الناظر الصحيح على الجامع الصحيح

حديث: إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا

          100- (انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ): حالٌ مِنَ (الْعِلْمَ)، و(انْتِزَاعًا): مفعولٌ مطلقٌ قُدِّمَ على فِعْلِه، أو هو مفعولٌ مطلقٌ لفعلٍ مقدَّرٍ يفسِّرُه ما بعدَه، وقيل: مفعولٌ مطلقٌ عن معنى (يَقْبِضُ) نحو: (رجع القهقرى)، و(يَنْتَزِعُهُ): صفةٌ مُبيِّنَةٌ لـــ(الانتزاع). /
          و(الْعِلْمَ) [الثاني]: مِنْ بابِ وضعِ الظَّاهرِ موضِعَ(1) المُضمَرِ.
          وقال بعضُهم: (انْتِزَاعًا) _مصدرُ (يَنْتَزِعُهُ) قُدِّمَ على (يَنْتَزِعُهُ)_: حالٌ من الضميرِ في (يَقْبِضُ)، أو نصبٌ مفعولٌ له، أي: لا يقبضُ للانتزاع، أو على أنَّه حالٌ من المفعول، أي: في حال كونِ العلمِ منتَزَعًا، و(يَنْتَزِعُهُ) جوابٌ عمَّا يُقال: ممَّن ينتزع العلم؟ والضميرُ البارزُ في (يَنْتَزِعُهُ) يعودُ إلى (الْعِلْمَ)، (وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ): مِن بابِ إقامةِ المُظْهَرِ مُقامَ المضمَرِ؛ لازدياد تمكينِ المظهَرِ؛ كقولِ الشاعر: [من البسيط]
إِنْ تَسْأَلُوا الْحَقَّ نُعْطِي الْحَقَّ سَائِلَهُ                     ...........................
          دون (نعطيه)، وقوله تعالى: {اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص:2]، دون (هو الصمد).
          والضميرُ في (إِذَا لَمْ يَتْرُكْ): للهِ تعالى، أي: حتى إذا لم يتركِ اللهُ عالمًا في الدنيا، وفي (حَتَّى) [دلالةٌ] للتدريجِ(2)، وفي (إِذَا) إشعارٌ بأنَّ المذكورَ معها واقعٌ لا محالةَ؛ إذِ الأصلُ فيها القطعُ بوقوعِ الشرطِ، ثمَّ قال: (اتَّخَذَ) بلفظِ الماضي / دونَ (يتخذ) لكونِه في حالِ المقطوعِ به؛ لأنَّه ضروريُّ الوقوع نظرًا إلى إخبارِ المخبِر الصادق.
          [(فَأَفْتَوْا): الفتوى مِنَ (الفتى) وهو الشابُّ القويُّ، وسُمِّيتِ الفتوى]؛ لأنَّ المُفتيَ يُقَوِّي السائلَ في جوابِ الحادثةِ(3).
          (حَتَّى): ابتدائيَّةٌ دخلتْ على الجملة.
          (إِذَا): ظرفيَّةٌ، والعاملُ فيها (اتَّخَذَ)، ويَحتمل أن تكونَ شرطيَّةً.
          فإنْ قلتَ: (إِذَا) للاستقبال، و(لَمْ) لقلب المضارعِ ماضيًا، فكيف يجتمعان؟
          قلتُ: (لَمْ) جعلَ البقاءَ ماضيًا، و(إِذَا) جعلَ نفيَ البقاءِ مستقبلًا، أو يُقال: تعارضا وتساقطا فيبقى على أصله؛ وهو المضارع، أو تعادلا فيفيدُ الاستمرار.
          إنْ قلتَ: إذا كانت شرطيَّةً؛ يلزمُ مِنَ انتفاءِ الشَّرطِ انتفاءُ المشروطِ، ومِنْ وجودِ المشروطِ وجودُ الشرطِ، لكنَّه ليس كذلك؛ لجوازِ حصولِ الاتِّخاذِ مع وجودِ العالِم.
          قلتُ: ذلك في الشُّروطِ العقليَّةِ، أمَّا في غيرها؛ فلا نسلِّمُ اطِّرادَ القاعدةِ.
          قال البِرْماويُّ: (قلتُ: وهو عجيبٌ، فإنَّ الشَّرطَ اللُّغويَّ _وهو تعليقُ شيءٍ / بشيءٍ_ يَجعلُ المعلَّقَ عليه سببًا، فينتفي المشروطُ عند انتفاءِ الشرط).
          وقال الكِرمانيُّ: (ثمَّ ذلك الاستلزامُ إنَّما هو في موضعٍ لم يكن للشَّرط بَدَلٌ، فقد يكون لمشروطٍ واحدٍ شروطٌ متعاقبةٌ؛ كصحَّةِ الصَّلاة بدون الوضوء عند التَّيمم) انتهى.
          قال البِرْماويُّ: (قلتُ: ليس هذا من الشَّرط اللُّغوي الَّذي يُصيِّرُ الشَّرطَ سببًا للمشروط).
          قال الكِرمانيُّ: (أو المرادُ بـــ«النَّاس» جميعُهم فلا يصحُّ أنَّ الكلَّ اتخذوا رؤوسًا جُهالًا إلَّا عند نفيِ العالِم مطلقًا، وذلك ظاهرٌ).
          قلتُ: (هذا أصلحُ مِنَ الجوابين قبلَه، والأحسنُ في الجوابِ أن يُقال: إنَّ ذلك جرى مَجرى الغالبِ، فلا يُعمَلُ بمفهومِه).
          ([فَضَلُّوا]): إنْ قلتَ: الضَّلالُ متقدِّمٌ على الإفتاءِ، فما معنى الفاء؟
          قلتُ: المجموعُ المركَّبُ مِنَ الضَّلالِ والإضلالِ هو متعقِّبٌ على الإفتاءِ وإن كان الجزءُ الأوَّلُ مقدَّمًا عليه، أو الضَّلالُ الَّذي بعد الإفتاءِ غيرُ الضَّلالِ الَّذي قبلَه.
          ووجهُ(4) التَّوفيقِ بين هذا الحديثِ وحديثِ: «لَنْ تَزَالَ هَذِهِ الْأُمَّةُ [قَائِمَةً عَلَى أَمْرِ اللهِ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ]»: أن يُقال: هذا بعدَ / إتيانِ أمرِ اللهِ إنْ لم يفسَّرْ (أمر الله) بالقيامة، أو إنَّما هو في بعضِ المواضع، ففي غيرِ بيتِ المقدسِ [مثلًا إنْ فسَّرْناه به فيكونُ محمولًا على التخصيصِ؛ جمعًا بين الأدلَّة].


[1] في (أ): (بموضع).
[2] في (ب): (التدريج)، والمعنى: أن (حتى) تدل على أنَّ قبض العلماء واقعٌ بالتدريج. انظر «عمدة القاري» (2/131).
[3] قوله: (وقال بعضهم: انتزاعًا...) إلى هنا سقط من (ب).
[4] في (أ): (وجه)، والمثبت من (ب).