الناظر الصحيح على الجامع الصحيح

حديث: ما من شيء لم أكن أريته إلا رأيته

          86- (سُبْحَانَ اللهِ!) إِنْ قلتَ: كيف أضافَ؟ قلتُ: نُكِّر، فأضيف.
          قال ابن الحاجب: (كونه عَلَمًا إنَّما هو في غير حالة الإضافة، وهو مفعول مطلق التُزم إضمار فعله).
          (آيَةٌ؟): خبر مبتدأ محذوف، أي: أهي آية؟
          (إِلَّا رَأَيْتُهُ فِي مَقَامِي هَذَا): استثناءٌ مفرَّغٌ، وكلُّ مفرَّغٍ متَّصلٌ، معناه: كلُّ شيءٍ لم أَكنْ أُريتُه مِن قبلِ مُقامي ههنا رأيتُه في مَقامي هذا، و(رَأَيْتُهُ) في موضع الحال، وتقديرُه: (ما مِن شيءٍ لم أكنْ أُرِيتُه كائنًا في حالٍ مِنَ الأحوالِ إلَّا في حالِ رؤيتي إيَّاه)، وجاز وقوعُ الفعلِ مستثنًى بمثل هذا التَّأويل.
          (حَتَّى الْجَنَّةَ وَالنَّارَ): [حتى]: إِنْ كانت عاطفةً فما بعدَها منصوبٌ عطفًا على المفعول في (رَأَيْتُهُ)، أو ابتدائيةً فمرفوعٌ، أو جارَّةً فمخفوضٌ، نحو: (أكلتُ السَّمكةَ حتَّى رَأْسِها).
          (مِثْلَ أَوْ قَرِيبَ): هما بغيرِ التنوينِ مضافانِ إلى (فِتْنَةِ الْمَسِيحِ).
          إِنْ قلتَ: كيفَ جاز الفصلُ بينهما وبين ما أُضيفا إليه بأجنبيٍّ؛ وهو قوله: (لَا أَدْرِي أَيَّ ذَلِكَ قَالَتْ أَسْمَاءُ؟).
          قلتُ: هي جملةٌ معترضةٌ مؤكِّدةٌ لمعنى الشَّكِّ المستفادِ مِنْ كلمة (أَوْ)، والمؤكِّدةُ للشَّيءِ لا تكون أجنبيَّةً منه؛ فلذلك جاز الفصلُ بينهما وبين ما أُضيفا إليه. /
          إِنْ قلتَ: هل يصحُّ أن يكونَ لشيءٍ واحدٍ مضافان؟
          قلتُ: ليس ههنا مضافانِ، بل مضافٌ واحدٌ؛ وهو أحدُهما لا على التعيين، ولئن سلَّمنا فتقديره: مثلَ فتنةِ المسيح، أو قريبَ فتنةِ[12أ] المسيح، فحُذف أحدُ اللَّفظين منهما لدلالة الآخر عليه.
          فإن قلتَ: ما توجيهُه على ما في بعض النُّسخِ من وجودِ (مِنْ) قبلَ (فِتْنَةِ)، و(مِنْ) لا تتوَسَّطُ بين المضافِ والمضافِ إليه في اللفظ؟
          قلتُ: لا نسلِّم امتناعَ إظهارِ حرفِ الجرِّ بين المضاف والمضاف إليه؛ إذْ بعضُهم جوَّزَ التَّصريحَ بما هو مقدَّرٌ مِنَ (اللَّام) و(مِن) وغيرهما في الإضافات، / وهو مثلُ قولِهم: لا أبا لك، وإنْ سلَّمنا فهُما(1) ليسا بمضافينِ إلى الفتنة المذكورة على هذا التَّقدير، بل مضافان إلى الفتنة المقدَّرة، والمذكورُ _وهو (مِنْ فِتْنَةِ)_ هو بيانٌ لذلك المقدَّرِ.
          وفي بعضِ النُّسخِ: (قَرِيْبًا)، فيكون توجيهُه حينئذٍ: (مِنْ) صلةٌ له، ويقدَّر لفظُ (فِتْنَة) قبلَ لفظِ (قَرِيْبًا) ليكونَ (المثل) مضافًا إليه، انتهى كلام الكِرمانيِّ.
          قال القاضي: («مِثْلَ أَوْ قَرِيْبَ» كذا في كثيرٍ من نُسخ «البخاري»، وكذا رويناه عن الأكثرِ في «الموطأ»، ورويناه عن بعضهم: «مِثلًا أَوْ قَرِيْبًا»، ولبعضهم: «مِثْلَ أَوْ قَرِيْبًا»، وهو الوجهُ).
          وقال ابن مالك: (يُروى في «البخاريِّ»: «أَوْ قَرِيْبَ» بغيرِ تنوينٍ، والمشهورُ: «أَوْ قَرِيْبًا»، ووجهُهُ أنْ يكون أصلُه: «مثلَ فتنةِ الدَّجال أو قريبًا من فتنة الدَّجال»، فحُذِفَ ما كان «مثل» مضافًا إليه، وتُرك على هيئتِه قبلَ الحذف، وجازَ الحذف لدلالةِ ما بعدَه، والمعتادُ في صحَّةِ هذا الحذفِ أن يكون مع إضافتين؛ كقولِ الشَّاعر: [من الطويل]
أَمَامَ وَخَلْفَ المَرْءِ مِنْ لُطْفِ رَبِّهِ                     ........................... /
          وجاء أيضًا في إضافةٍ واحدةٍ؛ كما هو في الحديث.
          وأمَّا رواية «قَرِيبَ» بغيرِ تنوينٍ؛ فأراد: مثلَ فتنةِ الدَّجال أو قريبَ الشَّبهِ مِنْ فتنةِ الدَّجال، فحُذفَ المضافُ إليه، وبقيَ «قَرِيبَ» على هيئتِهِ، وهذا الحذفُ في المتأخِّرِ لدلالةِ المتقدِّمِ عليه قليلٌ مثلَ قراءةِ ابنِ مُحَيصِنٍ: ▬لَا خَوفُ عَلَيْهِمْ↨ [البقرة:38] أي: لا خوفُ شيءٍ، وكقولِ الشَّاعرِ: [من السريع]
أَقُولُ لمَّا جَاءَنِي فَخْرُهُ:                     سُبْحَانَ مِنْ عَلْقَمَةَ الفَاخِرِ!
          أراد: سبحانَ الله! فحذفَ المضافَ إليه وتركَ المضافَ بحالِه، يقول الشَّاعر: العجبُ منه إذْ يَفخرُ!) انتهى.
          وقال أبو البقاء: («قَرِيْبًا» منصوبٌ نعتًا لمصدرٍ محذوفٍ، أي: افتتانًا قريبًا من فتنة الدَّجال؛ ولذلك قال: «أو مثلَ» بإضافته إلى «الفتنة»). /
          و(أَيَُّ): الرِّوايةُ المشهورةُ فيه الرَّفعُ، وهو مبتدأٌ، وخبرُه: (قَالَتْ أَسْمَاءُ)، وضميرُ المفعولِ محذوفٌ، وفعلُ الدِّراية معلَّقٌ بالاستفهام؛ لأنَّه من أفعال القلوب إِنْ كانتْ (أَيُّ) استفهاميَّةً، ويجوزُ أن يكونَ أيضًا مبتدأً مبنيًّا على الضمِّ على تقديرِ حذفِ صدرِ صلتِه، والتقدير: لا أدري أيُّ ذلك هو قالته أسماء؟ وأمَّا توجيه النَّصب فبأن يكون مفعولًا لـــ(لَا أَدْرِي)(2) إِنْ كانتْ موصولةً، أو مفعولَ (قَالَتْ) إِنْ كانتْ استفهاميَّةً أو موصولةً، أو يُقال: إنَّ مِنْ شريطةِ التَّفسير بأنْ يشتغلَ (قَالَتْ) بضميرِه المحذوفِ، ويَحتمل أن تكون الدِّرايةُ بمعنى المعرفةِ.
          وقال الزَّركشيُّ: (بنصبِ «أَيَّ»).
          (إِنْ كُنْتَ لَمُوقِنًا): قال الكِرمانيُّ: («إِنْ» هي المخفَّفةُ من الثَّقيلةِ، أي: إنَّ الشَّأن) انتهى.
          وقد رأيتُ في «شرح الألفية» لابن عقيل: (اختُلفَ في هذه «اللَّام»: هل هي لامُ الابتداء دَخَلَتْ للفرق بين [«إِنْ»] النافيةِ و«إنْ» المخفَّفةِ من الثقيلة، أم هي لامٌ أخرى اجتُلبتْ للفرق؟ وكلامُ سيبويه يدُلُّ على أنَّها لامُ الابتداء دَخَلَتْ للفرق. /
          وتظهرُ فائدةُ الخلاف في مسألةٍ جَرَتْ بين ابنِ أبي العافية وابنِ الأخضر وهي في قوله صلعم: «قَدْ عَلِمْنَا إِنْ كُنْتَ لَمُوقِنًا»؛ فمَنْ جعلَها لامَ الابتداء وَجَبَ كسرَ «إِنْ»، ومَنْ جعلَها أخرى اجتُلِبَت للفرق فَتَحَ «أَنْ»، وجرى الخلافُ قبلَهما في هذه المسألة بين أبي الحسن الأخفش الصَّغير، وبين أبي عليٍّ الفارسي، فقال الفارسيُّ: «هي لامٌ غيرُ لامِ الابتداء اجتُلِبتْ للفرق»، وبه قال ابنُ أبي العافية، وقال الأخفشُ الصَّغير: «إنَّها لامُ الابتداء دَخَلَتْ للفرق»، وبه قال ابنُ الأخضر) انتهى. /
          وقال السَّفاقُسِيُّ: (بفتحِ الهمزةِ على جعْلِها مصدريَّةً، أي: عَلِمنا كونَكَ مُوقِنًا)، ورُدَّ بدخولِ اللَّام.
          وقال ابنُ هشامٍ: (وإذا خُفِّفَتْ «إِنَّ»، نحو: {وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً} [البقرة:143]، {إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} [الطارق:4] فاللَّامُ عند سيبويه والأكثرين لامُ الابتداء، أفادتْ _مع إفادتها توكيدَ النِّسبة وتخليصَ المضارع للحال_ الفرقَ بين «إِنْ» المخفَّفة من الثَّقيلة و«إِنْ» النَّافية؛ ولهذا صارتْ لازمةً بعدَ أنْ كانتْ جائزةً، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يدُلَّ دليلٌ على قصدِ الإثبات؛ كقراءةِ أبي رجاءٍ: ▬وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لِما مَتَاعُ / الحَيَوةِ الدُّنْيَا↨ [الزخرف:35] بكسر اللَّامِ، أي: لِلَّذي، وكقوله: [من البسيط]
إِنْ كُنْتُ قَاضِيَ نَحْبِي يَوْمَ بَيْنِكُمُ                     لَوْ لَمْ تَمُنُّوا بَوْعَدٍ غَيْرِ تَوْدِيعِ
          ويجبُ تركُها مع نفيِ الخبر، كقوله: [من الطويل]
إِنِ الْحَقُّ لَا يَخْفَى عَلَى ذِي بَصِيرَةٍ                     وَإِنْ هُوَ لَمْ يَعْدَمْ خِلَافَ مُعَانِدِ
          وزعم أبو عليٍّ، وأبو الفتحِ، وجماعةٌ: أنَّها لامٌ غيرُ لامِ الابتداء اجتُلِبَتْ للفرقِ.
          قال أبو الفتح: قال لي أبو عليٍّ: ظننتُ أنَّ فلانًا نحويٌّ محسنٌ حتَّى / سمعتُه يقول: إنَّ اللَّامَ الَّتي تصحبُ الخفيفةَ هي لامُ الابتداء، فقلتُ له: أكثرُ نَحْوِيِّي بغداد على هذا. انتهى.
          وحُجَّةُ أبي عليٍّ دخولُها على الماضي المتصرِّف، نحو: «إِنْ زَيْدٌ لَقَامَ»، وعلى منصوبِ الفعلِ المؤخَّرِ عنْ ناصبه في نحو: {وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} [الأعراف:102]، وكلاهُما لا يجوزُ مع المشدَّدة.
          وزعمَ الكوفيونَ: أنَّ اللَّامَ في ذلك كلِّه بمعنى: «إلَّا»، وأنَّ «إِنْ» قبلَها نافيةٌ، واستدلُّوا على مجيءِ اللَّام للاستثناء بقوله: [من البسيط]
أَمْسَى أَبَانُ ذَلِيْلًا بَعْدَ عِزَّتِهِ                     وَمَا أَبَانُ لَمِنْ أَعْلَاجِ سُودَانِ
          وعلى قولهم يُقالُ: «قَدْ عَلِمْنَا إِنْ كُنْتَ لَمُؤْمِنًا» بكسرِ الهمزةِ؛ لأنَّ النَّافيةَ
          مكسورةٌ دائمًا، وكذا على قولِ سيبويه؛ لأنَّ لامَ الابتداءِ تُعلِّقُ العاملَ عنِ العملِ.
          وأمَّا على قولِ أبي عليٍّ وأبي الفتحِ فتُفتَحُ) انتهى. /


[1] في النسختين: (أنهما)، والصواب المثبت من «الكواكب الدراري» (2/69)، وانظر «اللامع الصبيح» (1/418).
[2] في (ب): (مفعولَ «لا أدري»).