النكت على صحيح البخاري

حديث: يا رسول الله كيف يأتيك الوحي

          2- قوله: (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ) هو التِّنِّيْسِيُّ (1) ، وهو من أجلِّ من يروي «الموطَّأ» عن مالك.
          قوله: (أَنَّ الحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ) هو الْمَخْزُومِيُّ ☺، وهو أخو أبي جهل _لعنه الله_.
          قوله: (سَأَلَ) يُحْتَمَلُ أن تكون عائشة حضرته إذ سأل عن ذلك، وَيُحْتَمَلُ أن يكون الحارث أخبرها بذلك، وأوردته في هذه السياقة بصورة الإرسال فَيُحْكَمُ له بحكم الوصل؛ لأنَّه على الأول ظاهر الاتصال، وعلى الثاني مرسل صحابي، وقد ثبت الثاني في «مسند أحمد» و«معجم البغوي» وغيرهما.
          قوله: (أَحْيَانًا) منصوبٌ على الظرف.
          قوله: (يَأْتِينِي مِثْلَ صَلْصَلَةِ الجَرَسِ).
          يريد أنَّه صوتٌ مُتَدَارَكٌ يسمعه ولا يَتَبَيَّنُهُ أول ما يَقْرَع سمعه، ثم يفهمه بعد، ولهذا عبَّرَ عنه بالشدَّة؛ لأنَّه يشغله عن حواسه، وفي حديث عمر عند أبي داود: ((كُنَّا نَسْمَعُ عِنْدَهُ مِثَلَ دَويِّ النَّحْلِ)).
          والفرق بينهما: أنَّ الأول بالنسبة إلى النبي صلعم والثاني بالنسبة للصحابة، فافترق النسبة بحسب المقامين.
          وَالصَّلْصَلَةُ في الأصل: صوتُ وَقْعِ الحديد بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ، ثم أطلقت على كلِّ صوتٍ له طَنِيْنُ، وشبَّهَه به نظرًا إلى مماثلة الصوت مع قطع النظر عن متعلقاته، وإلا فصوت الجرس نفسه يُكْرَه حسه.
          قوله: (فيُفْصَمُ) بضم أوله على البناء على ما لم يُسمَّ فاعله، ولغير أَبِي ذَرٍّ بفتح أوله وكسر الصاد، أي: يقلع، والفَصْمُ: القطع من غير بينونة بخلاف القصم بالقاف.
          قوله: (وَعَيْتُ) بفتح العين، أي: فهمت، وهو مأخوذ من الوعاء؛ أي: جمعته كما يجمع الشيء في الوعاء، وحصل من المجموع أنَّه لا يفهمه ابتداء حتى يلقي إليه باله كله، وأنَّه لا يُقْلِع عنه إلا وقد فهم ما جاء به.
          ولم يتعرض في هذه الصورة لكيفية حامل الوحي؛ لأنَّ السؤالَ إنَّما وقع عن الوحي نفسه، وإنَّما ذكره في الثاني لتحقق أنَّه يشبه كلام الإنس.
          قوله: (رَجُلًا) أي: على مثال رجل، ومعناه: أنَّ الْمَلَكَ ظهر للنبي صلعم بتلك الصورة تأنيسًا، والزائد على خلقه، إمَّا أن يحتجب، وإمَّا أن يضمحلَّ ثم يعود، / وأشار إلى ذلك ابنُ عبدِ السَّلَام، والأول أولى.
          قوله: (فَأَعِي مَا يَقُولُ) وقال في الأول: (وَقَدْ وَعَيْتُ مَا قَالَ)؛ لأنَّ الوعي حصل في الأول عَقِبَ الْمُكَالَمَةِ قَبْلَ الفَصْمِ، وفي الثاني حصل حالَ الْمُكَالَمَةِ، ولا يُتَصَوَّر قبلها.
          فإن قيل: بقي من صفات الوحي أشياء لم تُذكر: كالرؤيا الصالحة، والإِلْهَامِ، والنَّفْثِ في الرَّوْع، والكلام بلا واسطة كما في ليلة الإسراء، ومجيء الملك في صورته التي خُلِقَ عليها؟
          فالجواب: أن السؤال غير وارد؛ إذ لا صيغةَ حَصْرٍ هنا، وعلى تقدير ذلك يجوز أن يكون في الرؤيا أيضًا لا يخرج في مجيئه بالوحي عن الصفتين المذكورتين، وأمَّا ما عدا ذلك فوقوعه نادر، وغالبه لم يتكرر فلم يذكره، أو أنَّ المراد بالسؤال عن الوحي السؤال عن الْمُوْحَى وهو القرآن، ومجيء الْمَلَك بالقرآن لا يخرج عن تلك الصفتين، والله أعلم.
          قوله: (قَالَتْ عَائِشَةُ) هو معطوف على الإسناد الأول بغير أداة عطف، وهو جائز كما قال ابن مالك، وقد أكثر المصنف في هذا الكتاب من استعماله، وقد أخرجه مالكٌ في «الموطأ» كذلك، وأفرده مُسْلِمٌ بالسياق مع أنَّه بسند الذي قبله عنده أيضًا، فانتفى أن يكون من تعاليق البُخَارِيِّ كما جَوَّزَه الكِرْمَانِيُّ.
          وكلام عائشة هذا يؤيد ما روت عنه صلعم من الشدَّة؛ لأنَّ سيل العَرَقِ في اليوم الشديد البرد يدلُّ على حمل ثِقَلٍ عظيم، كما قال تعالى: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا } [المزمل:5] .
          وفي حديث عائشة أيضًا أنَّها في قصة الإفك: ((فَأَخَذَهُ مَا كَانَ يَأْخُذُهُ مِنَ الْبُرَحَاءِ))، وهو بضم الموحدة وفتح الراء والحاء المهملة، وهو: البُهْرُ بضمِّ الموحدة وإسكان الهاء، والعَرَق مثل الذي يحصل للمحموم.
          وفي حديث عبادة بن الصَّامت: ((كَانَ إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ كَرِبَ لِذَلِكَ وتَرَبَّدَ وَجْهُهُ)) وهو بالراء وتشديد الموحدة أي: تغيَّر لونه.
          وفي حديث يعلى بن أمية: ((فَرَأَيْتُهُ وَهُوَ يَغِطُّ)).
          وكل ذلك حيث لا يأتي الملك في صورة الرَّجُل، أمَّا حيث يأتي في صورة الرَّجُل فلا؛ ففي حديث أبي هريرة في سؤال جبريل عن الإيمان والإسلام أنَّه أتى في صورة أعرابي، وفي حديث أمِّ سَلَمَةَ أنَّها رأت جبريل في صورة دِحْيَة، إلى غير ذلك من الأحاديث.
          وللحميدي في «مُسْنَدِهِ» عن ابن عُيَيْنَةَ، عن هشام في حديث الباب: / ((وَيَأْتِيْنِي أَحْيَانًا في مِثْلِ صُوْرَةِ الفَتَى فَيَنْبِذُهُ إليَّ فَأَعِيه وَهُوَ أَهْوَنُهُ عَلَيَّ)) فتبيَّن موقع أفعل في قوله: (وَهُو أَشَدُّهُ عليَّ).
          وفي هذا الحديث من الفوائد: أنَّ السؤال عن الكيفية لطلب الطمأنينة لا يقدح في اليقين، وأنَّ الصحابة كانوا يسألون النبي صلعم عن الأمور التي لا تُدْرَكُ بالحسِّ فيخبرهم بها ولا ينكر ذلك عليهم.
          قوله: (لَيَتَفَصَّدُ) بالفاء، أي: يسيل منه العَرَق كما يسيل الدم بالفصد، ومن قاله بالقاف فقد صَحَّفَ. و(عَرَقًا) منصوب على التمييز.
          تنبيه:
          قالَ الإِسْمَاعِيْلِيُّ: كان المناسب أنْ يُقَدَّمَ الحديثُ الذي بعد هذا ؛ لأنَّه أليقُ بالترجمة.
          وأقول: لا أثر للتقديم والتأخير هنا ولو لم تظهر المناسبة، فضلًا عنْ أنَّا قَدَّمْنَا أنَّه أراد البدَاءَةَ بالتحديث عن إمَامي الحجاز، فبدأ بمكة وثَنَّى بالمدينة، ولا يلزم أن تتعلق جميع أحاديث الباب ببدء الوحي، بل يكفي أن يتعلق بذلك وبما يتعلق به وبما يتعلق بالآية أيضًا، فاندفع الاعتراض.
          ثم ظهر لي جوابٌ آخر: وهو أنَّ الأحاديث تتعلق بلفظ الترجمة وبما اشتملت عليه الترجمة، ولما كانت الترجمة اشتملت على الآية الكريمة، وهي قوله: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [النساء:163] ، كان تقديم ما يتعلق بالآية الكريمة، فهو صفة الوحي وصفة حامله، إشارة إلى أنَّ الوحي إلى الأنبياء لا تباين فيه، فحسن إيراد هذا الحديث عقب حديث (الأعمالُ بالنِّيَّاتِ) الذي تقرَّر أنَّه يتعلق بالآية أيضًا تعلُّقًا قويًّا، والله الموفق.


[1] في الأصل: ((التنفسي)).