النكت على صحيح البخاري

حديث: كان رسول الله يعالج من التنزيل شدة

          5- قوله: (حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ) هو أَبُو سَلَمَةَ التَّبُوذَكِيُّ، وكان من حفاظ البَصْرِيين.
          (حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ) هو الوضَّاحُ بنُ عبد الله اليَشْكُرِيُّ مولاهم البَصْرِيُّ، كان كتابه في غاية الإتقان.
          و(مُوسَى بْنُ أَبِي عَائِشَةَ) لا يُعْرف اسم أبيه، وقد تَابَعَهُ على بعضه عمرو بن دينار عن سعيد بن جبير.
          قوله: (كَانَ مِمَّا يُعَالِجُ) المعالجة: محاولة الشيء بمشقة، أي: كان العلاج ناشئًا من تحريك الشفتين؛ أي: مبدأ العلاج منه، و(ما) موصولة، وأطلقت على من يعقل مجازًا، هكذا قرره الكِرْمَانِيُّ وفيه نظر؛ لأنَّ الشدة حاصلة له قبل التحريك، والصواب ما قاله ثابتٌ السَّرَقُسْطِيُّ: أنَّ المراد كان كثيرًا ما يفعل ذلك، وورد ممَّا في هذا كثيرًا، ومنه حديث الرؤيا: كان مما يقول لأصحابه: ((مَنْ رَأَى مِنْكُمْ رُؤْيَا)).
          ومنه قول الشاعر:
وأنا مما يضربُ الكبشَ ضربةً                      على وجهه يُلقي اللسانُ منَ الفَم
          قلتُ: ويؤيده أنَّ رواية المصنف في التفسير من طريق جرير عن موسى بن أبي عائشة لفظهما: ((كانَ رسولُ اللهِ صلعم إذا نزلَ جبريلُ بالوحيِ فكانَ مما يحرِّكُ به لسانَه وشفتَيْهِ))، فأتى بهذا اللفظ مجردًا عن تقدم العلاج الذي قدره الكِرْمَانِيُّ، فظهر ما قاله ثابت.
          ووجهه ما قال غيره: أنَّ (من) إذا وقع بعدها (ما) كانت بمعنى: رُبَّمَا، وهي تُطلق على الكثير كما تطلق على القليل، وفي كلام سيبويه مواضع من هذا، منها قوله: اعلم أنَّهم مما يحذفون كذا، والله أعلم.
          ومنه حديثُ البَرَاءِ: ((كُنَّا إِذَا صَلَّيْنَا خَلْفَ النَّبِيِّ صلعم مِمَّا نُحِبُّ (1) أَنْ نَكُونَ عَنْ يَمِينِهِ..)) الحديث.
          ومنه حديث سَمُرَةَ: ((كَانَ رَسُولُ اللهِ صلعم / إِذَا صَلَّى الصُّبْحَ مِمَّا يَقُولُ لِأَصْحَابِهِ مَنْ رَأَى مِنْكُمْ رُؤْيَا)).
          قوله: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَأَنَا أُحَرِّكُهُمَا) جملة معترضة بالفاء، وفائدة هذا: زيادة البيان بالوصف على القول، وعَبَّرَ في الأول بقوله: كما كان يحركهما، وفي الثاني: بـ(رَأَيْتُ)؛ لأنَّ ابن عباس لم يرَ النبي صلعم في تلك الحالة؛ لأنَّ سورة القيامة مَكْيَّةٌ باتفاقٍ، بل الظاهر أنَّ نزول هذه الآيات كان في أول الأمر، وإلى هذا احتجَّ البُخَارِيُّ في إيراده هذا الحديث في بدء الوحي، ولم يكن ابن عباس إذ ذاك وُلِد؛ لأنَّه وُلِدَ قبل الهجرة بثلاث سنين، لكن يجوز أن يكون النبي صلعم أخبره بذلك بعد ، أو بعض الصحابة أخبره أنَّه شاهد النبي صلعم، والأول هو الصواب، فقد ثبت ذلك صريحًا في «مسند أبي داود الطيالسي»: قال: حَدَّثَنَا أبو عَوَانَة بسنده، وأمَّا سعيد بن جُبَيْرٍ فروى ذلك عن ابن عباس بلا نزاع.
          قوله: (فَحَرَّكَ شَفَتَيْهِ) وقوله: (فأنزل الله: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ} [القيامة:16]).
          لا تنافي بينهما؛ لأنَّ تحريك الشفتين بالكلام يلزم منه تحريك اللسان؛ لأنَّه الأصل في النطق، إذ الأصل حركة الفم، وكل من الحركتين نَاشِئٌ عن ذلك، وقد مضى أنَّ في رواية جرير في التفسير: ((يُحَرِّكُ بِهِ لِسَانَهُ وَشَفَتَيْهِ)) فجمع بينهما، وكان النبي صلعم في ابتداء الأمر إذا لُقِّن القرآن نازعَ جبريلَ القراءة ولم يصبر حتى يتمَّها، مسارعةً إلى الحفظ ؛ لئلا يتفلت منه شيء، قاله الحسن وغيره.
          وفي رواية الطَّبَريِّ عَنِ الشَّعْبِيِّ: ((عَجَّلَ يَتَكَلَّمُ بِهِ مِنْ حُبِّهِ إِيَّاهُ)) وكلا الأمرين مراد، فأمر بأنَّ ينصت حتى يقضى إليه وحيه، ووُعِد بأنَّه آمنٌ من تَفَلُّتِه منه بالنِّسيان أو غيره، ونحوه قال تعالى: {وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} [طه:114] أي: بالقراءة.
          قوله: (جَمَعَهُ لَكَ) كذا في أكثر الروايات، وفي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ والحموي: <جَمَعَهُ لَكَ فِي صَدْرِكَ> وهو توضيح للأول، وهذا من تفسير ابن عباس، وقال في تفسير: {فَاتَّبِعْ} [القيامة:18] أي: فاستمع وأنصت، وفي تفسير:{بَيَانَهُ} [القيامة:19] أي: علينا أن تقرأه.
          ويُحتَمل أن يُراد بالبيان: بيانُ مُجْمَلَاتِه وتوضيحُ مُشْكِلاتِه، فيستدلُّ به على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب كما هو / الصحيح في الأصول، والكلام على تفسير الآيات المذكورة أَخَّرْتُه إلى كتاب التفسير فهو موضعه.


[1] في الأصل: ((يحب)).