النكت على صحيح البخاري

حديث: أول ما بدئ به رسول الله من الوحي الرؤيا الصالحة

          3- قوله: (حَدَّثَنَا يحيى بن بُكَيْرٍ) هو يحيى بن عبد الله بن بُكَيْرٍ، نسب إلى جده لشهرته بذلك، وهو من كبار حفاظ المصريين، وأثبت الناس في الليث بن سعد الفَهْمي فقيه المصريين.
          و(عُقَيْلٍ) بالضم على التصغير، وهو من أثبت الرواة عن ابن شهاب، وهو أبو بكر محمدُ بنُ مسلمِ بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب بن عبد الله بن الحارث بن زهرةَ الفقيهُ، نُسب إلى جد جدِّه لشهرته.
          (الزُّهْرِيِّ) نسب إلى جده الأعلى زهرة بن كلاب، وهو من رهط آمنة أمِّ النبي صلعم، اتفقوا على إمَامته وإتقانه.
          قوله / (مِنَ الوَحْيِ) يُحْتَمَلْ أنْ تكون تبعيضية، أي: من أقسام الوحي، ويُحْتَمَل أن تكون بيانية، ورجحه القزَّاز.
          و(الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ) وقع في رواية مَعْمَر ويونس عند المصنف: ((الصَّادِقَةُ))، وهي التي ليس فيها ضِغْث، وبدئ بذلك ليكون تمهيدًا وتوطئةً لليقظة، ثم مَهَّدَ له في اليقظة أيضًا رؤية الضوء، وسماع الصوت، وسلام الحَجَر.
          قوله: (فِي النَّوْمِ) لزيادة الإيضاح، أو ليخرج رؤيا العين في اليقظة لجواز إطلاقها مجازًا.
          قوله: (مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ) نصب مثل على الحال؛ أي: شبيهة (1) ضياء الصبح.
          قوله: (حُبِّبَ) لم يسم فاعله لعدم تحقق الباعث على ذلك، وإن كان كلٌّ من عند الله أو لتنبيهٍ على أنَّه لم يكن من باعث البشر، أو يكون ذلك من وحي الإلهام.
          و(الخَلاَءُ) بالمد: الْخَلْوَةُ، والسرّ فيه: أنَّ في الْخَلْوَةِ فراغ القلب لما يتوجه له.
          و(حِرَاءٍ) بالمد وكسر أوله، كذا في الرواية وهو صحيح، وفي رواية الأَصِيْلِيِّ بالفتح والقصر، وقد حكي أيضًا، وحكي فيه غير ذلك جوازًا لا رواية، وهو: جبل معروف بمكة.
          و(الغَارُ) نَقْبٌ في الجبل، وجمعه غِيرَان.
          قوله: (فَيَتَحَنَّثُ) هي بمعنى: يَتَحَنَّفُ؛ أي: يتبع الحنيفية، وهي دين إبراهيم، والفاء تبدل ثاء في كثير من كلامهم، وقد وقع في رواية ابن هشام في «السيرة»: ((يَتَحَنَّفُ)) بالفاء، والتحنث: إلقاء الحنث، وهو الإثم، كما قيل: يتأثم ويَتَحَرَّج ونحوهما.
          قوله: (وَهُوَ التَّعَبُّدُ) هذا مُدْرَجٌ في الخبر، وهو من تفسير الزهري كما جزم به الطِّيْبِيُّ، ولم يذكر دليله، نعم في رواية المؤلف من طريق يونس عنه في التفسير ما يدل على الإدراج.
          قوله: (اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ العَدَدِ) مُتَعَلِق بِقَوْلِهِ: (يَتَحَنَّثُ)، وإبهام العدد لاختلافه، وهو بالنسبة إلى المُدَد التي يتخللها مجيئه إلى أهله، وإلا فأصل الْخَلْوَةِ قد عرفت مُدَّتها وهي شهر، وذلك الشهر كان رمضان، رواه ابن إِسْحَاقَ كما بَيَنْتُهُ في «الشرح الكبير».
          و(اللَّيَالِيَ) منصوبة على الظرف.
          و(ذَوَاتِ) منصوبة أيضًا، وعلامة النصب فيها كسر التاء.
          و(يَنْزِعَ) بكسر الزاي؛ أي: يرجع وزنًا ومعنى، ورواه الْمُؤَلِّفُ بلفظه / في التفسير.
          قوله: (لِمِثْلِهَا) أي: الليالي.
          و(التَّزَوُّدُ) استصحاب الزَّاد، ويتزود معطوف على (يَتَحَنَّثُ).
          و(خَدِيجَةَ) هي أم المؤمنين بنت خويلد بن أسد بن عبد العُزى بن قصي، يأتي أخبارها في مناقبها.
          قوله: (حَتَّى جَاءَهُ الحَقُّ) أي: الأمر، وفي التفسير: ((حَتَّى فَجِئَهُ الحَقُّ)) بكسر الجيم، أي: يعقبه.
          قوله: (فَجَاءَهُ) هذه الفاء تسمى التفسيرية وليست التعقيبية؛ لأنَّ مجيء الْمَلَك ليس بعد مجيء الوحي حتى تعَقَّب به، بل هو تفسير، ولا يلزم من هذا أن يكون من باب تفسير الشيء بنفسه، بل التفسير عين الْمُفَسَّرِ به من جهة الإجمال، وغيره من جهة التفصيل.
          قوله: (مَا أَنَا) (مَا) نافية، إذ لو كانت استفهامية لم يصلح دخول الباء عليها، وإن حُكِيَ عن الأخفش جوازه فهو شاذ، والباء زائدة لتأكيد النفي، أي: ما أحسن القراءة، فلما قال ذلك ثلاثًا، قيل له: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق:1] ، أي: لا تقرؤه بقوتك ولا بمعرفتك، لكن بحول ربك وإعانته، فهو معلمك كما خلقك، وكما نزعَ عنك علق الدم ومَغْمَزَ الشيطان في الصغر، وعلَّم أُمَّتك حتى صارت تكتب بالقلم بعد أن كانت أميَّة.
          فإن قيل: فلم كرر ذلك؟
          أجاب أبو شامة: بأنَّه يحتمل أن يكون قوله أولًا: (مَا أَنَا بِقَارِئٍ) على الامتناع، وثانيًا: على الإخبار بالنفي المحض، وثالثًا: على الاستفهام، ويؤيده أنَّ في رواية أبي الأسود في «مغازيه» عن عروة أنَّه قال: ((كَيْفَ أَقْرَأُ؟)).
          قوله: (فَغَطَّنِي) بِغَيْنٍ مُعْجَمَةٍ وَطَاءٍ مُهْمَلَةٍ، وفي روايةِ الطَّبَرِيِّ: بتاء مثناة من فوق، كأنَّه أراد: ضمَّني وعصَرني، والغَطُّ: حبس النفس، ومنه: غَطَّه في الماء، أو: أراد غمَّني، ومنه: الخنق، ولأبي داوود الطيالسي في «مُسْنَدِهِ» بسند حسن: ((فَأَخَذَ بِحَلْقِي)).
          قوله: (حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ) روي بالفتح والنصب، أي: بلغ الغَطُّ مني غايةَ وُسْعِي، ورُوِيَ بالضم والرفع، أي: بَلَغَ مِنِّي الْجُهْدُ مَبْلَغَهُ.
          وقوله: (أَرْسَلَنِي) أي: أطلقني، ولم يذكر الغَطَّ هنا في المرة الثالثة، وهو ثابت عند المؤلف في التفسير.
          قوله: (فَرَجَعَ بِهَا) أي: بالآيات أو بالقصة.
          قوله: (فَزَمَّلُوهُ) أي: لَفُّوه. و(الرَّوْعُ) بالفتح الفزع.
          قوله: (لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي) دلَّ هذا مع قوله: (يَرْجُفُ / فُؤَادُهُ) عَلَى انْفِعَالٍ حَصَلَ لَهُ مِنْ مَجِيءِ الْمَلَكِ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ: (زَمِّلُونِي).
          وَالْخَشْيَةُ الْمَذْكُورَةُ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بِهَا عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ قَوْلًا:
          أولها: الجنونُ، وأن يكون ما رآه من جِنْسِ الكهانة، جاء مصرحًا به في عدة طرق أَوْضَحْتُها في «الشرح الكبير»، وأبطله أبو بكر بن العربي وحق له أن يبطل.
          ثانيها: الهاجِسُ، وهو باطل أيضًا؛ لأنَّه لا يستقر، وهذا استقر وحصلت بينهما المراجعة.
          ثالثها: الموت من شدة الرُّعب.
          رابعها: الوحي.
          خامسها: دوام الوحي.
          سادسها: العجز عن حمل أعباء النبوة.
          سابعها: العجز عن النظر إلى الْمَلَك من الرُّعب.
          ثامنها: عدم الصبر على أذى قومه.
          تاسعها: أن يقتلوه (2) .
          عاشرها: مفارقة الوطن.
          حادي عشرها: تكذيبهم إياه.
          ثاني عشرها: تعييرهم إياه.
          وأولى هذه الأقوال بالصواب، وأسكنها من الارتياب: الثالث واللذان بعده، وما عداها فهو مُعْتَرَضٌ، والله الموفق.
          قوله: (فَقَالَتْ) لَهُ (خَدِيجَةُ: كَلَّا) معناها: النفي والإبعاد.
          و(يَحْزُنْكَ) بفتح أوله والحاء المهملة والزاي المضمومة والنون؛ من الحزن، ولغير أَبِي ذَرٍّ: بضم أوله والخاء المعجمة والزاي المكسورة ثم الياء الساكنة؛ من الخزي، ثم استدلَّتْ على ما أَقسمَتْ (3) عليه من نفي ذلك أبدًا بأمر استقراري، ووصفته بأصول مكارم الأخلاق؛ لأنَّ الإحسان إمَّا إلى الأقارب أو إلى الأجانب، وإمَّا بالبدن أو بالمال، وإمَّا على من يَسْتَقِلُّ بأمره أو من لَمَّا يستقلَّ، وذلك كله مجموع فيما وصفتْهُ به (4) .
          و(الكَّلَّ) بفتح الكاف: هو من لا يستقلُّ بأمره، كما قال تعالى: {وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ} [النحل:76] .
          وقولها: (وَتَكْسِبُ المَعْدُومَ) في رواية الكُشْمِيْهَنِيِّ: <ويُكسِبُ > بضم أوله، وعليها قَالَ الخَطَّابِيُّ: الصواب: المُعْدَمُ بلا واو ؛ أي: الفقر؛ لأنَّ المعدوم لا يكسب.
          قلتُ: ولا يمتنع أن يطلق على الْمُعْدَم (5) المعدوم؛ لكونه كالمعدوم الميت الذي لا يصرف له، والكسب: هو الاستفادة، فكأنَّها قالت: إذا رغب غيرك أن يستفيد مالًا موجودًا رغبت أنت أن تستفيد رجلًا عاجزًا فتعاونه.
          وقال قاسِمُ بنُ ثَابِتٍ فِي «الدلائل»: قوله: (يَكْسِبُ الْمَعْدُومَ) ومعناه: ما يقدمه / غيره ويعجز عنه يصيبه (6) هو ويكسبه، قال أعرابي: كان أكسبهم لمعدوم، وأعطاهم لمحروم، وأنشد في وصف ذئبٍ:
كسوب المعدوم من كَسْبِ واحد
          أي: مما يكسبه وحده. انتهى.
          ولغير الكُشْمِيْهَنِيِّ : <ويَكسِبُ> بفتح أوله، قال القاضي عياض: وهذه الرواية أصح.
          قلتُ: قَدْ وَجَّهْنَا الْأُولَى وَهَذِهِ الرَّاجِحَةُ، ومعناها: يعطي الناس ما لا يجدونه عند غيرك، فحذف أحد المفعولين، يقال: كَسَبْتَ الرَّجُلَ مَالًا وَأَكْسَبْتَهُ بِمَعْنًى، وقيل: معناه يكسبُ المالَ المعدومَ ويصيبُ منه ما لا يصيب غيرك، وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَتَمَادَحُ بِكَسْبِ الْمَالِ لَا سِيَّمَا قريشًا، وكان النبي صلعم قبل البعثة محظوظًا في التجارة، وقصته في ذلك مع خديجةَ مشهورة.
          وإنَّما يصح هذا المعنى هناك إذا ضم إليه ما يليق به من أنَّه كان مع إفادته للمال يجود به في الوجوه التي ذكرت من الْمَكْرُمَات.
          وقولها: (وَيُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ) هي كلمة جامعة لإيراد ما تقدم ولما لم يتقدم.
          وفي رواية المصنف في التفسير من طريق يونس، عَنِ الزُّهْرِيِّ من الزيادة: ((وَتَصْدُقُ (7) في الحديثِ))، وهي من أشرف الخصال.
          وفي رواية هشام بن عروة، عن أبيه في هذه القصة: ((ويُؤَدِّي الْأمَانَةَ)).
          وفي هذه القصة من الفوائد (8) : استحبابُ تَأْنِيْسِ من نزل به أمر بذكر تيسيره عليه وتهوينه لديه، وأمَّا من نزل به أمر اسْتُحِبَّ له أن يُطلِع عليه من يثق بصحبته وصحةِ (9) رأيه.
          قوله: (فَانْطَلَقَتْ بِهِ) أي: مضيت (10) معه، فالباء للمصاحبة.
          و(وَرَقَةَ) بفتح الراء.
          قوله: (ابْنَ عَمِّ (11) خَدِيْجَةَ) هو بنصب الباء وتكتب بألف، وهو بدل من ورقة، أو صفة، أو بيان، ولا يجوز جره فإنَّه يصير صفة لعبد العُزَّى وليس كذلك، ولا كتبه بغير ألف لأنَّه لم يقع عليه بين علمين.
          قوله: (تَنَصَّرَ (12) ) أي: صار نصرانيًّا، وكان قد خرج هو وزيد بن عمرو بن نُفَيْل لَمَّا كَرِهَا عبادة الأوثان إلى الشام وغيرها يسألون عن الدِّين، فأمَّا ورقة فأعجبه دينُ النَّصْرَانِيَّةِ فَتَنَصَّرَ، وكان لقي من الرهبان على دين عيسى ولم يبدِّل، ولهذا أَخْبر بشأن النبي صلعم / والبشارة به، إلى غير ذلك مما أفسده أهل التبديل.
          وأمَّا زيد بن عمرو فسيأتي خَبَرُهُ في المناقب إن شاء الله تعالى.
          قوله: (فَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعِبْرَانِيَّ وَيَكْتُبُ مِنَ الْإِنْجِيلِ بِالْعِبْرَانِيَّةِ).
          وفي رواية يونس (13) ومَعْمَر: <وَيَكْتُبُ مِنَ الْإِنْجِيلِ بِالْعَرَبِيَّةِ>.
          ولِمُسلِمٍ: ((وكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعَرَبِيَّ)) والجميع صحيح؛ لأنَّ ورقة يعلم اللسان العبراني والكتابة العبرانية، فَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعِبْرَانِيَّ (14) كما كان يكتب الكتاب العربي، لتمكُّنِه من الكتابتين واللسانين، ووقع لبعض الشرَّاح هنا خبط فلا يعرج عليه، وإنَّما وصفته بكتابة الإنجيل دون حفظه؛ لأنَّ حفظ التوراة والإنجيل لم يكن منتشرًا كنشر حفظ القرآن الذي خُصَّتْ به هذه الأمة، فلهذا جاء في صفتها: أَنَاجِيْلُهَا صُدُوْرُهَا.
          قوله: (يَا ابْنَ عَمِّ) هَذَا النِّدَاءُ عَلَى حَقِيقَتِهِ، ووقع في مسلم: ((يَا عَمُّ)) وهو وهمٌ؛ لِأنَّه وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا لِجَوَازِ إِرَادَةِ التَّوْقِيرِ لَكِنَّ الْقِصَّةَ لَمْ تَتَعَدَّدْ وَمَخْرَجُهَا مُتَّحِدٌ فَلَا يُحْمَلُ عَلَى أنَّها قَالَتْ ذَلِكَ مَرَّتَيْنِ، فَتَعَيَّنَ الْحَمْلُ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وإنَّما جَوَّزَنَا ذَلِكَ فِيمَا مَضَى فِي الْعِبْرَانِيِّ وَالْعَرَبِيِّ؛ لِأنَّه مِنْ كَلَامِ الرَّاوِي فِي وَصْفِ وَرَقَةَ وَاخْتَلَفَتِ الْمَخَارِجُ فَأَمْكَنَ التَّعْدَادُ، وَهَذَا الْحُكْمُ يَطَّرِدُ فِي جَمِيعِ مَا يُشْبِهُهُ.
          وَقَالَتْ فِي حَقِّ النَّبِيِّ صلعم: (اسْمَعْ مِنَ ابْنِ أَخِيْكَ) لِأَنَّ وَالِدَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَوَرَقَةُ فِي عِدَدِ النَّسَبِ إِلَى قُصَيِّ بْنِ كِلَابٍ الَّذِي يَجْتَمِعَانِ فِيهِ سَوَاءً، فَكَانَ مِنْ هَذِهِ الحقيقةِ في درجةِ إِخْوَتِهِ، أو قالتْهُ على سبيل التوفيق له عليه (15) .
          وفيه إِرْشَادٌ إِلَى أَنَّ صَاحِبَ الْحَاجَةِ يُقَدَّمُ بَيْنَ يَدَيْهِ مَنْ يُعْرِّف بِقَدْرِهِ مَنْ يَكُونُ أَقْرَبَ مِنْهُ إِلَى الْمَسْؤولِ، وذلك مستفادٌ من قول خديجةَ لورقةَ: (اسْمَعْ مِنَ ابْنِ أَخِيكَ) أرادت بذلك: أنْ يَتَأَهَّبَ لسماع كلام النبي صلعم، وذلك أبلغ في التعظيم.
          قوله: (مَاذَا تَرَى؟) فيه حذف يدلُّ عليه سياق الكلام، وقد صرَّح به في «دلائل النبوة» لأبي نُعَيْمٍ بسندٍ حسن إلى عبد الله بن شَدَّاد في هذه القصة قال: ((فَأَتَت بِهِ ورقةَ ابنَ عَمِّهَا فَأَخْبَرَتْهُ بِالَّذِي رَأَى)).
          قوله: (هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي نَزَّلَ اللهُ عَلَى مُوسَى).
          ولِلْكُشْمِيهَنِيِّ : <أَنْزَلَ الله>، وفي التفسير: ((أُنْزِلَ)) على البناء للمفعول، وأشار بقوله هذا إلى المَلَك الذي ذكره النبي صلعم / في خبره، ونزَّله منزلة القريب لقرب ذكره.
          و(النَّامُوسُ) صاحب السر كما جزم به المؤلف في أحاديث الأنبياء، وزعم ابن ظفر وغيره أنَّ النَّاموس صاحب الخير، والجاسوس صاحب سر الشر، والأول الصحيح الذي عليه الجمهور، وقد سَوَّى بينهما رُؤْبَةُ بْنُ الْعَجَّاجِ أحد فصحاء العرب، والمراد بالنَّاموس هنا: جبريل ◙.
          وقوله: (عَلَى مُوْسَى) ولم يقل: على عيسى مع كونه نصرانيًّا؛ لأنَّ كتاب موسى مشتمل على أكثر الأحكام بخلاف عيسى، وكذلك النبي صلعم، أو لأنَّ موسى بُعِثَ بالنقمة على فرعون ومن معه بخلاف عيسى، وكذلك وقعت النقمة على يد النبي صلعم بفرعون هذه الأمة وهو أبو جهل بن هشام ومن معه ببدر، أو قاله تحقيقًا للرسالة؛ لأنَّ نزول جبريل على موسى متفق عليه بين أهل الكتابين بخلاف عيسى فإن كثيرًا من اليهود يُنكرون نبوته.
          وأمَّا ما تحمل له السُّهَيْلِيُّ من أنَّ ورقة كان على اعتقاد النصارى في عدم نبوة عيسى ودعواهم أنَّه أحد الأقَانِيم فهو محال لا يُعرَّج عليه في حقِّ وَرَقةَ وأشباهه ممن لم يدخل في التبديل ولم يأخذ عمَّنْ بدَّل، على أنَّه قد ورد عند الزُّبَيْرِ بنِ بَكَّارٍ من طريق عبد الله بن معاذ، عَنِ الزُّهْرِيِّ في هذه القصة أنَّ وَرَقَةَ قال: ((نَامُوسُ عِيْسَى))، والأصحُّ ما تقدَّمَ، وعبد الله بن معاذ ضعيف، نعم في «دلائل النبوة» لأبي نُعَيْمٍ بإسناد حسن إلى هِشَامِ بنِ عُرْوةَ عن أبيه في هذه القصة: أن خديجة أولًا أتت ابن عمها ورقة فأخبرته، فقال: لئن كنت صدقتني إنه ليأتيه (16) ناموس عيسى الذي لا يُعَلِّمه بنو إسرائيل أبناءهم، فعلى هذا فكان وَرَقَةُ يقول تارةً: ناموس عيسى، وتارةً: ناموس موسى، فعند إخبار خديجة له بالقصة قال لها: ناموس عيسى، بحسب ما هو فيه من النَّصرانية، وعند إخبار النبي صلعم له قال له: ناموس موسى للمناسبة التي قدمناها، وكلٌ صحيح، والله سبحانه وتعالى أعلم.
          قوله: (يَا لَيْتَنِي فِيْهَا جَذَعٌ) كذا رواية الأَصِيْلِيِّ، وعند الباقين: <يَا لَيْتَنِي فِيْهَا جَذَعًا> بالنَّصب على أنَّه خبر كان المُقدَّرة؛ قاله الخَطَّابِيُّ، وهو مذهب الكوفيين في قوله تعالى: / {انتَهُواْ خَيْرًا لَّكُمْ} [النساء:171] .
          وقالَ ابْنُ بريٍّ: التقدير هنا: يا ليتني جُعِلْتُ فيها جذعًا، وقيل: النصب على الحال إذا جعلت (فيها) خبر ليت، والعامل في الحال ما يتعلق به الخبر من معنى الاستقرار؛ قاله السُّهَيْلِيُّ، فضمير (فيها) معود على أيام الدعوة.
          و(الجَذَعُ) بفتح الجيم والذال المعجمة: هو الصغير من البهائم، كأنَّه تَمَنَّى أن يكون عند ظهور الدعاء إلى الإسلام شابًا ليكون أمكن لنصره، ولهذا تَبَيَّنَ سِرُّ وصفه بكونه (17) كان كبيرًا أعمى.
          قوله:(إِذْ يُخْرِجُكَ) قال ابن مالك: فيه استعمال (18) (إذ) في المستقبل كـ إذا، وهو صحيح؛ وغفل عنه أكثر النُّحَاة، وهو كقوله تعالى: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ} [مريم:39] هكذا ذكره ابن مالك، وأَقَرَّهُ عليه غيرُ واحد.
          وتَعَقَّبَه شيخنا شيخ الإسلام بأنَّ النُّحَاة لم يغفلوه بل منعوا وروده، وأوَّلوا ما ظاهره ذلك، وقالوا في مثل هذا: استعمل الصيغة الدَّالة على المعنى لتحقُّق وقوعه فأنزلوه منزلته، ويقوي ذلك هنا أنَّ في رواية البُخَارِيِّ في التعبير: ((حِيْنَ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ))، وعند التحقيق: ما ادعاه ابن مالك فيه ارتكاب مجاز، وما ذكره غيره فيه ارتكاب مجاز، ومجازهم أولى لِمَا ينبني عليه من أن إيقاع (19) المستقبل في صورة المضي (20) تحقيقًا لوقوعه أو استحضارًا للصورة الآتية في هذه دون تلك.
          وفيه دليل على جواز تمنِّي المستحيل إذا كان في فعل خير؛ لأنَّ وَرَقَةَ تَمَنَّى أنْ يعودَ شابًا وهو مستحيل عادة، ويظهر لي أنَّ التمني ليس مقصودًا على بابه، بل المراد من هذا: التنبيه على صحة ما أخبره به، والتنويه بقوة تصديقه فيما يجيء به.
          قوله: (أَوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ) بفتح الواو وتشديد الياء وفتحها، جمع: مُخرِج، فـــ (هُمْ) مبتدأ مؤخر، و(مُخْرِجِيَّ) خبر مقدَّم؛ قاله ابن مالك، واستبعد النبي صلعم أن يخرجوه؛ لأنَّه لم يكن فيه سبب يقتضي الإخراج؛ لما اشتمل عليه منْ مكارم الأخلاق الذي تقدَّم من خديجة وصفتها، وقد استدلَّ ابنُ الدَّغِنَةَ بمثل تلك الأوصاف على أنَّ أبا بكر لا يُخرج.
          قوله: (إِلَّا عُودِيَ) وفي رواية يونس في التفسير: ((إِلَّا أُوذِيَ))، فذكر ورقة أنَّ العلةَّ في ذلك مجيئه لهم بالانتقال عن / مألوفهم، ولأنَّه علم من الكتب أنَّهم لا يجيبونه إلى ذلك؛ وأنَّه يلزمه لذلك مناوأتهم ومنابذتهم، فتنشأ العداوة من ثَمَّ.
          وفيه دليل على أن المجيب يقيم الدليل على ما يجيب به إذا اقتضاه المقام.
          قوله: (وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ) (إنْ) شرطية، والذي بعدها مجزوم، زاد في رواية يونس في التفسير: ((حيًّا))، ولأبي إِسْحَاقَ: ((إِنْ أَدْرَكْتُ ذَلِكَ الْيَوْمَ)) يعني: يوم الإخراج.
          قوله: (مُؤَزَّرًا) بالهمزة (21) ؛ أي: قويًّا، مأخوذ من الأَزْرِ وهو القوة، وأنكر القزَّاز أن يكون في اللغة مؤزر من الأزر، وقال ابن شامة: يحتمل أن يكون من الإزار، أشار بذلك إلى تشميره في نصرته.
          قال الأخطل:
          قوم إذا حاربوا شدوا مآزرهم … البيت
          قوله: (ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ) بفتح الشين المعجمة؛ أي: لم يلبث (22) ، وأصل النشوب: التعلُّق، أي: لم يتعلق بشيء من الأمور حتى مات، وهذا بخلاف ما في «السيرة» لابن إِسْحَاقَ: أنَّ وَرَقَةَ كان يمرُّ ببلال وهو يُعَذَّب، وذلك يقتضي أنَّه تأخر إلى زمن الدعوة، وإلى أن دخل بعض الناس في الإسلام، فإن تمسكنا بالترجيح فما في الصحيح أصح، وإن لحظنا الجمع أمكن أن يقال: الواو في قوله: (وَفَتَرَ الوَحْيُ) ليست للترتيب، فلعلَّ الراوي لم يحفظ لورقة ذكرًا بعد ذلك في أمر من الأمور، فجعل هذه القصة انتهاء أمره بالنسبة إلى عِلْمه لا إلى ما هو الواقع، وفتور الوحي عبارة عن تَأَخُّرِه مدَّةً من الزمن، وكان ذلك ليذهب ما كان صلعم وَجَدَهُ من الرَّوع، وليحصل له التشوُّفُ (23) إلى العود، فقد روى المؤلف في التعبير من طريق مَعْمَر ما يدل على ذلك.
          فائدة:
          وقع في «تاريخ أحمد بن حنبل» عَنِ الشَّعْبِيِّ: أنَّ مدَّة فترة الوحي كانت ثلاثة سنين، و به جزم ابن إِسْحَاقَ، وحكى البيهقي أنَّ مدَّة الرؤيا كانت ستة أشهر، وعلى هذا فابتداء النبوة بالرؤيا وقع من شهر مولده وهو ربيع الأول، وابتداءُ وحي اليقظة وقع في بدء رمضان، وليس المراد بفترة الوحي المقدرة بثلاث سنين، وهي ما بين نزول {اقْرَأْ} [العلق:1] ، و{يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر:1] عدم مجيء جبريل إليه، بل تأخر نزول القرآن فقط.
          4- قوله: (قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَأَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ).
          إنَّما أتى بحرف العطف ليعلم أنَّه معطوف على ما سبق، فكَأنَّه قال: / أخبرني عروة بكذا، وأخبرني أبو سلمة بكذا، وأبو سَلَمَةَ هو ابن عبد الرحمن بن عوف، وأخطأ من زعم أن هذا معلَّق.
          ودَلَّ قوله: (عَنْ فَتْرَةِ الوَحْيِ) وقوله: (المَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءٍ) على تأخر نزول:{يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ}، عن{اقْرَأْ}، ولما خلت رواية يحيى بن أبي كثير الآتية في التفسير عن أبي سلمة عن جابر، عن هاتين الجملتين أَشْكَل الأمر، فَجَزَمَ ابنُ حَزْمٍ بأنَّ {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} أولُّ ما نَزَل، ورواية الزهري هذه الصحيحة تَرْفَع ذلك الإشكال.
          قوله: (فَرُعِبْتُ مِنْهُ) بضم الراء وكسر العين، وللأَصِيْلي بفتح الراء وضم العين، أي: فزعت، دل على بقيةٍ بَقِيتْ معه من الفَزَع الأول ثم زالت بالتدريج.
          قوله: (فَقُلْتُ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي) وفي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ: <زَمِّلُونِي> مرةً واحدةً، وفي رواية يونس في التفسير: ((فَقُلْتُ: دَثِّرُونِي... فنزلت: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنذِرْ} [المدثر:1-2])). أي: حذِّر من العذاب من لم يؤمن بك، {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} (24)[المدثر:3] ؛ أي: عظِّم، {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر:4] أي: من النجاسة، وقيل: الثياب النفس، ويُطهرها اجتناب النقائص، {وَالرُّجْزَ} هنا: الأوثان، كما سيأتي من تفسير الراوي عند المؤلف في التعبير، والرِّجز في اللغة: العذاب، وسمَّى الأوثان هنا رجزًا؛ لِأنَّها سببه.
          قوله: (فَحَمِيَ الْوَحْيُ) أي: جاء كثيرًا، وفيه مطابقة لتعبيره عن تأخره بالفتور؛ إذ لم ينته إلى انقطاعٍ كلي فيوصف بالضدِّ، وهو البرد (25) .
          قوله: (وَتَتَابَعَ) تأكيد معنوي، وفي رواية الكُشْمِيَهِنِّي وأَبِي الوقتِ: <وَتَوَاتَرَ > والتواتر: مجيء الشيء يتلو بعضه بعضًا من غير خلل.
          قوله: (تَابَعَهُ) الضمير يعود على يحيى بن بُكَيْرٍ (26) ، ومتابعة عبد الله بن يوسف عن الليث هذه عند المؤلف في قصة موسى، وفيه من اللطائف قوله: (عَنِ الزُّهْرِيِّ): سمعت عروة.
          قوله: (وَأَبُو صَالِحٍ) هو عبد الله بن صالح كاتب الليث، وقد أكثر البُخَارِيُّ عنه من المعلقات، وعَلَّق عن الليث جملة كثيرة من أفراد أبي صالح عنه، ورواية عبد الله بن صالح عن الليث لهذا الحديث أخرجها يعقوب بن سفيان في «تاريخه» عنه مقرونًا بيحيى بن بُكَيْرٍ، ووهم من زعم أنَّه أبو صالح عبد الغفار بن داود الحرَّاني.
          قوله: (وَتَابَعَهُ هِلَالُ بنُ رَدَّادٍ) بدالين مهملتين الأولى مثقلة وحديثه في الزهريات / للذُّهْليِّ.
          قوله: (وَقَالَ يُوْنُسُ) يعني: ابنَ يزيد الأَيْلِيَّ. (وَمَعْمَرٌ) هو ابن راشد.
          (بَوَادِرُهُ) يعني: أنَّ يونس ومعمرًا روَيا هذا الحديث عَنِ الزُّهْرِيِّ فوافقا (27) عُقيلًا عليه، إلا أنَّهما قالا بدل قوله: (يَرْجُفُ فُؤَادُهُ): ((ترجف بوادره (28) ))، والبوادر: جمع بادرة، وهي اللحمة التي بين المنكب والعنق، تضطرب عند فزع الإنسان (29) ، فالروايتان مستويتان في أصل المعنى؛ لأنَّ كلًا منهما دالٌ على الفزع، وقد بينَّا ما في رواية يونس ومَعْمَر من المخالفة لرواية عقيل غير هذا في أثناء السياق، والله الموفق.


[1] أشار في حاشية الأصل إلى أنَّه في نسخة: ((يشبه)).
[2] في الأصل: ((يقبلوه)).
[3] قوله: ((ما أقسمت)) ليس في الأصل.
[4] في الأصل: ((بها)).
[5] في الأصل: ((المعدوم)).
[6] في الأصل: ((تضيفه)).
[7] في الأصل: ((وفصل)).
[8] في الأصل: ((الوليد)).
[9] في الأصل: ((وصحبة)).
[10] في الأصل: ((يصيب)).
[11] في الأصل: ((عمر)).
[12] في الأصل: ((ينصر)).
[13] في الأصل: ((يوسف)).
[14] في الأصل: ((العربي)).
[15] هكذا في الأصل: ولعل الصواب ((التوقير لسنه)).
[16] في الأصل: ((لا يأتيه)).
[17] في الأصل: ((يكون)).
[18] في الأصل: ((استكمال)).
[19] في الأصل: ((اتباع))..
[20] هكذا في الأصل، ولعلها: ((الماضي)).
[21] في الأصل: ((مؤزر الهمزة)).
[22] في الأصل: ((يثبت)).
[23] في الأصل: ((النشوز)).
[24] في الأصل: ((وبربك)).
[25] في الأصل: ((البر)).
[26] في الأصل: ((كثير)).
[27] في الأصل: ((فوافقنا)).
[28] في الأصل: ((يرجف فؤاده)).
[29] في الأصل: ((وقوع الأسنان)).