النكت على صحيح البخاري

حديث أبي سفيان: أنَّ هرقل أرسل إليه في ركب من قريش

          7- قوله: (حَدَّثَنَا أَبُو اليَمَانِ) في رواية الأَصِيْلِيِّ وكَرِيْمَة: <حَدَّثَنَا الحَكَمُ بنُ نَافِعٍ> وهو هو كما قال.
          (أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ) ابن أبي حمزة دينار الحمصي، وهو من أثبات أصحاب الزهري.
          قوله: (أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ) هو صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف.
          قوله: (هِرَقْلَ) هو مَلِكُ الروم، وهِرَقْلَ اسمه، وهو بكسر الهاء وفتح الراء، ولقبه: قيصر، كما يُلَقْبُ ملك الفرس: كِسرى، ونحوه.
          قوله: (فِي رَكْبٍ) جمع راكب، كصَحب و صاحب: وهم أولو الإبل، العشرة فما فوقها.
          والمعنى: أرسل إلى أبي سفيان حال كونه في جملة الرَّكب، وذلك لأنَّه كان كبيرهم، فلذلك خصَّه بالذكر، وكان عدد الركب ثلاثين رجلًا، رواه الحاكم في «الإكليل» وَلِابْنِ السَّكَنِ: / <نَحْوٌ مِنْ عِشْرِينَ>، وسمى منهم: الْمُغيرَة بن شُعْبَة في «مصنف ابن أبي شيبة» بسند مرسل، وفيه نظر؛ لأنَّه كان إذ ذاك مسلمًا.
          قوله: (وَكَانُوا تُجَّارًا) بضم التاء وتشديد الجيم أو كسرها والتخفيف، جمع تاجر.
          قَوْلُهُ: (فِي الْمُدَّةِ) يعني: مُدَّةَ الصُّلْحِ بِالْحُدَيْبِيَةِ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُا فِي الْمَغَازِي، وَكَانَتْ فِي سَنَةِ سِتٍّ، وَكَانَتْ مُدَّتُهَا عَشْرَ سِنِينَ كَمَا فِي السِّيرَةِ، ولأبي نُعيم في «مسند عبد الله بن دينار»: كانت أربع سنين، والأول أشهر، لكنهم نقضوا، فغزاهم في سنة ثمان وفتح مكة.
          (وَكُفَّارَ قُرَيْشٍ) بالنصب مفعول معه.
          قوله: (فَأَتَوْهُ) (1) تقديره: أرسل إليهم في طلبِ إتيانِ الركبِ فجاء (2) الرسول بطلب إتيانهم فأتوه؛ كقوله تعالى: {فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ} [البقرة:60] أي: فضَرَبَ فانفجرت، ووقع عند المؤلف في الجهاد: أنَّ الرسول وجدهم ببعض الشام، وفي رواية أبي نُعيم في «الدلائل» تَعْيِينُ الْمَوْضِعِ وَهُوَ غَزَّةُ، قالَ: وَكَانَتْ وَجْهَ مَتْجَرِهِمْ، وَكَذَا رَوَاهُ بن إِسْحَاقَ فِي «المغازي» عَنِ الزُّهْرِيِّ.
          قوله: (بِإِيلِيَاءَ) بِهَمْزَةٍ مَكْسُورَةٍ، بَعْدَهَا يَاءٌ أَخِيرَةٌ سَاكِنَةٌ، ثُمَّ لَامٌ مَكْسُورَةٌ، ثُمَّ يَاءٌ أَخِيرَةٌ، ثُمَّ أَلِفٌ مَهْمُوزَةٌ، وَحَكَى الْبَكْرِيُّ فِيهَا الْقَصْرَ، قيل: معناه بيت الله، وفي الجهاد عند المؤلف: أَنَّ هِرَقْلَ لَمَّا كَشَفَ اللهُ عَنْهُ جُنُودَ فَارِسَ مَشَى مِنْ حِمْصَ إِلَى إِيلِيَاءَ شُكْرًا لِلَّهِ.
          زاد ابنُ إِسْحَاقَ عَنِ الزُّهْرِيِّ: أنَّه كَانَ يُبْسَطُ له البُسْطَ ويوضعُ عَلَيْهَا الرَّيَاحِينُ فمشى عليها، وَنَحْوَهُ لِأَحْمَد من حَدِيث ابْنِ أَخِي الزُّهْرِيِّ عَنْ عَمِّهِ.
          وكان سبُبُ ذلك ما رواه الطَّبَرِيُّ وابن عبد الحكم من طرق متعاضدة ملخصها: أَنَّ كِسْرَى أَغْزَى جَيْشَهُ بِلَادَ هِرَقْلَ فَخَرَّبُوا كَثِيرًا مِنْ بِلَادِهِ، ثُمَّ اسْتَبْطَأَ كِسْرَى أَمِيرَهُ، فأرادَ قَتْلَه وتولية غيره (3) ، فَاطَّلَعَ أَمِيرُهُ عَلَى ذَلِكَ فَبَاطَنَ هِرَقْلَ وَاصْطَلَحَ مَعَهُ عَلَى كِسْرَى وَانْهَزَمَ عَنْهُ بجيوشِ فارسٍ، فَمَشَى هِرَقْلُ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ، وَاسْمُ الْأَمِيرِ الْمَذْكُورِ شَهْرَبَرَازَ، وَاسْمُ الْغَيْرِ الَّذِي أَرَادَ كسْرَى تأميره فرخان.
          قوله: (فَدَعَاهُمْ فِي مَجْلِسِهِ).
          أي: في حال كونه في مجلسه، وللمصنف في الجهاد: ((فَأَدْخَلَنَا عَلَيْهِ فَإِذَا هُوَ جَالِسٌ فِي مَجْلِسِ مُلْكِهِ وَعَلَيْهِ التَّاجُ)).
          قوله: (وَحَوْلَهُ) بِالنَّصْبِ لِأنَّه ظَرْفُ مَكَانٍ.
          قوله: (عُظَمَاءُ) جمع عظيم، / وَلِابْنِ السَّكَنِ: <فأُدْخِلْتُ عَلَيْهِ وَعِنْدَهُ بَطَارِقَتُهُ وَالْقِسِّيسُونَ وَالرُّهْبَانُ>.
          و(الرُّومُ) من ولد عِيْص بن إِسْحَاقَ بن إبراهيم ◙ على الصحيح، ودخل فيهم طوائف من العرب من تنوخ وبهراء وسُليح وغيرهم من غسان، كانوا سكانًا بالشام، فلما أخلاهم المسلمون عنها دخلوا بلاد الروم فاستوطنوها، فاختلطت أنسابهم.
          قوله: (ثُمَّ دَعَاهُمْ) مقتضاه أنَّه أمر بإحضارهم، فلما حضروا اسْتَدْنَاهُم؛ لأنَّه ذكر أنَّه دعاهم فتنزل على هذا، ولم يقع تكرار ذلك إلا في هذه الرواية.
          والتَّرْجُمُان بفتح التاء المثناة وضم الجيم، ويجوز ضم التاء إتباعًا، ورجَّحه النووي في «شرح مسلم» ويجوز فتح الجيم حكاه الجوهري في رواية الأَصِيْلِيِّ وغيره.
          (بِتَرْجُمَانِهِ) يعني أرسل إليه رسولًا أحْضَرَهُ صُحْبَتَهُ، والترجمان: وهو المُعَبْر عن لُغَةٍ بِلُغَةِ، وهو معرَّب (4) ، وقيل: عربي.
          قوله: (فَقَالَ: أَيُّكُمْ أَقْرَبُ نَسَبًا؟) أي: قال الترجمان على لسان هرقل، وإنَّما كان أبو سفيان أقرب؛ لأنَّه من بني عبد مناف، وقد أوضح ذلك المصنف في الجهاد بِقَوْلِهِ: ((قَالَ: مَا قرابتك مِنْهُ؟ قلتُ: هُوَ ابن عَمِّي، قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: وَلَمْ يَكُنْ فِي الرَّكْبِ مِنْ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ غَيْرِي)). انتهى.
          وعَبْدُ مَنَافٍ: الأب الرابع للنبي صلعم وكذا (5) لأبي سفيان، وأطلق عليه ابن عم؛ لأنَّه نَزَّلَ كلًا منهما منزلة جده ؛ فعبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف ابن عم أبيه: ابن عبد شمس بن عبد مناف.
          وإنَّما خصَّ هرقل الأقرب؛ لأنَّه أَحرى بالاطلاع على أُموره ظاهرًا وباطنًا أكثر من غيره، ولأنَّ الأبعدَ لا يُؤْمَنْ أن يَقْدَحَ في نسبه بخلاف الأقرب، وظهر ذلك في سؤاله بعد ذلك: (كيف نَسَبُهُ فيكم؟).
          وقوله: (بِهَذَا الرَّجُلِ) ضمنَ (أَقْرَبُ) معنى أوصل (6) فعدَّاه بالباء، ووقع في رواية مسلم: ((مَنْ هَذَا الرَّجُل؟)) وهو على الأصل.
          وقوله: (وَهُو الَّذِي يَزْعُمُ) في رواية أبي إِسْحَاقَ عَنِ الزُّهْرِيِّ: ((يَدَّعِي))، وزعمَ قالَ الجوهريُّ_وحكاه أيضًا ثعلب وجماعة _: هي بمعنى قال، كما ستأتي في قصة ضِمَام في كتاب العِلْم.
          قلت: وهو كثيرٌ، ويأتي في موضع الشَّك غالبًا.
          قوله: (واجْعَلُوهُمْ عِنْدَ ظَهْرِهِ) أي: لئلا تستحيُوا أن تواجهوه بالتكذيب إن كذب، / وقد صَرَّحَ بذلك الوَاقِدِيُّ في روايته.
          وقوله: (إِنْ كَذَبَنِي) بتخفيف الذال، أي: إن نقل إليَّ الكذب.
          قوله: (قَالَ) أي: (7) أبو سفيان، وسقط لفظ (قال) من رِوَايَةِ كَرِيمَةَ وأبي الوَقْتِ فأشكل ظاهره، وبإثباتها يزول الإشكال.
          قوله: (فَوَاللهِ لَوْلاَ الحَيَاءُ مِنْ أَنْ يَأْثِرُوا) أي: ينقلوه. (لَكَذَبْتُ عَلَيْهِ) ولِلأَصِيْلِيِّ: <عَنْهُ> أي: عن الإخبار بحاله.
          وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أنَّهمْ كَانُوا يَسْتَقْبِحُونَ الْكَذِبَ، إمَّا بالأخذ عن الشرع السابق أو بالعُرْف.
          وفي قوله: (يَأْثِرُوا) دون قوله: (يَكْذِبُوا) دَلِيلٌ عَلَى أنَّه كَانَ وَاثِقًا مِنْهُمْ بِعَدَمِ التَّكْذِيبِ أَنْ لَوْ كَذَبَ لِاشْتِرَاكِهِمْ مَعَهُ فِي عَدَاوَةِ النَّبِيِّ صلعم لَكِنَّهُ تَرَكَ ذَلِكَ اسْتِحْيَاءً وَأَنَفَةً مِنْ أَنْ يَتَحَدَّثُوا بِذَلِكَ بَعْدَ أَنْ يَرْجِعُوا فَيَصِيرُ عِنْدَ سَامِعِي ذَلِكَ كَذَّابًا، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ التَّصْرِيحُ بِذَلِكَ وَلَفْظُهُ: ((فَوَاللهِ لَوْ قَدْ كَذَبْتُ مَا رَدُّوا عَلَيَّ وَلَكِنِّي كُنْتُ امْرَأً سَيِّدًا أَتَكَرَّمُ عَنِ الْكَذِبِ، وَعَلِمْتُ أَنَّ أَيْسَرَ (8) مَا فِي ذَلِكَ إِنْ أَنَا كَذَبْتُ أَنْ يَحْفَظُوا ذَلِكَ عَنِّي ثُمَّ يَتَحَدَّثُوا بِهِ، فَلَمْ أَكْذِبْهُ)).
          قوله: (ثُمَّ كَانَ أَوَّلَ) هو النصب عَلَى الْخَبَرِ وَبِهِ جَاءَتِ الرِّوَايَةُ وَيَجُوزُ رَفْعُهُ عَلَى الإسْمِيَّةِ.
          قوله: (كَيْفَ (9) نَسَبُهُ فِيكُمْ؟) أَيْ: مَا حَالُ نَسَبِهِ؟ أَهُوَ مِنْ أَشْرَافِكُمْ أَمْ لَا؟ فقال: (هُوَ فِينَا ذُو نَسَبٍ) والتَّنْوِينُ فِيهِ لِلتَّعْظِيمِ، وَأَشْكَلَ هَذَا عَلَى بَعْضِ الشَّارِحِينَ وَهَذَا ووَجْهُهُ.
          قوله: (فَهَلْ قَالَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْكُمْ أَحَدٌ قَطُّ قَبْلَهُ) ولِلْكُشْمِيهَنِيِّ والأَصِيْلِيِّ بدل (قَبْلَهُ): <مِثْلُهُ>.
          فقوله: (مِنْكُمْ) أَيْ: مِنْ قَوْمِكُمْ، يعني: قُرَيْشًا أَوِ الْعَرَب، ويُستَفَادُ من أنَّ الشَّفَاهِي تعم؛ لأنَّه لم يُرِدُ المخاطَبِين فقط، وكذا قوله بعد: (فَهَلْ قَاتَلْتُمُوهُ (10) ) ، وقوله: (بِمَاذَا يَأْمُرُكُمْ).
          واستعمل (قطُّ) بغير أداة النفي وهو نادر، ومنه قول عمر: ((صَلَّيْنَا أَكْثَرَ مَا كُنَّا قَطُّ وَآمَنَهُ رَكْعَتَيْنِ))، ويحتمل أن يُقال: إنَّ النفي مُضَمَّنٌ فيه، فكَأنَّه قال: هل قال هذا القول أحد أو لم يقله أحد قط؟
          قوله: (فَهَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مَلِكٌ) ولِكَرِيْمَةَ والأَصِيْلِيِّ ولأبي الوَقْتِ: <مِنْ (11) > بزيادة (من) الجارة، ولابن عساكر بفتح <مَن> و <مَلَك> فعل ماض، والجارة أرجح ؛ لسقوطها من رواية أَبِي ذَرٍّ، والمعنى في الثلاثة واضح. /
          قوله: (فَأَشْرَافُ النَّاسِ اتَّبَعُوهُ؟)
          فيه إسقاط (12) همزة الاستفهام وهو قليل، وقد ثبت للمصنف في التفسير ولفظه: ((أَيَتْبَعُهُ أَشْرَافُ النَّاسِ؟)) والمراد بالأشراف هنا: أهل النخوة والتكبُّر منهم لا كل شريف، حتى لا يَرِدَ مثل أبي بكر وعمر وأمثالهما ممن أسلم قبل هذا السؤال.
          ووقع في رواية ابن إِسْحَاقَ: ((تَبِعَهُ مِنَّا الضُّعَفَاءُ وَالْمَسَاكِينُ والأَحْدَاثُ، فَأمَّا ذَوُو الْأَنْسَابِ وَالشَّرَفِ فَمَا تَبِعَهُ مِنْهُمْ أَحَدٌ)).
          قوله: (سُخْطَةً) بضم أوله وفتحه، وأَخْرَجَ بهذا من ارتد مُكرهًا، أو لا لسخط لدين الإسلام، بل لرغبة في غيره لحظٍّ نفساني، كما وقع لعُبَيْدِ الله بن جحش.
          قوله: (هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ) أي: على الناس، إنَّما عدل إلى السؤال عن التهمة عن السؤال عن نفس الكذب تقريرًا لهم على صِدْقه؛ لأنَّ التهمة إذا اتفقت انتفى سببها، ولهذا عقَّب بالسؤال عن الغدر.
          قوله: (وَلَمْ تُمْكِنِّي (13) كَلِمَةٌ أُدْخِلُ فِيهَا شَيْئًا) أي: أنتقصه به، على أنَّ التنقيص هنا أمر نسبي، وذلك أنَّ من يُقطع بعدم غدره أرفع مرتبة ممن يُجَوز وقوع ذلك منه في الجملة، وقد كان معروفًا عندهم بالاستقراء من عادته أنَّه لا يغدر، وذلك لما كان الأمر مغيبًا (14) لأنَّه مستقبل، أَمِنَ أبو سفيان أن يُنْسَبَ في ذلك إلى الكذب، ولهذا أورده على التردد، ومن ثم لم يُعرِّج هرقل على هذا القدر منه، وقد صرح ابن إِسْحَاقَ في روايته عَنِ الزُّهْرِيِّ بذلك بقوله قال: ((فَوَاللهِ مَا الْتَفَتَ إِلَيْهَا مِنِّي)).
          قوله: (سِجَالٌ) بكسر أوله أي: نُوَبٌ، والسجل: الدلو.
          و(الحَرْبُ) اسم جنس، ولهذا جعل خبره اسم جمع.
          و(يَنَالُ) أي: يصيب، فكَأنَّه شبَّه المتحاربين بالمُسْتَقِيينِ، يسقي هذا دلو وهذا دلو، وأشار أبو سفيان بذلك إلى ما وقع بينهم في غزوة بدر و غزوة أحد، وقد صرَّح بذلك أبو سفيان يوم أحد في قوله: ((فَيَوْمٌ بِيَوْمِ بَدْرٍ وَالْحَرْبُ سِجَالٌ))، ولم يردَّ عليه النبي صلعم ذلك، بل نطق النبي صلعم بذلك في حديث أوس بن حذيفة الثقفي لَمَّا كان يحدِّث وفد (15) ثقيف.
          قوله: (بِمَاذَا يَأْمُرُكُمْ) يدل على أنَّ الرسول صلعم / من شأنَّه أن يأمر قومه.
          قوله: (يَقُولُ: اعْبُدُوا اللهَ وَحْدَهُ) فيه أنَّ للأمر صيغة معروفة؛ لأنَّه أتى بقول: (اعْبُدُوا) في جواب (مَا يَأْمُرُكُمْ) وهو من أحسن الأدلة في هذه المسألة؛ لأنَّ (16) أبا سفيان من أهل اللسان، وكذلك الراوي عنه ابن عباس، بل هو من أفصحهم، وقد رواه عنه مُقِرًّا له.
          قوله: (وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئا) وسقطت الواو من رواية الْمُسْتَمْلِيِّ، فيكون تأكيدًا لقوله: (وَحْدَهُ).
          قوله: (وَاتْرُكُوا مَا يَقُولُ آبَاؤُكُمْ) هي كلمة جامعة لترك (17) ما كانوا عليه في الجاهلية، وإنَّما ذكر الآباء تنبيهًا على عذرهم في مخالفتهم له؛ لأنَّ الآباء قدوة عند الفريقين، أي: عبدة (18) الأوثان والنَّصارى.
          قوله: (وَيَأْمُرُنَا بِالصَّلَاةِ وَالصِّدْقِ) وللمصنف في رواية: <الصَّدَقَةِ> بدل الصدق، ورجحها شيخنا شيخ الإسلام، ويقويها رواية المؤلف في التفسير: ((الزَّكَاةِ)) واقتران الصلاة بالزكاة معتاد في الشرع، ويرجحها أيضًا ما تقدم من أنَّهم كانوا يستقبحون (19) الكذب، فذِكْرُ ما لم يألفوه (20) أولى.
          قلتُ: وفي الجملة ليس الأمر بذلك ممتنعًا كما في أمرهم بوفاء العهد وأداء الأمَانة وقد كانا مألوف عقلائهم، وقد ثبتا عند المؤلف في الجهاد من رواية أَبِي ذَرٍّ عَنْ شَيْخِهِ الْكُشْمِيْهَنِيِّ وَالسَّرَخْسِيِّ، قال: ((بِالصَّلَاةِ وَالصِّدْقِ وَالصَّدَقَةِ)).
          وفي قوله: (يَأْمُرُنَا) بعد قوله: (يَقُولُ اعْبُدُوا اللهَ) إشارة إلى المغايرة بين الأمرين لما ترتب على مخالفها، إذ مخالف الأول كافر، والثاني ممن قَبِلَ الأول عاصٍ.
          قوله: (وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْعَثُ فِي نَسَبِ قَوْمِهَا).
          الظاهر أنَّ إخبار هرقل بذلك بالجزم كان عن العلم المقرر عنده في الكتب السالفة.
          قوله: (لَقُلْتُ: رَجُلٌ تَأَسَّى بِقَوْلٍ) كذا لِلْكُشْمِيهَنِيِّ ، ولغيره: <يَتَأسَّى> بتقديم الياء المثناة من تحت، وإنَّما لم يقل: (فَقُلْتُ) إلا في هذا وفي قوله: (هَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ؟) لأنَّهذين المقامين مقام فكر (21) ونظر؛ بخلاف غيرهما من الأسئلة فإنَّها مقام نقل.
          قوله: (فَذَكَرْتَ أَنَّ ضُعَفَاءَهُمُ اتَّبَعُوهُ) هو معنى قول أبي سفيان: (بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ) ومثل ذلك يُتَسَامَح به لاتحاد المعنى. /
          وَقَوْلُ هِرَقْلَ: (وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ) فمعناه: أن أتباع الرسل في الغالب أهل الاستكانة، لا أهل الاستكبار الذين أصرُّوا على الشِّقاقِ بَغيًا وحسدًا كأبي جهل وأشياعه إلى أن أَهْلَكَهم الله تعالى، وأنقذ (22) بعد حينٍ من أراد سعادتهم منهم.
          قوله: (وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ) أي: أمر الإيمان؛ لأنَّه يظهر نورًا ثم لا يزال في زيادة حتى يتم بالأمور المعتبرة فيه من صلاة وصيام وغيرهما، ولهذا نزلت في آخر سِنِيِّ النبي صلعم: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة:3] ، ومنه {وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ } [التوبة:32] وكذا جرى لأتباع النبي صلعم، لم يزالوا في زيادة حتى كَمُل بهم ما أراد الله من إظهار دينه وتمام نعمته، فله الحمد والمنة.
          قوله: (حِينَ يُخَالِطُ بَشَاشَةَ الْقُلُوبِ) هكذا روي بالنصب، والقلوب: مضاف، أي: يخالط الإيمانَ انشراحُ الصدر، وروي: (بَشَاشَةُ الْقُلُوبَ) بالضم، والقلوب مفعول ؛ أي: يُخَالِطُ بَشَاشَةَ الْإِيمَانِ، وهو شرحه القلوب التي يدخل فيها (23) .
          زاد المصنف في الإيمان، وزاد ابن السَّكن في روايته في «معجم الصحابة»: ((يَزْدَادُ بِهِ عَجَبًا وَفَرَحًا))، وفي رواية ابن إِسْحَاقَ: ((وَكَذَلِكَ حَلَاوَةُ الْإِيمَانِ لَا تَدْخُلُ قَلْبًا فَتَخْرُجُ مِنْهُ)).
          قوله: (وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ لَا تَغْدِرُ) لأنَّها لا تطلب حظ الدنيا الذي يَنَال طالبه بالغدر بخلاف من طلب الآخرة، ولم يُعَرِّجِ هرقل على الدسيسة التي دسها أبو سفيان كما تقدَّم.
          وسقط من هذه الرواية إيراد تقدير السؤال العاشر والذي بعده وجوابه، وقد ثبت الجميع في رواية المؤلف التي في الجهاد، وسيأتي الكلام عليه ثَمَّ إن شاء الله تعالى.
          فائدة:
          قالَ الْمَازِرِيُّ: هَذِهِ الْأَشْيَاءُ الَّتِي سَأَلَ عَنْهَا هِرَقْلُ لَيْسَتْ قَاطِعَةً عَلَى النُّبُوَّةِ إِلَّا أنَّه يُحْتَمَلُ أنَّها كَانَتْ عِنْدَهُ عَلَامَاتٌ عَلَى هَذَا الشيء بعينه؛ لِأنَّه قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: (قَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ أنَّه خَارِجٌ وَلَمْ أَكُنْ أَظُنُّ أنَّه مِنْكُمْ) وما أورده احتمالًا جزم به ابن بَطَّالٍ، وهو ظاهر.
          قوله: (فَذَكَرْتَ أنَّه يَأْمُرُكُمْ) ذكر ذلك بالاقتضاء؛ لأنَّه ليس في كلام أبي سفيان / ذكر الأمر بل صيغته.
          وقوله: (وَيَنْهَاكُمْ عَنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ) مستفاد من قوله: (وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَاتْرُكُوا مَا يَقُولُ آبَاؤُكُمْ) لأنَّ مقولهم الأمر بعبادة الأوثان.
          قوله: (أَخْلُصُ) بضم اللام، أي: أَصِلُ، يقال: خَلَصَ إلى كذا ؛ أي: وَصَلَ.
          قوله: (لَتَجَشَّمْتُ) بالجيم والشين المعجمة، أي: تكلفت الوصول إليه، وهذا يدل على أنَّه كان يتحقق أنَّه لا يَسْلَم من القتل إن هاجر إلى النبي صلعم، واسْتَفَاد ذلك بالتجربة في قصة ضُغَاطِر الذي أظهر لهم إسلامه فقتلوه (24) ، لكن لم يفطن هرقل لقوله صلعم في الكتاب إليه: (أَسْلِمْ تَسْلَمْ)، وحمل الجزاء على عمومه في الدنيا والآخرة لو أسلم لَسَلِمَ مِنْ كل ما يخافه، ولكن التوفيق بيد الله سبحانه وتعالى.
          وقوله: (لَغَسَلْتُ عَنْ قَدَمَيْهِ) مبالغة في العبودية له والخدمة (25) ، وفي رواية عبد الله بن شداد عن أبي سفيان: ((لَوْ عَلِمْتُ أنَّه هُوَ لَمَشَيْتُ إِلَيْهِ حَتَّى أُقَبِّلَ رَأْسَهُ وَأَغْسِلَ قَدَمَيْهِ)) وهي تدل على أنَّه كان بقي عنده بعض شكٍّ، وزاد فيها: ((وَلَقَدْ رَأَيْتُ جَبْهَتَهُ يَتَحَادَرُ عَرَقُهَا مِنْ كَرْبِ الصَّحِيفَةِ)) يعني: لما قرئ عليه كتاب النبي صلعم.
          وفي اقتصاره (26) على ذكر غسل القدمين إشارة منه إلى أنَّه لا يَطْلب منه _إذا وصل إليه سالمًا _ (27) لا ولاية ولا منصبًا، وإنَّما يطلب ما يحصل له به البركة.
          وقوله: (وَلَيَبْلُغَنَّ مُلْكُهُ مَا تَحْتَ قَدَمَيَّ) أي: بيت المقدس، وكنَّى بذلك لأنَّه موضع استقراره، أو أراد الشام كله؛ لأنَّ دار ملكه كانت حمص، ومما يقوي أنَّهرقل آثر ملكه على الإيمان وتمادى على الضلال أنَّه حارب المسلمين في غزوة مؤتة سنة ثمان بعد هذه القصة بدون السنتين، ففي «مغازي ابن إِسْحَاقَ»: ((وَبَلَغَ الْمُسْلِمِينَ لَمَّا نَزَلُوا مَعَانَ مِنْ أَرْضِ الشَّامِ أَنَّ هِرَقْلَ نَزَلَ فِي مِائَةِ أَلْفٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)) فحكى كيفية الواقعة، وكذا روى ابن حبان في «صحيحه» (28) عن أنسٍ أنَّ النبي صلعم كتب إليه أيضًا من تبوك يدعوه، وأنَّه قارب الإجابة ولم يُجِبْ.
          فدلَّ ظاهر ذلك على استمراره / على الكفر، لكن يحتمل مع ذلك أنَّه كان يُضْمر الإيمان، ويفعل هذه المعاصي مراعاةً لملكه وخوفًا من أن يقتله قومه، لكن في «مسند أحمد»: أنَّه كَتَبَ مِنْ تَبُوكَ إِلَى النَّبِيِّ صلعم: (إِنِّي مُسْلِمٌ)(29) . فَقَالَ النَّبِيُّ صلعم: ((كَذَبَ، بَلْ هُوَ عَلَى نَصْرَانِيَّتِهِ))، فعلى هذا إطلاق صاحب «الاستيعاب» أنَّه آمن، أي: أَظهَر التصديق، لكنه لم يستمر عليه ويعمل بمقتضاه، بل شَّح بمُلكه وآثر الفانية على الباقية، والله الموفق.
          قوله: (ثُمَّ دَعَا) أي: من وُكِلَ ذلك إليه، ولهذا عدَّى الكتاب بالباء.
          قوله: (دِحْيَةُ) هو ابنُ خَلِيفَةَ الْكَلْبِيُّ، صحابي جليل، كان بأحسن الناس وجهًا، وأسلم قديمًا، وبعثه النبي صلعم في آخر سنة ستٍّ بعد أن رجع من الحُدَيْبِية بكتابه إلى هرقل، وكان وصوله في المحرم سنة سبعٍ، قاله الوَاقِدِيُّ، ومات دِحْيَةُ في خلافة معاوية.
          و(بُصْرَى) بضم أوله والقصر: مدينة بين المدينة ودمشق، وقيل: هي حوران.
          وَعَظِيمُهَا: هُوَ الْحَارِثُ بْنُ أَبِي شِمْرٍ الْغَسَّانِيُّ، وفي «الصَّحَابَةِ» لِابْنِ السَّكَنِ: أنَّه أُرْسِلَ بِكِتَابِ النَّبِيِّ صلعم إِلَى هِرَقْلَ مَعَ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ وَكَانَ عَدِيٌّ إِذْ ذَاكَ نَصْرَانِيًّا فَوَصَلَ بِهِ هُوَ وَدِحْيَةُ مَعًا.
          قوله: (مِنْ مُحَمَّدٍ) فيه: السُّنَّةُ أن يبدأَ الكاتبُ بنفسه وهو قول الجمهور، بل حكى فيه النَّحَّاسُ إجماع الصحابة، والحق إثبات الخلاف.
          وفيه: أنَّ (مِنْ) التي لابتداء الغاية تأتي في غير الزمان والمكان، كذا قاله أبو حيان، والظاهر أنَّها هنا لم تَخْرُج عن ذلك لكن بارتكاب مجاز.
          قوله: (عَظِيمِ الرُّومِ) فيه عدول عن ذكره بالملك أو (30) الإمرة ؛ لأنَّه معزول بحكم الإسلام، لكنه لم يُحله من إكرام لمصلحة التألُّف.
          قوله: (سَلاَمٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الهُدَى) في رواية المصنف في الاستئذان: ((السَّلَامُ)) بالتعريف، وقد ذكرت في قصة موسى وهارون مع فرعون، وظاهر السياق أنَّها من جملة ما أُمِرا به أن يقولاه.
          فإن قيل: كيف يُبْدأ الكافر بالسلام؟
          فالجواب: أنَّ المفسرين قالوا: ليس المراد من هذا التحية، إنَّما معناه سَلِم من عذاب الله من أسلم ؛ ولهذا جاء بعده: {أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [طه:48] وكذا جاء في بقية هذا الكتاب: (فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الأَرِيسِيِّينَ) فمحصل الجواب: أنَّه لم يبدأ الكافر / بالسلام، وهذا وإن كان اللفظ يشعر به لكنه لم يدخل في المراد؛ لأنَّه ليس ممن اتبع الهدى، فلم يُسَلِّم عليه.
          قوله: (بِدِعَايَةِ الإِسْلاَمِ) هو بكسر الدال من قولك: دعا يدعو دِعاية، نحو: شكا يشكو شِكاية، ولمسلم: ((بِدِعَايَةِ الإِسْلَامِ)) أي: بالكلمة الداعية إلى الإسلام؛ وهي شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، والباء موضع إلى.
          فقوله: (أَسْلِمْ تَسْلَمْ) غاية في البلاغة، وفيه نوع من البديع وهو الجناس الاشتقاقي.
          قوله: (يُؤْتِكَ) جوابٌ ثانٍ للأمر، وفي الجهاد للمؤلف: ((أَسْلِمْ يُؤْتِكَ)) بتكرار (أَسْلِم)، فَيَحْتَمِلُ التأكيد، ويَحْتَمِل أن يكون الأمر الأول للدخول في الإسلام، والثاني للدوام عليه كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ} [النساء:136] الآية.
          وإعطاؤه الأجر مرتين لكونه كان مؤمنًا بنبيه ثم آمن بمحمد صلعم، وهو موافق لقوله تعالى: {أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ} [القصص:54] ، وسيأتي التصريح بذلك في موضعه في حديث الشَّعبي في كتاب العلم إن شاء الله تعالى.
          ويحتمل أن يكون تضعيف الأجر له من جهة إسلامه، ومن جهة أن إسلامه يكون سببًا لإسلام أتباعه.
          واستنبط منه شيخنا شيخ الإسلام أنَّ كلَّ من دَانَ بدين أهل الكتاب كان في حكمهم في الذبائح والمناكحة؛ لأن هرقل هو وقومه ليسوا من بني إسرائيل، وهم ممن دخل في النصرانية بعد التبديل، وقد قال له ولقومه: (يَا أَهْلَ الكِتَابِ) فدلَّ على أنَّ لهم حكم أهل الكتاب خلافًا لمن خص ذلك بالإسرائيليين، أو بمن علم أن سلفه ممن دخل في اليهودية أو النصرانية بعد التبديل، والله أعلم.
          قوله: (فَإِنْ تَوَلَّيْتَ) أي: أعرضت عن الإجابة إلى الدخول في الإسلام، وحقيقة التَّولي إنَّما هو بالوجه، ثم استُعمل مجازًا في الإعراض عن الشيء، وهو استعارة تبعية.
          قوله: (الأَرِيسِيِّينَ) هُوَ جَمْعُ أَرِيسِيٍّ، وَهُوَ مَنْسُوبٌ إِلَى أَرِيسَ بِوَزْنِ فَعِيلٍ، بفتح أوله مخففًا، وقد نُقلت همزته ياء كما جاءت به رواية الأَصِيْلِيِّ وأَبِي ذَرٍّ وغيرهما هنا، قال ابنُ سِيْدَهْ: الْأَرِيسُ: / الأكَّارُ، أي: الفلَّاح عند ثعلب، وَعِنْدَ كُرَاعٍ الْأَرِيسُ هو: الأمير، وقال الجوهري: هي لغة شامية، وأنكر ابن فارس أن تكون عربية، وقيل في تفسيره غير ذلك، لكن هذا هو الصحيح هنا، فقد جاء مصرَّحًا به في رواية ابن إِسْحَاقَ عَنِ الزُّهْرِيِّ بلفظ: ((فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الْأَكَّارِينَ)) زاد البَرْقاني في روايته: ((يَعْنِي الْحَرَّاثِينَ))، ويؤيده أيضًا ما في رواية المدائني من طريق مرسلة: ((فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الْفَلَّاحِينَ)).
          قَالَ الخَطَّابِيُّ: أراد أن عليه إثم الضعفاء والأتْبَاع إذ لم يسلموا تقليدًا له؛ لأنَّ الأصاغر أَتْبَاعُ الأكابر.
          قلتُ: وفي الكلام حذف دلَّ عليه المعنى، وهو: فإنَّ عليك مع (31) إثمك إثمَ الأريسيين؛ لأنَّه إذا كان عليه إثم الأتباع بسبب أنَّهم تبعوه على استمرار الكفر فلأن يكون عليه إثم نفسه أولى، وهذا يُعدُّ من مفهوم الموافقة.
          ولا يعارض هذا قوله تعالى: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164] لأن وزر الإثم لا يَتَحَمَّلُه غيرُه، ولكن الفاعل المتسبِّبَ والمتلبِّس للسيئات يتحمل من وجهين: جهة فعله، وجهة تسبُّبِه.
          وقد ورد تفسير الأريسيين بمعنى آخر، قال الليث بن سعد، عن يونس فيما رواه الطبراني في «الكبير» من طريقه: ((الْأَرِيسِيُّونَ: الْعَشَّارُونَ)) يَعْنِي أَهْلَ الْمَكْسِ، والأول أظهر، وهذا إن صحَّ أنَّه المُراد فالمعنى: المبالغة في الإثم، ففي الصحيح في المرأة التي اعترفت بالزِّنا: ((لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ تَابَهَا صَاحِبُ مَكْسٍ لَقُبِلَتْ)).
          قوله: (وَيَا أَهْلَ الْكِتَابِ...... إلى آخره) هكذا وقع بإثبات الواو في أوله، وذكر القاضي عياض أن الواو ساقطة من رواية الأَصِيْلِيِّ وأَبِي ذَرٍّ، وعلى ثبوتها فهي داخلة على مُقَدَّر معطوف على قوله: (أَدْعُوكَ) فالتقدير: أدعوك بدعاية الإسلام، وأقول لك ولأتباعك امتثالًا لقول الله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَاب...} [آل عمران:64] .
          فائدة:
          قيل: في هذا دليل على جواز قراءة الجُنُب للآية أو الآيتين، وبإرسال بعض القرآن إلى أرض العدو، وكذا بالسفر به، وأغرب ابن بطَّالٍ فادعى أنَّ ذلك / نُسِخَ بالنهي عن السفر بالقرآن إلى أرض العدو، ويحتاج إلى إثبات التاريخ بذلك.
          ويُحتمل أن يُقَالَ: إنَّ المراد بالقرآن في حديث النهي عن السفر به: المصحف، وسيأتي الكلام على ذلك في موضعه، وأمَّا الجنب فيُحتمل أن يقال: إذا لم يقصد التلاوة جاز.
          على أن في الاستدلال بذلك من هذه القصة نظرًا ؛ فإنَّهَا واقعةُ عَينٍ لا عموم فيها، فتُقَيِّدُ الجواز على ما إذا وقع احتياج إلى ذلك كالإبلاغ (32) والإنذار، كما في هذه القصة، وأمَّا الجواز مطلقًا حيث لا ضرورة فلا يتَّجه.
          وقد اشتملت هذه الجملة القليلة التي تضمنها هذا الكتاب على الأمر بقوله: (أَسْلِمْ)، والترغيب بقوله: (تَسْلَمْ)، و(يُؤْتِكَ)، والزَّجر بقوله: (فَإِنْ تَوَلَّيْتَ)، والترهيب بقوله: (فَإِنَّ عَلَيْكَ)، والدلالة بقوله: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ) وفي ذلك من الدلالة ما لا يخفى، وكيف لا وهو كلام من أُوتِي جوامع الكلام صلعم.
          قوله: (فَلَمَّا قَالَ مَا قَالَ) يُحتمل أن يُشير بذلك إلى الأسئلة والأجوبة، ويُحتمل أن يشير بذلك إلى القصة التي ذكرها ابن الناطور بعد، والضمائر كلها تعود على هرقل.
          و (الصَّخَبُ) اللَّغَطُ، وَهُوَ: اخْتِلَاطُ الْأَصْوَاتِ فِي الْمُخَاصَمَةِ، زاد في الجهاد: ((فَلَا أَدْرِي مَا قَالُوا)).
          قوله: (فَقُلْتُ لِأَصْحَابِي) حين خَلَوت بهم.
          قوله: (أَمِرَ) هو بفتح الهمزة وكسر الميم، أي: عَظُمَ، وسيأتي في تفسير سبحان.
          و(ابنِ أَبِي كَبْشَةَ) أراد به النبيَّ صلعم؛ لأنَّ أبا كبشة أحد أجداده، وعادة العرب إذا انتقصت نَسَبَت إلى جدٍ غامض.
          قال أبو الحسن النسَّابة الجُرجَانِي: هو جد وهب جدِّ النبي صلعم لأُمه وهذا فيه نظر؛ لأنَّ وهبًا جدّ النبي صلعم اسم أمه عاتكة بنت الأوقص بن مرة بن هلال، ولم يقل أحد من أهل النسب: أنَّ الأوقص يُكَنَّى أبا كبشة.
          وقيل: هو جد عبد المطلب لأمه، وفيه نظر أيضًا؛ لأنَّ أم عبد المطلب سلمى بنت عمرو بن زيد الخزرجي، ولم يقل أحد من أهل النَّسب: أنَّ عمرو بن زيد يُكنى أبا كبشة.
          وقيل: هو أبوه من الرضاعة، واسمه الحارث بن عبد العزَّى، قاله أبو الفتح الأزدي وابنُ ماكولا.
          وقال ابنُ قُتَيْبَةَ والخَطَّابِيُّ: هو رجل من خزاعة / خالف قريشًا في عبادة الأوثان فعبد الشِّعرى، فنسبوه إليه للاشتراك في مطلق المخالفة، وكذا قال الزبير، قال: واسمه وجز بن عامر بن غالب.
          قوله: (إِنَّهُ يَخَافُهُ) هو بكسر الهمزة استئنافًا تعليليًّا لا بفتحها؛ لثبوت اللام في الرواية الأخرى.
          قوله: (مَلِكُ بَنِي الأَصْفَرِ) هم الروم، يُقالُ: إن جدَّهم رومُ بنُ عيصَ تزوَّج بنتَ ملكِ الحبشة، فجاء لون ولده بين البياض والسواد، فقيل له: الأصفر، وقال ابن هشام في «التيجان»: إنَّما لُقب الأصفر؛ لأنَّ جدَّته سارة زوج إبراهيم الخليل حَلَّتْهُ بالذهب.
          قوله: (فَمَا زِلْتُ مُوقِنًا) زاد في حديث عبد الله بن شداد، عن أبي سفيان: ((فَمَا زِلْتُ مَرْعُوبًا مِنْ مُحَمَّدٍ حَتَّى أَسْلَمْتُ)) أخرجه الطبراني.
          قوله: (حَتَّى أَدْخَلَ اللهُ عَلَيَّ الْإِسْلَامَ) أي: فأظهرت ذلك اليقين، وليس المراد أنَّ ذلك اليقين ارتفع.
          قوله: (وكَانَ ابْنُ النَّاطُورِ) هو بالطاء المهملة، وفي رواية الحموي بالظاء المعجمة، وهو بالعربية: حارس البستان، ووقع في رواية الليث، عن يونس (33) : ((ابْنُ نَاطُورًا)) بزيادة ألف في آخره، فعلى هذا هو اسم عجميٌّ.
          تنبيه:
          الواو في قوله: (وَكَانَ) عاطفة، والتقدير: عَنِ الزُّهْرِيِّ: أخبرني عُبيد الله.. فذكر الحديث، ثم قال الزهري: وكان ابن الناطور يحدِّثُ، فذكر هذه القصة، فهي موصولة إلى ابن الناطور، لا معلَّقة كما زعم بعض من لا عناية (34) له بهذا الشأن، وكذلك أغرب بعض المغاربة فزعم أنَّ قصة ابن الناطور مروية بالإسناد المذكور عن أبي سفيان عنه، وكأنَّه لما رآها لا تصريح فيها بالسماع حملها على ذلك، وقد بيَّن أبو نُعيم في «دلائل النبوة» أنَّ الزهري قال: لقيته بدمشق في زمن عبد الملك بن مروان، وأظنُّه لم يتحمل عنه ذلك إلا بعد أن أسلم، وإنَّما وصفه بكونه سقفًّا (35) ؛ ليُنبِّه على أنَّه كان مُطَّلعًا على أسرارهم، عالمًا بحقائق أخبارهم.
          قوله: (صَاحِبُ إِيلِيَاءَ) أي: أميرها، وهو منصوب على الاختصاص أو الحال، أو مرفوع على الصفة، وهي رواية أَبِي ذَرٍّ، والإضافة التي فيه تقوم مقام التعريف، وقول مَن زعم أنَّها في تقدير الانفصال في مقام المنع.
          (وَهِرَقْلَ) معطوف على (إِيلْيَاءَ)، وأطلق عليه الصحبة له؛ إمَّا بمعنى التبع، وإمَّا بمعنى الصداقة، ومنه استعمال صاحب في معنيين مجازيٌّ وحقيقيٌّ؛ لأنَّه بالنسبة / إلى إيلياء أمير، وذلك مجاز، وبالنسبة إلى هرقل تابع، وذاك حقيقة.
          وقوله: (سُقُفًّا) (36) بضم السين (37) والقاف، كذا في رواية غير أَبِي ذَرٍّ، وهو منصوب على أنَّه خبر كان، و(يُحَدِّثُ) خبرٌ بعد خبرٍ، وفي رواية الكُشْمِيْهَنِيِّ: <سُقِّفَ>بكسر القاف على ما لم يُسمَّ فاعله، وفي رواية المُسْتَملي والسَّرخسي مثله لكن بزيادة ألف في أوله.
          وَالْأُسْقُفُّ وَالسُّقْفُ: قيل إنَّه لفظ أعجمي، ومعناه: رئيس دين النصارى، وقيل: عربي وهو الطويل في انحناء، وقيل ذلك للرئيس؛ لأنَّه يتخاشع، وقال بعضهم: لا نظير له في وزنه إلا الأسرب، وهو: الرصاص، لكن حكى ابن سيده ثالثًا: وهو الْأُسْكُفُّ لِلصَّانِعِ، وَلَا يَرِدُ الْأُتْرُجُّ لأنَّه جَمْعٌ وَالْكَلَامُ فِي الْمُفْرَدِ.
          قوله: (حِينَ قَدِمَ إِيلِيَاءَ) يعني: في هذه الأيام، وهي عند غلبة جنوده على جنود فارس وإخراجهم، وكان ذلك في السنة التي اعتمر فيها النبي صلعم عمرةَ الحُديبية، وبلغ المسلمين نصرة الروم على فارس ففرحوا، وقد ذكر الترمذيُّ وغيره القصةَ مستوفاةً في تفسير قوله تعالى:{وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ. بِنَصْرِ اللهِ} [الروم:4- 5] ، وفي أول الحديث في الجهاد عند المؤلف الإشارة إلى ذلك.
          قوله: (خَبِيْثَ (38) النَّفْسِ) أي: رديء النفس غير طيِّبِهَا، أي: مهمومًا، وقد تستعمل في كسل النفس، وفي الصحيح: ((لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ خَبُثَتْ نَفْسِي)) كَأنَّه كره اللفظ.
          والمراد بالخطاب: المسلمون، وأمَّا استعمال ذلك في حق هرقل فغير ممتنع، وصرح في رواية ابن إِسْحَاقَ بقولهم له: ((لَقَدْ أَصْبَحْتَ مَهْمُومًا)).
          و(الْبَطَارِقَةُ) جَمْعُ بِطْرِيقٍ، بكسر أوله: وَهُمْ خَوَاصُّ دَوْلَةِ الرُّومِ.
          قوله: (حَزَّاءً) بالمهملة وتشديد الزاي آخره همزة منونة، أي: كاهنًا، يقال: حزا بالتخفيف يحزو حزوًا أي: تكهَّنَ.
          وقوله: (يَنْظُرُ فِي النُّجُومِ) إن جعلتها خبرًا ثانيًا صح (39) ؛ لأنَّه كان ينظر في الأمرين، وإن جعلتها تفسيرًا للأول فالكهانة تارة تستند إلى إلقاء (40) الشياطين، وتارة تُستَفاد من أحكام النجوم، وكان كل من الأمرين في الجاهلية شائعًا ذائعًا إلى أن أظهر الله الإسلام، فانكسرت شوكتهم، وأبطل الشرع الاعتماد عليهم.
          وكان ما اطلع عليه هرقل من ذلك بمقتضى حساب / المنجِّمين: أنَّهم زعموا أن المولد النبوي كان بقران العِلْويين ببرج العقرب، وهما يقرنان في كل عشرين سنة مرة إلى أن تستوفي الثالثة بروجها في ستين (41) سنة، فكان ابتداء العشرين الأولى المولد النبوي في القران المذكور، وعند تمام العشرين الثانية مجيء جبريل بالوحي، وعند تمام الثالثة فتح خيبر وعمرة القضية التي جرَّت فتح مكة وظهور الإسلام، وفي تلك الأيام رأى هرقل ما رأى.
          ومن جملة ما ذكروه أيضًا أن برج العقرب مائي، وهو دليل مُلك القوم الذين يختتنون (42) ، فكان ذلك دليلًا على انتقال الْمُلك إلى العرب، وأمَّا اليهود فليسوا مرادًا هنا؛ لأنَّ هذا لمن سينتقل إليه الملك لا لمن انقضى ملكه.
          فإن قيل: كيف ساغ للبخاري إيراد هذا الخبر المشعر بتقوية أمر (43) المنجمين، والاعتماد على ما يدل عليه أحكامهم؟
          فالجواب: أنَّه لم يقصد ذلك، بل قصد أن يبين أنَّ البشارات بالنبي صلعم جاءت من كل طريق، وعلى لسان كل فريق من كاهن أو منجم أو مُبْطلٍ إنسي أو جني، وهذا غاية ما يشير إليه (44) عالم، أو يحتج به محتج.
          قوله: (مُلْكَ الْخِتَانِ) بضم الميم وإسكان اللام، ولِلْكُشْمِيهَنِيِّ بفتح الميم وكسر اللام.
          قوله: (قَدْ ظَهَرَ) أي: غلب، يعني: دَلَّه نظره على أن ملك الختان قد غلب، وهو كما قال؛ لأنَّ في تلك الأيام كان ابتداء ظهور النبي صلعم، إذ صَالَحَ كفار مكة بالحُدَيبية، وأنزل الله عليه: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا} [الفتح:1] إذ فتْحُ مكَّةَ سببه نقض قريش العهدَ الذي كان بينهم بالحديبيَّة، ومقدمةُ الظهورِ ظهورٌ.
          قوله: (مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ) أي: من أهل هذا العصر، وإطلاق الأمة على أهل العصر كلهم فيه تجوُّز (45) ، وهذا بخلاف قوله بعد هذا: (مُلْكُ هَذِهِ الْأُمَّةِ قَدْ ظَهَرَ) فإنَّ مراده به العرب خاصة، والحصر في قولهم: (إِلَّا الْيَهُودَ) هو بمقتضى علمهم؛ لأنَّ اليهود كانوا بإيلياء_وهي بيت المقدس_ كثيرين تحت الدولة مع الروم، بخلاف العرب فإنَّهم وإن كان منهم من هو تحت طاعة ملك الروم كآل غسَّان لكنهم كانوا ملوكًا برأسهم (46) .
          قوله: (فَلَا يُهِمَّنَّكَ) بضم أوله من أَهَمَّ: أثار الهمَّ.
          وقوله: / (شَأنَّهمْ) أي: أمرهم.
          و(وَمَدَائِن) جمع مدينة، قال أبو علي الفارسي: من جعله فعيلة من قولك: مدينة بالمكان، أي: أقام به همزة كقبائل، ومن جعله مَفعلة من قولك: دين، أي: ملك لم يهمزه كمعايش. انتهى.
          وما ذكره في معايش هو المشهور، وقد روى خارجة عن نافع القارئ الهمز في {مَعَايِشَ} [الأعراف:10] ، وقال القزاز: من همزَها توهَّمها من فعيلة لشبهها بها في اللفظ.
          قوله: (فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى أَمْرِهِمْ) أي: في هذه المشورة.
          قوله: (أُتِيَ بِرَجُلٍ) لَمْ يُسَمِّ مَنْ أَحْضَرَهُ.
          و(مَلِكُ غَسَّانَ) هو صاحب بُصرى الذي قدمنا ذكره، وأشرنا إلى أن ابن السَّكن روى أنَّه أرسل من عنده عَدِي بن حاتم، فيحتمل أن يكون هو المذكور، والله أعلم.
          قوله: (عَنْ خَبَرِ رَسُولِ اللهِ صلعم) فَسَّرَ ذلك ابنُ إِسْحَاقَ في روايته، فقال: ((خَرَجَ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِنَا رَجُلٌ يَزْعُمُ أنَّه نَبِيٌّ فَقَدِ اتَّبَعَهُ نَاسٌ وَخَالَفَهُ نَاسٌ، فَكَانَتْ بَيْنَهُمْ مَلَاحِمُ فِي مَوَاطِن فتركتهم وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ)) فبيَّن ما أجملَ في حديث الباب ؛ لأنَّه موهم أن ذلك كان في أوائل ما ظهر النبي صلعم.
          قوله: (هُمْ يَخْتَتِنُونَ) في رواية الأصلي: < مُخْتَتِنُونَ > بالميم، والأول أَفْيَد وأشمل.
          قوله: (هَذَا مُلْكُ هَذِهِ الْأُمَّةِ قَدْ ظَهَرَ) كذا لأكثر الرواة بالضم والسكون، والقابسي بالفتح ثم الكسر، ولأَبِي ذَرٍّ عن الكُشْمِيْهَنِيِّ وحده: <يَمْلِكُ> فعل مضارع، قال القاضي: أظنها ضمة الميم اتصلت بها فتصحفت، ووجهه السُّهَيْلِيُّ في «أماليه» بأنَّه مبتدأ وخبر، أي: هذا المذكور يملك هذه الأمة، وقيل: بجواز أن يكون (يَمْلِكُ) نعتًا، أي: هذا رجل يملك هذه الأمة، وقال شيخنا: يجوز أن يكون المحذوف هو الموصول (47) على رأي الكوفيين، أي: هذا الذي يملك، وهو نظير قوله: وهذا تحملين طليقُ.
          على أن الكوفيين يجوِّزون استعمال اسم الإشارة بمعنى الاسم الموصول، فيكون التقدير: الذي يملك، من غير حذف.
          قلتُ: لكن اتفاقُ الرواية على حذف الياء (48) في أوله دالُّ على ما قال القاضي فيكون شاذًا، على أنني رأيت (49) في أصل معتمد وعليه علامة السرخسي: بباء موحدة في أوله، وتوجيهها أقرب من توجيه الأول؛ / لأنَّه حينئذ يكون الإشارة بهذا إلى ما ذكره من نظيره في حكم النجوم، والباء متعلقة بــظهر، أي: هذا الحكم ظهر بملك هذه الأمة التي تختتن.
          قوله: (بِرُومِيَةَ) بالتخفيف: وهي مدينة معروفة للروم.
          و(حِمْصَ) مجرور بالفتحة، مَنَع صرفه العجمةُ والتأنيث، ويحتمل أن يجوز صرفه.
          قوله: (فَلَمْ يَرِمْ) أي: لم يبرح.
          (حَتَّى أَتَاهُ كِتَابٌ مِنْ صَاحِبِهِ) وفي رواية ابنِ إِسْحَاقَ: أَنَّ هِرَقْلَ أَرْسَلَ دِحْيَةَ إِلَى ضُغَاطِرَ الرُّومِيَّ، وقال: إنه في الروم أجوز (50) قولًا مني، وَإِنَّ ضُغَاطِرَ الْمَذْكُورَ أَظْهَرَ إِسْلَامَهُ وَأَلْقَى ثِيَابَهُ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِ وَلَبِسَ ثِيَابًا بِيضًا وَخَرَجَ عَلَى الرُّومِ فَدَعَاهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ وَشَهِدَ شَهَادَةَ الْحَقِّ فَقَامُوا إِلَيْهِ فَضَرَبُوهُ حَتَّى قَتَلُوهُ قَالَ: فَلَمَّا رَجَعَ دِحْيَةُ إِلَى هِرَقْلَ، قَالَ لَهُ: قَدْ قُلْتُ لَكَ إِنَّا نَخَافُهُمْ عَلَى أَنْفُسِنَا، فَضُغَاطِرُ كَانَ أَعْظَمَ عِنْدَهُمْ مِنِّي.
          قلتُ: فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هُوَ صَاحِبَ رُومِيَّةَ الَّذِي أُبْهِمَ هُنَا، لَكِنْ يُعَكِّرُ عَلَيْهِ مَا قِيلَ إِنَّ دِحْيَةَ لَمْ يَقدمْ عَلَى هِرَقْلَ بِهَذَا الْكِتَابِ الْمَكْتُوبِ فِي سَنَةِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَإنَّما قَدِمَ عَلَيْهِ بِالْكِتَابِ الْمَكْتُوبِ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، فعلى هذا يُحْتَملُ أنْ يكون وقعت لضُغَاطرَ قضيتان: أحدهما التي ذكرها ابن الناطور، وليس فيها أنَّه أسلم، ولا أنَّه قُتِلَ (51) ، والثانية التي ذكرها ابنُ إِسْحَاقَ فإن فيها قصته مع دحية وأنَّه أسلم فقبل (52) ، والله أعلم.
          قوله: (وَسَارَ هِرَقْلُ إِلَى حِمْصَ) لأنَّها كانت دار ملكه كما قدَّمناه، وكانت في زمانهم أعظم من دمشق، وكان فتحها على يد أبي عبيدة بن الجراح سنة ستَّ (53) عشرة بعد هذه القصة بعشر سنين.
          وقوله: (وَأنَّه نَبِيٌّ) يدل على أن هرقل وصاحبه أقرا بنبوة نبينا صلعم، لكن هرقل _كما ذكرنا_ لم يستمر على ذلك بخلاف صاحبه.
          قوله: (فَأَذِنَ) هو أي بالقصر من الإذن، وفي رواية المُسْتَملي وغيره بالمد، ومعناه: أعلم.
          و(الدَّسْكَرة) بسكون المهملة: القصر الذي حوله بيوت، وكَأنَّه دخل القصر ثم أغلقه وفتح أبواب البيوت التي (54) حوله، وأذن للروم في دخولها، ثم اطلع عليهم فخاطبهم، وإنَّما فعل ذلك خشية أن يَثِبوا به كما وَثَبوا بضُغَاطرَ.
          قوله: (والرَّشَدِ) بفتحتين.
          (وَأَنْ يَثْبُتَ (55) مُلْكُكُمْ) لأنَّهم إن تمادوا على الكفر كان سببًا لذهاب ملكه كما عرف هو ذلك / من الأخبار السابقة.
          قوله: (فَتُبَايِعُوا) بالموحدة والمثناة من تحت، ولِلْكُشْمِيهَنِيِّ بمثناتين ثم موحدة، وللأَصِيْلِيِّ: <فَنُبَايعَ> بنون وموحدة.
          (لِهَذَا النَّبِيِّ) كذا لأَبِي ذَرٍّ، والباقين بحذف اللام.
          قوله: (فَحَاصُوا) بمهملتين أي: نفروا، وشبههم بالحُمر دون غيرها من الوحوش؛ لمناسبة الجهل وعدم الفطنة، بل هم أضل.
          قوله: (وَأَيِسَ) (56) في رواية الكُشميهني والأَصِيْلِيِّ: (وَيَئِسَ) بياءين تحتانيتين وهما بمعنى، والأول معلوم من الثاني.
          قوله: (مِنَ الإِيمَانِ) أي: إيمانهم لما أظهروه، وإيمانه لأنَّه شحَّ بملكه كما قدمنا، وكان يحب أن يطيعوه فيستمر بملكه ويسلم ويسلموا بإسلامه، وإلا فقد كان قادرًا على أن يَفِرَ عنهم ويترك ملكه رغبة فيما عند الله، والله الموفق.
          قوله: (آنِفًا) أي قريبًا، وهو منصوب على الحال.
          قوله: (فَكَانَ ذَلِكَ آخِرَ شَأْنِ هِرَقْلَ) أي: فيما يتعلق بهذه القصة المتعلقة بدعائه إلى الإيمان خاصة؛ لأنَّه انقضى أمره حينئذ ومات، أو أنَّه أطلق الآخرية بالنسبة إلى ما في علمه، وهذا أوجه؛ لأنَّ هرقل قد وقعت له قصص أخرى بعد ذلك؛ منها ما أشرنا إليه من تجهيزه الجيوش إلى مؤتة ومن تجهيزه الجيوش أيضا إلى تبوك، ومُكَاتبةُ النبي صلعم له ثانيًا، وإرساله إلى النبي صلعم بذهب فقسمه بين أصحابه، وهو في رواية ابن حبان التي أشرنا إليها قبل.
          وفي «الْمُسْنَدِ» مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي رَاشِدٍ التَّنُوخِيِّ رَسُولِ هِرَقْلَ قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صلعم تَبُوكَ، فَبَعَثَ دِحْيَةَ إِلَى هِرَقْلَ فَلَمَّا جَاءَهُ الْكِتَابُ دَعَا قِسِّيسِي الرُّومِ وَبَطَارِقَتَهَا... فذكر الحديث، قال: فَتَحَيَّرُوا حَتَّى بَعْضُهم خَرَجَ مِنْ بُرْنُسِهِ، فقال: اسْكُتُوا، فَإنَّما أَرَدْتُ أَنْ أَعْلَمَ تَمَسُّكَكُمْ بِدِينِكُمْ.
          وروى ابنُ إِسْحَاقَ عن خالد بن يسار، عن رجل من قدماء أهل الشام: أن هرقل لما أراد الخروج من الشام إلى القسطنطينية عرض على الروم أُمورًا: إمَّا الإسلام، وإمَّا الجزية، وإمَّا أن يُصَالح النبي صلعم على الشام ويبقي لهم ما دون الدرب فأبوا، وأنَّه انطلق حتى إذا أشرف على الدرب استقبل أرض الشام، ثم قال: السلام عليكِ أرض سورية _يعني: الشام_ تَسلِيم الْمُوَدِع، ثم / ركض حتى دخل القسطنطينية.
          واختلف الأخباريون هل هو الذي حاربه المسلمون في زمن أبي بكر وعمر أو أبيه، والأظهر أنَّه هو.
          تنبيه:
          لما كان أمر هرقل في الإيمان عند كثير من الناس مُسْتَبْهَمًا؛ لأنَّه يُحْتَمَلُ أن يكون عدم تصريحه بالإيمان للخوف على نفسه، ويُحْتَمَلُ أن يكون استمر على الشك حتى مات كافرًا، وقال الراوي في آخر القصة: (فَكَانَ ذَلِكَ آخِرَ شَأْنِ هِرَقْلَ)، ختم البُخَارِيُّ هذا الباب الذي استفتحه (57) بحديث: ((الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ)) كَأنَّه قال: إن صدقت نيتُهُ انتفع بها في الجملة، وإلا فقد خاب وخسر، فظهرت مناسبة إيراد قصة ابن الناطور في بدء الوحي لمناسبتها حديث الأعمال المصدَّرِ الباب به، ويؤخذ للمصنف من آخر لفظ في القصة براعة الاختتام، وهو واضح مما قررناه.
          فإن قيل: ما (58) مناسبة حديث أبي سفيان في قصة هرقل ببدء الوحي؟
          والجواب: أنَّها تضمنت كيفية حال الناس مع النبي صلعم في ذلك الابتداء، ولأنَّ الآية المكتوب بها إلى هرقل ملتئمة مع الآية التي في الترجمة، وهي قوله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ} [النساء:163] الآية. وقال تعالى:{شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} [الشورى:13] الآية، فبانَ أنَّه أوحى إليهم كلهم أن أقيموا الدين، وهو معنى قوله تعالى: {سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [آل عمران:64] .
          خاتمة:
          أنبأني غير واحد عن القاضي نور الدين بن الصائغ الدمشقي، قال: حدثني سيف الدين فُليح المنصوري، قال: أرسلني الملك المنصور قلاون إلى ملك الغرب بهدية، فأرسلني ملك الغرب إلى ملك الفرنج في شفاعة فقَبِلها، وعرض عليَّ الإقامة عنده فامتنعت، فقال لي: لأُتْحِفَنَّكَ بِتُحْفَةٍ سَنِيَّةٍ، فأخرج لي صندوقًا مُصَفَّحًا (59) بذهب، فأخرج منه مقلمة ذهب، فأخرج منها كتابًا قد زالت أكثر حروفه، فقال: هذا كتاب نبيكم إلى جدي قيصر، ما زلنا نتوارثه إلى الآن، وأوصانا آباؤنا أنَّه مادام هذا الكتاب عندنا لا يزال الملك فينا، فنحن نحفظه غاية الحفظ ونعظمه، ونكتمه عن النصارى ليدوم لنا الملك. انتهى.
          ويؤيد هذا ما روي أن النبي صلعم لما جاءه جواب هرقل قال: (ثَبُتَ مُلْكُهُ). والله أعلم.
          قوله: (رَوَاهُ صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ وَيُونُسُ وَمَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ).
          قَالَ الكِرْمَانِيُّ: يَحتمل ذلك وجهين:
          أَنْ يَرْوِيَ الْبُخَارِيُّ عَنِ / الثَّلَاثَةِ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ، كَأنَّه قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْيَمَانِ، قال: أَخْبَرَنَا هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ عَنِ الزُّهْرِيِّ وَأَنْ يَرْوِيَ عَنْهُمْ بِطَرِيقٍ آخَرَ.
          كما أنَّ الزُّهْرِيَّ يحتمل أيضًا في رواية الثلاثة أن يروي لهم عن عبيد الله، عن ابن عباس، وأن يروي لهم عن غيره هنا ما يحتمل (60) اللفظ، وإن كان الظاهر الاتحاد.
          قلت: هذا الظاهر كاف (61) لمن شمَّ أدنى رائحة من علم الإسناد، والاحتمالات العقلية المجردة لا مَدْخَل لها في هذا الفن، وأمَّا الاحتمال الأول فأشد بُعدًا؛ لأنَّ أبا اليمان لم يلحق صالح بن كيسان، ولا سمع من يونس، وهذا أمر يتعلق بالنقل المحض، فلا يُلَتَفَت إلى ما عداه، ولو كان من أهل (62) النقل لاطلع على كيفية رواية الثلاثة لهذا الحديث بخصوصه فاستراح من هذا التردُّد.
          وقد أوضحتُ ذلك في كتابي: «تغليق التعليق» وأشير إليه هنا إشارة مفهمة: فرواية صالح _وهو ابن كيسان_ أخرجها المؤلف في كتاب الجهاد بتمامها من طريق إبراهيم بن سعد، عن صالح بن كيسان، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، وفيها من الفوائد الزوائد ما أشرت إليه في أثناء الكلام على هذا الحديث من قبل، ولكنه انتهى عند قول أبي سفيان: ((حَتَّى أَدْخَلَ اللهُ عَلَيَّ الْإِسْلَامَ)) زاد هنا: (وَأَنَا كَارِهٌ) (63) ولم يذكر قصة ابن الناطور، وكذا أخرجه مسلم بدونها من رواية إبراهيم المذكور.
          ورواية يونس _وهو ابن يزيد الأيلي_ عَنِ الزُّهْرِيِّ بهذا الإسناد أيضًا، أخرجها المؤلف في الجهاد مختصرة من طريق الليث، وفي الاستئذان مختصرة أيضًا من طريق ابن المبارك، كلاهما عن يونس، عَنِ الزُّهْرِيِّ بسنده بعينه، ولم يسُقْهُ بتمامه، وقد ساقه بتمامه الطبراني من طريق عبد الله بن صالح، عن الليث، وذكر فيه قصة ابن الناطور.
          و رواية معمر، عَنِ الزُّهْرِيِّ كذلك ساقها المؤلف بتمامها في التفسير، وقد أشرنا إلى بعض فوائد زوائد فيما مضى أيضًا، وذكر فيه من قصة ابن الناطور قطعة مختصرة عَنِ الزُّهْرِيِّ ولم يسمِّه.
          فقد ظهر لك أن الثلاثة عند المصنف عن غير (64) أبي اليمان، وأن الزهري إنَّما رواه لأصحابه بسند واحد عن شيخ واحد وهو عبيد الله بن عبد الله، ولو احتمل أن يرويه لهم أو لبعضهم / عن شيخ آخر لكان ذلك اختلافًا قد يُفْضِي (65) إلى الاضطراب الموجب للضعف، فلاح فساد ما ذكره من الاحتمال، والله سبحانه وتعالى الموفق والهادي إلى الصواب، لا إله إلا هو.


[1] في الأصل: ((فأمره)).
[2] في الأصل: ((في)).
[3] في الأصل: ((ويوليه عزه)).
[4] في الأصل: ((معرف)).
[5] قوله: ((وكذا)) ليس في الأصل.
[6] في الأصل: ((أقعد)).
[7] في الأصل: ((ابن أبي سفيان)).
[8] في الأصل: ((وعليه أنَّه أتعسر)).
[9] في الأصل: ((كنت)).
[10] في الأصل: ((ما تلحوه)).
[11] في الأصل: ((ابن)).
[12] في الأصل: ((أسباط)).
[13] في الأصل: ((يمكن)).
[14] في الأصل: ((معينًا)).
[15] في الأصل: ((وهو)).
[16] في الأصل: ((أن)).
[17] في الأصل: ((لقول)).
[18] في الأصل: ((أبي عبيدة)).
[19] في الأصل: ((يستفتحون)).
[20] في الأصل: ((ما له بالقوم)).
[21] في الأصل: ((تكبر)).
[22] في الأصل: ((وأبعد)).
[23] في الأصل: ((وهو شرح القلوب التي يدل فيها)).
[24] في الأصل: ((سلوه)).
[25] في الأصل: ((والحرية)).
[26] في الأصل: ((انتصاره)).
[27] قوله: ((سالمًا)) بياض في الأصل.
[28] في الأصل: ((صحيح)).
[29] قوله: ((إني مسلم)) ليس في الأصل.
[30] في الاصل: ((إذ)).
[31] قوله: ((مع)) ليس في الأصل.
[32] في الأصل: ((كالإيداع)).
[33] في الأصل: ((يوسف)).
[34] في الأصل: ((لاعتنابه)).
[35] في الأصل: ((سببًا)).
[36] في الأصل: ((شقفنا)).
[37] في الأصل: ((الشين)).
[38] في الأصل: ((جبيت)).
[39] قوله: ((صح)) ليس في الأصل.
[40] في الأصل: ((إلف)).
[41] في الأصل: ((سنتين)).
[42] في الأصل: ((يجتنبون)).
[43] قوله: ((أمر)) ليس في الأصل.
[44] قوله: ((يشير إليه)) ليس في الأصل.
[45] في الأصل: ((يجوز)).
[46] في الأصل: ((برأسه)).
[47] في الأصل: ((بالمحذوف والموصول)).
[48] في الأصل: ((التاء)).
[49] في الأصل: ((وليت)).
[50] في الأصل: ((أحرز)).
[51] في الأصل: ((قبل)).
[52] هكذا في الأصل: ((فقبل)) وفي فتح الباري: ((وقتل)).
[53] في الأصل: ((ستة))..
[54] في الأصل: ((الذي)).
[55] في الأصل: ((شئت)).
[56] في الأصل: ((وليس)).
[57] ح (1).
[58] في الأصل: ((فأما)).
[59] في الأصل: ((مصحفًا)).
[60] في الأصل: ((يحمل)).
[61] في الأصل: ((كان)).
[62] قوله: ((أهل)) ليس في الأصل.
[63] في الأصل: ((وأما كان)).
[64] قوله: ((غير)) ليس في الأصل.
[65] في الأصل: ((يقتضي)).