النكت على صحيح البخاري

حديث: إنَّما الأعمال بالنيات

          1- قوله: (حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ) هُوَ أَبُو بَكْرٍ عبدُ الله بنُ الزُّبَيْر بنِ عيسى بن عبد الله بن الزبير بن عبد الله بن حُمَيْدِ بنِ أسامةَ بن زهير بن الحارث بن أسد بن عبد العزى بن قصي القرشي الأسدي، يجتمع مع رسول الله صلعم في قصي، ومع خديجة بنت خُوَيْلِد (1) بن أسد زوج النبي صلعم في أَسَدِ بن عبد العزى، وهو منسوب إلى جده حميد.
          وهو إِمامٌ كبير، له تصانيف في الحديث والفقه، من رؤساء أصحاب ابن عُيَيْنَةَ، وصَحِب الشافعي، وأخذ عنه الفقه، ورافقه في طلب الحديث، وفي الرحلة إلى مصرَ، ورجع بعد وفاته إلى مكة فأقام بها إلى أن مات سنة تسع عشرة ومائتين.
          وقَدَّمَ المصنف الرواية عن الحُميدي؛ لأنَّه قرشي مكي، وشيخه ابن عُيَيْنَةَ مكي، إشارةً إلى العمل بقوله صلعم: ((قَدِّمُوا قُرَيْشًا ولا تَقَدَّمُوهَا)) وإشعارًا بأفضلية مكة على غيرها من البلاد؛ ولأن ابتداء الوحي كان منها؛ فناسب أن يبدأ بالرواية عن أهلها في أول بدء الوحي، ومن ثم ثَنَّى بالرواية عن مالك؛ لأنَّه فقيه الحجاز مع سفيان، ولأنَّ المدينة تلو مكة في الفضل، وقرينتها في نزول الوحي.
          قوله: (عَنْ سُفْيَانَ) كذا / في رواية أَبِي ذَرٍّ، ولغيره: <حَدَّثَنَا سُفْيَانُ>، وهو ابنُ عُيَيْنَةَ بنِ أبي عِمْرَانَ أبو محمد الهِلَاليُّ الكوفي نزيلُ مَكَّةَ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: لولا مالك وسفيان لذهب عِلْم الحجاز.
          وكَانَ سُفْيَانُ يقول: إنَّه سمع من سبعين من التابعين، وهو آخر من روى عَنِ الزُّهْرِيِّ من الثقات، مات في رجب سنة ثمان وتسعين ومائتين.
          فبدأ البُخَارِيُّ قوله: (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ) اسم جده: قَيْسُ بْنُ عَمْرٍو، وهو من صغار التابعين، وشيخه محمدُ بنُ إبراهيمَ التَّيْمِيُّ من آلِ الصِّدِّيْقِ، وهو تابعيٌّ وسط، وشيخه عَلْقَمَةُ بنُ وَقْاصٍ اللَّيْثِيُّ تابعيٌّ كبيرٌ.
          ففي الإسناد على هذا ثلاثة من التابعين، روى بعضهم عن بعض، وعلى رواية أَبِي ذَرٍّ يكون اجتمع (2) في الإسناد أكثر الصيغ، وهي: التَّحْدِيْثُ والإِخْبَارُ والسَّمَاعُ والعَنْعَنَةُ.
          قوله: (سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُوْلُ)
          قال محمد بن إسماعيل التيمي: لما كان الكتاب معقودًا على أخبار النبي صلعم، طلب المصنف تصديره بأول شأن الرسالة، وهو الوحي، ولم يَرَ أن يُقَّدِمَ عليه شيئًا، لا خُطْبَةً ولا غيرها، بل أورد حديث الأعمال بالنيات بدلًا من الخُطْبَةِ.
          قلت: ولهذه النكتة اختار سياق هذه الطريق؛ لأنَّها تَضَمَّنَتْ أنَّ عُمَرَ خطب بهذا الحديث على المنبر، فلما صلح أن يدخل في خطبة الناس (3) كان صالحًا أن يكون في خطبة الدفاتر، فكأنَّه قال: هذا كتاب قصدتُ به جمع حديث رسول الله صلعم وقد قال: (إنَّما الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ) فإن كنت قَصَدْتُ به وجه الله فَسَيُجْزِيْنِي عليه وينتفع به، وإن كنت قصدتُ به غرضًا من أغراض الدنيا فَسَيُجَازيني بِنِيَّتِي؛ ولهذه النكتة حذف الجملة الدَّالة على التزكية المحضة، وهي قوله: ((فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى الله وَرَسُوْلِهِ))، وبقي الجملة المفردة وهي قوله: (فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ) نبَّهَ على ذلك بعض حفاظ الأندلس، وهو دقيق، وقد بسطته (4) في «الشرح الكبير».
          وإذ تقرر أنَّه أقام هذا الحديث بدلًا من الخُطْبَةِ، / ومنْ حَقِّ الخُطْبَةِ أنْ يَذْكُرَ الْمُصَنِّفُ فيها اصطلاحُه، وكان من رأيه تجويز الرواية بالمعنى، والاختصار من الحديث، والاقتصار على دلالة الإشارة غالبًا؛ فاستعمل جميع ذلك في هذا الحديث.
          فإن قيل: ولِمَ لَم يبدأ الخُطْبَة بالحمد؟
          فالجواب: إنَّ المقصود من الحمد: ذِكْر الله، وقد وجد بالبسملة، وكذا بالآية الأخرى التي في الترجمة.
          قوله: (إنَّما الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ) هذا التركيب يفيدُ الحَصْرَ بلا خلاف بين المحققين، والحصر: إثبات الحكم للمذكور ونفيه عما عداه.
          وإنَّما اختلفوا في (إنَّما) هل تفيد الحصر أو تأكيد الإثبات؟ وعلى إفادته هل تفيد النفي بالمنطوق أو بالمفهوم؟ إلى غير ذلك من المباحث.
          والمختار: أنَّها تفيد الحصر، لكن قد يصحبها قرائن تدل على إفادتها حصرًا مخصوصًا.
          و(الأَعْمَالُ): جمع عمل، وهي في مقابلة الأقوال، والمراد: أعمال البدن ؛ لأنَّ النِّيةَ عمل القلب، وليس بمراد لئلا يلزم الدور.
          و(النِّيَّات): جمع نية، وهي: انبعاث القلب نحو ما يراه موافقًا لغرضٍ من جَلْبِ نَفْعٍ أو دَفْعِ ضُرٍّ حالًا ومآلًا، قاله القاضي ناصر الدين البيضاوي، قال: وهذا اللفظ متروك الظاهر؛ لأنَّ الذوات غير منتفية، فيعني أن تقدير: (إنَّما الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ) لا عمل إلا بِنِيْة، والغرض أنَّ ذات العمل الخالي عن النيَّة موجودة، قال: فالمراد نفي أحكامها كالصحة والفضيلة، قال: والحمل على نفي الصحة أولى؛ لأنَّه أشبه بنفي الشيء بنفسه، ولأنَّ اللفظ يدلُّ عليه بالتصريح على نفي الذوات، وبقيت دلالته بالتبع على نفي الصفات.
          قلت: وهذا الْمَحَلُ يحتمل البسط، وقد أكثر الحُذَّاقُ من الكلام فيه، فاقتصرت على كلام هذا القاضي لجودته وتحقيقه.
          واستدلَّ الطِّيْبِيُّ على صحة ما ذهب إليه من أنَّ المُقدَّر هو الصحة؛ بأنَّ التقدير لو كان بـــــ: مستقر، أو: حاصل؛ لكان بيانًا للغة، والنبي صلعم بُعِثَ لبيان الشرع، فرجح جانب الحمل على تقدير الصحة، ويَتَقَوَّى أيضًا بأنَّ (إنَّما) لا يُخاطَب بها إلا من عنده تَرَدُّدٌ في الشيء، والذين خُوطِبُوا بذلك هم أهل اللسان، فتعين أنَّهم إنَّما خوطبوا بما ليس لهم به علم إلا من قبل الشارع، وهو / الشرع، فتعين الحَمْلُ على الشرع، والله أعلم.
          وهذا كله إذا أحدثَ الأعمالَ على عمومها، فأمَّا إذا قُلْتَ: المراد بالأعمال هنا: الأعمال الشرعية دون غيرها؛ فيصحُّ تقدير: تستقر وتوجد، ونحو ذلك.
          قوله: (وَإنَّما لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى) هذا تأكيدٌ للجملةِ الأولى ومقولها، ويُحْتَمَلُ أنْ يُرَادَ من الأولى: أنَّ الأعمال لا تكون مُسْقِطَةً للقضاء إلا إذا قارنتها النية، ومن الثانية: أنَّها إنَّما تكون مقبولة إذا قارنها الإخلاص.
          وقَالَ الخَطَّابِيُّ: أفادت هذه الجملة تعيين العمل بالنيَّة الجازمة، والأولى أفادت أنَّ الأعمال لا تعتبر إلا إذا كانت بنية.
          قوله: (فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا) هو بالقصر بلا تنوين.
          والهجرة في الأصل: الترك، والمراد بها هنا: ترك الوطن، وكان واجبًا على من أسلم أنْ يهاجر إلى النبي صلعم مُفَارِقًا دار قومه، فلما فُتِحَتْ مكة ودخل الناس في دين الله أفواجًا انقطعت هذه الهجرة، وبقيت الهجرة من دار الكفر على حالها، وللهجرة معانٍ أُخَر ليست مرادةً هنا، وسيُشَار إلى شيء منها بعد (5) .
          وقد قَدَّمْنَا النُّكْتَةَ في حذفه أحد وَجْهَي التقسيم، وهو قوله: ((فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى الله وَرَسُوْلِهِ)) فلم يجئ في شيء من الروايات، وغلط الشارح الداوودي ومن تبعه في إثباتها، والله أعلم.
          قوله: (فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ) ظاهره اتحاد الشرط والجزاء، وتغايرهما متعين، والجواب: أنَّ تغايرهما لا يتعين باللفظ بل في المعنى، وحينئذٍ فَيُقَدَّر أو يؤول، كما في قوله تعالى: {وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتَابًا } [الفرقان:71] .
          وأولى ما قُدِّرَ في الحديث ما قال أبو الفَتْحِ القُشَيْرِيُّ: فمن كانت هجرته لشيء نيةً وقصدًا فهجرته حكمًا وشرعًا.
          ويُعرب قوله: نية، على التمييز لا على الحال؛ إذ الحالُ في مثل هذا لا يُحْذَف، بخلاف التمييز فإِنَّهُ يجوز حذفه إذا دَلَّت عليه القرينة، أو يُحْمَلُ على إرادة المعهود كقوله:
          أنا أبو النجم وشِعْري شِعْري.
          إذ يؤول على إقامة السبب مقام الْمُسَبِّب لاشتهار السبب، والله أعلم.
          وسنذكر في / كتاب الإيمان (6) بقايا من فوائد هذا الحديث إن شاء الله تعالى.


[1] في الأصل: ((بن حامد)).
[2] في الأصل: ((أجمع)).
[3] أشار في حاشية الأصل إلى أنَّه في نسخة: ((المنابر)).
[4] في الأصل: ((بسطه)).
[5] [ح:10] .
[6] [ح:54].