثني أبي، عن الحارث بن شُبيل، عن عبد الله بن شدَّاد قال: قام عمرُ في الركعتين فمضى فلمَّا سلَّم في آخر صلاته سجد سجدتين وتشهَّد مرتين.
          وقال عبد الرزاق، عن ابن جُريج: قال عطاء: إذا / قامَ في قعودٍ، فإذا فرغ مِن صلاتِه سجد سجدتي السَّهو وتشهَّد تشهدين.
          وإن كان ترك التشهُّد الأوَّل عمدًا ففي بطلان صلاته اختلافٌ _ذكرناه في التشهُّد_ وإذا كان ساهيًا فله ثلاثة أحوالٍ:
          أحدها: أن يستمرَّ سهوهُ حتى يقرأ في الركعة الثالثة فإنه يستمرُّ ولا يرجع إلى السُّجود عند جمهور العلماء. وروي عن الحسن أنه يجلس للتشهُّد وإن قرأ ما لم يركع. وهذا يدلُّ على أنَّ التشهد الأول عنده واجبٌ متأكدٌ.
          الحال الثاني(4516): أن لا يستمرَّ قائمًا. فقال الجمهور: له أن يرجعَ، وقال أحمد: يجب أن يرجع، بناءً على قوله إن هذا التشهد واجب، ويسجدُ للسهو وإن رجعَ عند جمهور العلماء وهو عبد الرحمن بن أبي ليلى، والشافعي وأحمد، وروي عن النُّعمان بن بشير، وعن أنس بن مالك أنهما فعلاه.
          وروي عن أنس أنه فعله وقال: هو السُّنَّة. رواه سليمانُ بن بلال، عن يحيى بن سعيد، عن أنس. قال الدَّارقطني: لم ينقلُه عن يحيى غيرُه. قال: وزيادةُ الثقة مقبولة.
          وقال طائفة: إذا رجعَ لم يسجد للسَّهوِ، وهو قولُ علقَمة والأوزاعي، وهو أحد قولَي الشافعي، وحُكِيَ عن بعض أصحابنا أيضًا وهو ابنُ حامدٍ أنه إذا رجع قبل أن يستتمَّ قائمًا لم يسجد.
          وقال مالك: إذا فارقتْ أليَته الأرضَ وَنَاءَ للقيام لم يرجعْ ويسجدُ للسَّهو. وقال حسان بن عطية: إذا تجافت ركبتاه عن الأرض مضى.
          وعند أبي حنيفة: إن كان إلى القعود أقرب عاد فجلس وتشهَّد، وإن كان إلى القيام أقرب لم يقعد ويسجد للسَّهو.
          الحالة الثالث: أن يستتمَّ قائمًا ولا يقرأ، وفيه قولان:
          أحدهما: لا يجوز أن يجلس. وحُكِيَ عن عَلقمةَ والضَّحَّاك وقتادة، وهو قولُ أبي حَنيفة والأوزاعيِّ ومالك والشافعي، وأحمد في رواية، وهي المذهبُ عند ابن أبي موسى، وممَّن كان لا يجلس إذا استتمَّ قائمًا: سعد بن أبي وقاصٍ وعُقبة بن عامرٍ وابن الزُّبير وغير واحدٍ مِن الصحابة.
          والثاني: أنَّ له أن يرجع ما لم يشرع في القراءة. وهو قولُ النَّخعي وحمادٍ والثوري مع قوله بكراهة الرجوع، ورُوي نحوُه عن الأوزاعي أيضًا وهو قولُ أحمدَ في المشهور عنه عند أكثر أصحابه، ووجهٌ لأصحابِ الشافعي، وحكاه ابن عبد البَرِّ عن مالكٍ والشافعي.
          واستدلُّوا بأنَّ القراءة هي المقصود الأعظم مِن القيام، مَن لم يأتِ به فلم يأتِ بالمقصود مِن القيام(4517) فكأنه لم يوجد القيام / تامًا. وفي هذا نظرٌ.
          وحكى ابن عبد البرِّ عن جمهور العلماء القائلين بأنَّه لا يرجع إذا تمَّ قيامُه: أنه إذا رجَع لم تَفسد صلاته لأن الأصل ما فعله، وترك الرجوع له رخصةٌ، وحكى عن بعض المتأخرينَ أنه تفسدُ صلاته، قال: وهو ضعيف. كذا قال. ومذهبُ الشافعي عند أصحابه: أنه إن رجعَ عالمًا بالحال بطلت صلاتُه. والجمهورُ على كراهةِ الرجوع وإن لم تفسد به الصلاة عند من يرى ذلك، وإنما حكي الخلافُ في كراهته عن أحمد.
          وقوله: إن الرجوع هو الأصلُ وتركُه رُخصة ليس كما قال، بل الأصل: أن مَن تلبَّس بفرضٍ أنه يمضي فيه ولا يرجعُ إلا إلى ما هو فرض مثله، فأما إن رجع من فرضٍ إلى سنةٍ فليس هو الأصل، وإنما يجيء الرجوع على قول(4518) مَن يقول: إن التشهُّد واجبٌ. وابنُ عبد البر لا يرى ذلك.
          واستدل مَن لم يجوِّز الرجوع بما روى جابرٌ الجعفيُّ، عن المغيرة بن شُبيل، عن قيس بن أبي حازم، عن المغيرة بن شُعبة، عن النبيِّ صلعم قال: ((إذا قام أحدكم فلم يستتمَّ قائمًا فليجلس، وإذا استتمَّ قائمًا فلا يجلس ويسجد سجدتي السَّهوِ)) خرَّجه الإمامُ أحمدُ وأبو داود وابن ماجه. وجابرٌ الجُعفيُّ ضعَّفه الأكثرون.
          وهذا كلُّه في قيامه مِن التشهد الأول في الصَّلاة المفروضة _كما بوَّب عليه البخاريُّ_ فإن كانت صلاته نفلًا وكان نوى ركعتين ثم قام إلى ثالثة نهارًا فهو مخيَّرٌ إن شاء أتمَّها أربعًا، وهو أفضلُ لأن صلاة أربع بالنهار لا كراهة فيها، وبذلك يصون عمله عَن الإلغاء فكان أولى، وإن شاء رجع وتشهَّد وسجدَ للسَّهو. هذا قول أصحابنا وجمهور العلماءِ.
          ومِن الشافعية مَن قال: الأفضلُ أن يرجع لئلا يزيدَ على ركعتين.
          وروي عن مالك: الأفضلُ العَود ما لم يركع في الثالثة، وعنه: ما لم يرفع رأسه مِن ركوعها، ثم يكون المضيُّ أفضل. ومتى أتمها أربعًا فعند أصحابنا: إن كان قد تشهَّدَ عقيب الركعتين لم يسجد وإلا سجدَ.
          وحُكِيَ عن مالك والأوزاعيِّ والشافعيِّ: يسجد لتأخُّره(4519) السَّلام عن هذا التشهد، وإن كان ذلك في صلاة الليل فإنه يرجع ولا يتمُّها أربعًا ويسجدُ للسَّهو، نصَّ عليه أحمدُ، فإن أتمها أربعًا ففي بطلان صلاته وجهان بناءً على الوجهين في صحَّةِ تطوُّعه بالليل بأربع. وحُكيَ عن مالك والشافعيِّ أنَّ الأفضلَ أن يمضي فيها، وقال الأوزاعيُّ / ومالكٌ في رواية: إن كان قد ركعَ في الثالثة لم يرجع وإلا رجع. وعن مالكٍ روايةٌ: أنه يراعي الرفع في الركوع كما سبق عنه. وقال الثوريُّ في رجلٍ صلَّى تطوعًا ركعتين فسها فقامَ في الثالثة: كان الشعبيُّ يقولُ: يمضي ويجعلُها أربعًا. وقال الثوريُّ: وأحبُّ إليَّ أن يجلس ويسلِّم.