هداية الساري لسيرة البخاري

في سيرته وشمائله وزهده وفضائله

           ░4▒ فَصْلٌ.
          في سِيرَتِهِ وَشَمَائِلِهِ وَزُهْدِهِ وَفَضَائِلِهِ
          قَالَ وَرَّاقُهُ : سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ خِدَاشٍ يَقولُ: سَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَفْصٍ يَقولُ: دَخَلْتُ على إِسْمَاعِيلَ وَالدِ أبي عبد اللهِ عِنْدَ مَوْتِهِ، فَقَالَ: لا أَعْلَمُ مِنْ مَالي دِرْهَمًا مِنْ حَرَامٍ، وَلَا دِرْهَمًا مِنْ شُبْهَةٍ.
          قُلْتُ : وَكان مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَدْ وَرِثَ مِنْ أَبِيهِ مَالاً جَلِيلاً، فَكان يُعْطِيهِ مُضَارَبَةً، فَقَطَعَ لَهُ غَرْيمٌ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ أَلْفًا، فَقِيلَ لَهُ: اسْتَعِيــنْ / بِكِتابِ الوَالي. فَقَالَ: إِنْ أَخَذْتُ مِنْهُمْ(1) كِتَابًا طَمِعُوا، وَلَنْ أَبِيعَ دِينِي بِدُنْيَاي. ثُمَّ صَالَحَ غَرِيمَهُ على أَنْ يُعْطِيَهُ كُلَّ سَنَةٍ عَشْرَةَ دَرَاهِمَ، نَزْرًا يَسِيرًا، وَذَهَبَ ذَلِكَ المَال. حَكَاهَا وَرَّاقُهُ وَطَوَّلَهَا .
          وَقَالَ البُخَارِيُّ: ما تَوَلَّيْتُ شِرَاءَ شَيْءٍ قَطُّ، وَلَا بَيْعَهُ، كُنْتُ أُكْفَى ذَلِكَ. فَقِيلَ لَهُ: وَلِمَ؟ قَالَ: لِمَا فيه مِنَ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ وَالتَّخْلِيطِ. فَسَأَلُوهُ عن شِرَاءِ الحِبْرِ وَالكَوَاغِدِ، فَقَالَ: كُنْتُ آمُرُ إِنْسَانًا فيشْتَرِي لِي .
          وَقَالَ غُنْجَارُ في «تَارِيخِ بُخَارَى»: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ المُقْرِئُ؛ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ بَكْرُ بْنُ مُنِيرٍ(2) ، قَالَ: كان حُمِلَ إلى مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بِضَاعَةٌ أَنْفَذَهَا إِلَيْهِ أَبُو حَفْصٍ ، فَاجْتَمَعَ بَعْضُ التُّجَّارِ إِلَيْهِ / [بالعَشِيَّةِ](3) ، فَطَلَبُوهَا مِنْهُ بِرِبْحِ خَمْسَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، فَقَالَ لَهُمْ: انْصَرِفُوا اللَّيْلَةَ. فَجَاءَهُ مِنَ الغَدِ تُجَّارٌ آخَرُونَ، فَطَلَبُوا مِنْهُ تِلْكَ البِضَاعَةَ بِرِبْحِ عَشْرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، فَرَدَّهُمْ؛ وَقَالَ: إِنِّي نَوَيْتُ البَارِحَةَ أَنْ أَدْفَعَ إِلَيْهِمْ ما طَلَبُوا. يَعْنِي الَّذينَ طَلَبُوا أَوَّلَ مَرَّةٍ؛ وَدَفَعَهَا إِلَيْهِمْ؛ وَقَالَ: لا أُحِبُّ أَنْ أَنْقُضَ نِيَّتِي .
          وَقَالَ وَرَّاقُهُ : سَمِعْتُهُ يَقولُ: خَرَجْتُ إِلى آدَمَ بْنِ أبي إِيَاسٍ، فَتَأَخَّرَتْ نَفَقَتِي حَتَّى جَعَلْتُ أَتَنَاوَلُ حَشِيشَ الأَرْضِ، فَلَمَّا كان في اليَوْمِ الثَّالثِ أَتَانِي رَجُلٌ لا أَعْرِفُهُ، فَوَهَبَنِي عَشَرَةَ دَنَانِيرَ.
          وَقَالَ وَرَّاقُهُ : سَمِعْتُهُ يَقولُ: كُنْتُ أَسْتَغِلُّ في كُلِّ شَهْرٍ خَمْسَ مِئَةِ دِرْهَمٍ، فَأُنْفِقُهَا في الطَّلَبِ، وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى.
          وَقَالَ عَبدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّارِفيُّ : كُنْتُ عِنْدَ أبي عبد اللهِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ في مَنْزِلِهِ، فَجَاءَتْهُ جَارِيَتُهُ وَأَرَادَتْ دُخُولَ المَنْزِلِ، فَعَثَرَتْ(4) عَلَى مِـحْبَرَةٍ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ لَهَا: كَيْفَ تَمْشِينَ؟! قَالَتْ: إِذَا لَمْ يَكُنْ طَرِيقٌ كَيْفَ أَمْشِي؟! فَبَسَطَ يَدَيْهِ وَقَالَ: اذْهَبِي؛ فَقَدْ أَعْتَقْتُكِ. فَقِيلَ لَهُ: يَا أَبَا عبد اللهِ، / أَغْضَبَتْكَ الجَارِيَةُ. قَالَ: إِنْ كانتْ أَغْضَبَتْنِي فَقَدْ أَرْضَيْتُ نَفْسِي بِمَا فَعَلْتُ.
          وَقَالَ وَرَّاقُهُ : رَأَيْتُهُ اسْتَلْقَى وَنَحْنُ بِفَـِرَبْرٍَ في تَصْنِيفِ كِتَابِ التَّفْسِيرِ، وَكان أَتْعَبَ نَفْسَهُ في ذَلِكَ اليَوْمِ في التَّخْرِيجِ، فَقُلْتُ لَهُ: إِنِّي أَرَاكَ تَقُولُ: ما أَتَيْتُ شَيْئًا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَمَا الفَائِدَةُ في الاسْتِلْقَاءِ؟ قَالَ: أَتْعَبْتُ نَفْسِي اليَوْمَ، وَهَذَا ثَغْرٌ، خَشِيتُ أَنْ يَحْدُثَ حَدَثٌ مِنْ أَمْرِ العَدُوِّ، فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَسْتَرِيحَ وَآخُذَ أُهْبَةً، فَإِنْ غَــافَصَنَا العَدُوُّ كان فِيَّ حَرَاكٌ.
          قَالَ : وَكَانَ يَرْكَبُ إِلى الرَّمْيِ كَثِيرًا، فَمَا أَعْلَمُنِي رَأَيْتُهُ في طُولِ ما صَحِبْتُهُ أَخْطَأَ سَهْمُهُ الهَدَفَ إِلَّا مَرَّتَيْنِ، بَلْ كَانَ يُصِيبُ في كُلِّ ذَلِكَ وَلَا يُسْبَقُ.
          قَالَ : وَرَكِبْنَا يَوْمًا إِلى الرَّمْيِ وَنَحْنُ بِفَـِرَبْرٍَ، فَخَرَجْنَا إِلى الدَّرْبِ الَّذي يُؤَدِّي إِلى الفُرْضَةِ ، فَجَعَلْنَا نَرْمِي، وَأَصَابَ سَهْمُ أَبي عَبدِ اللهِ وَتَـِدَ القَنْطَرَةِ التِي على النَّهَـْرِ، فَانْشَقَّ الوَتَـِدُ، فَلَمَّا رَآهُ نَزَلَ عن دَابَّـــتِهِ، فَأَخْرَجَ السَّهْمَ مِنَ الوَتَـِدِ، وَتَرَكَ الرَّمْيَ، وَقَالَ لَنَا: ارْجِعُوا. فَرَجِعْنَا، فَقَالَ لِي: يَا أَبَا جَعْفَرٍ، لِي / إِلَيْكَ حَاجَةٌ. وَهُوَ يَتَنَفَّسُ الصُّعَدَاءَ، فَقُلْتُ: نَعَمْ. فَقَالَ: تَذْهَبُ إِلى صَاحِبِ القَنْطَرَةِ، فَتَقُولُ لَهُ: قَدْ أَخْلَلْنَا بِالوَتَـِدِ، فَنُحِبُّ أَنْ تَأْذَنَ لَنَا في إِقَامَةِ بَدَلِهِ، أَوْ تَأْخُذَ ثَمَنَهُ، أَوْ تَجْعَلَنَا في حِلٍّ مِمَّا كَانَ مِنَّا. وَكَانَ صَاحِبَ القَنْطَرَةِ حُمَيْدُ بْنُ الأَخْضَرِ، فَقَالَ لِي: أَبْلِغْ أَبَا عَبدِ اللهِ السَّلَامَ، وَقُلْ لَهُ: أَنْتَ في حِلٍّ مِمَّا كان مِنْكَ؛ فَإِنَّ جَمِيعَ مُـِلْكِي لَكَ الفِدَاءُ. فَأَبْلَغْتُهُ الرِّسَالةَ، فَتَهَلَّلَ وَجْهُهُ وَأَظْهَرَ سُرُورًا كَبِيرًا، وَقَرَأَ ذَلِكَ اليَوْمَ لِلْغُرَبَاءِ خَمْسَ مِئَةِ حَدِيثٍ، وَتَصَدَّقَ بِثَلَاثِ مِئَةِ دِرْهَمٍ.
          قَالَ : وَسَمِعْتُهُ يَقولُ لِأبي مَعْشَرٍ الضَّرِيرِ : اجْعَلْنِي في حِلٍّ يَا أَبَا مَعْشَرٍ. فَقَالَ: مِنْ أَيِّ شَيْءٍ؟ فَقَالَ: رَوَيْتُ حَدِيثًا يَوْمًا، فَنَظَرْتُ إِلَيْكَ وَقَدْ أُعْجِبْتَ بِهِ، وَأَنْتَ تُحَرِّكُ رَأْسَكَ وَيَدَكَ، فَتَبَسَّمْتُ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: أَنْتَ في حِلٍّ رَحِمَكَ اللهُ يَا أَبَا عبد اللهِ.
          قَالَ : وَسَمِعْتُهُ يَقولُ: دَعَوْتُ رَبِّي مَرَّتَيْنِ فَاسْتَجَابَ لِي، فَلَنْ أُحِبَّ أَنْ أَدْعُوَ بَعْدُ؛ فَلَعَلَّهُ تَنْقُـصُ حَسَنَاتِي.
          قَالَ : وَسَمِعْتُهُ يَقولُ: لا يَكُونُ لِي خَصْمٌ في الآخِرَةِ. فَقُلْتُ: إِنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَنْقِمُونَ عَلَيْكَ «التَّارِيخَ»؛ وَيقولونَ: فِيهِ اغْتِيَابُ النَّاسِ! فَقَالَ: إِنَّمَا رَوَيْنَا / ذَلِكَ رِوَايَةً، لَمْ نَقُلْهُ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِنَا؛ قَالَ النَّبِيُّ صلعم : «بِئْسَ أَخُو العَشِيرَةِ» .
          قَالَ : وَسَمِعْتُهُ يَقولُ: ما اغْتَبْتُ أَحَدًا قَطُّ مُنْذُ عَلِمْتُ أَنَّ الغِيبَةَ تَضُرُّ أَهْلَهَا.
          قُلْتُ : البُخَارِيُّ في كَلَامِهِ عن الرِّجَال في غَايَةِ التَّحَرِّي وَالتَّوَقِّي، وَمَنْ تَأَمَّلَ كَلَامَهُ في الجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ عَلِمَ وَرَعَهُ وَإِنْصَافَهُ؛ فَإِنَّ أَكْثَرَ مَا يَقولُ: مُنْكَرُ الحَدِيثِ، سَكَتُوا عَنْهُ ، فيه نَظَرٌ، تَرَكُوهُ، وَنَحْوَُ هَذَا، وَقَلَّ أَنْ يَقولَ: فُلَانٌ كَذَّابٌ، أَوْ: يَضَعُ الحَدِيثَ ، بَلْ إِذَا قَالَ ذَلِكَ عَزَاهُ إِلى غَيْرِهِ بِقَوْلِهِ: /
          كَذَّبَهُ فُلَانٌ، رَمَاهُ فُلَانٌ بِالكَذِبِ، حَتَّى إِنَّهُ قَالَ: مَنْ قُلْتُ فيهِ: في حَدِيثِهِ نَظَرٌ؛ فَهُوَ مُتَّهُمٌ ، وَمَنْ قُلْتُ فيهِ: مُنْكَرُ الحَدِيثِ؛ فَلَا تَحِلُّ الرِّوَايَةُ عَنْهُ . /
          أَخْبَرَنِي أَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ، عن الحَافِظِ أبي الحَجَّاجِ المِزِّيِّ: أَنَّ أَبَا الفَتْحِ الشَّيْبَانِيَّ أَخْبَرَهُمْ: أَخْبَرَنَا أَبُو اليُمْنِ الكِنْدِيُّ: أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ القَزَّازُ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ الحَافِظُ : أَخْبَرَنِي أَبُو الوَلِيدِ الدَّرْبَنْدِيُّ(5): أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ سُلَيْمَانَ الحَافِظُ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ المُقْرِئُ: سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ بَكْرَ بْنَ مُنِيرٍ يَقولُ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ يَقولُ: إِنِّي لأَرْجُو أَنْ أَلْقَى اللهَ وَلَا يُحَاسِبُنِي أَنِّي اغْتَبْتُ أَحَدًا.
          وَبِالسَّنَدِ إلى بَكْرٍ؛ قَالَ: كان مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ يُصَلِّي ذَاتَ يَوْمٍ، فَلَسَعَهُ الزُّنْبُورُ سَبْعَ عَشْرَةَ مَرَّةً، فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ قَالَ: انْظُرُوا إِيْش هَذَا الَّذي آذَانِي في صَلَاتِي؟ فَنَظَرُوا، فَإِذَا الزُّنْبُورُ قَدْ وَرَّمَهُ في سَبْعَةَ(6) عَشَرَ مَوْضِعًا، وَلَمْ يَقْطَعْ صَلَاتَهُ .
          قُلْتُ: وَرَوَاهَا وَرَّاقُهُ بِالمَعْنَى ، وَزَادَ: قَالَ: كُنْتُ في آيَةٍ، فَأَحْبَبْتُ أَنْ أُتِمَّهَا. /
          وَقَالَ وَرَّاقُهُ : كُنَّا بِفَـِرَبْرٍَ، وَكان أَبُو عَبدِ اللهِ يَبْنِي رِبَاطًا مِمَّا يَلِي بُخَارَى، فَاجْتَمَعَ بَشَرٌ كَثِيرٌ يُعِينُونَهُ على ذَلِكَ، وَكان يَنْقُلُ اللَّبِنَ، فَكُنْتُ أَقُولُ لهُ: يَا أَبَا عبدِ اللهِ! إِنَّكَ تُكْفَى ذَلِكَ. فيقول: هَذَا الَّذي يَنْفَعُنِي.
          قَالَ: وَكان ذَبَحَ لَهُمْ بَقَرَةً، فَلَمَّا أَدْرَكَتِ القُدُورُ دَعَا النَّاسَ إلى الطَّعَامِ، وَكان مَعَهُ مِئَةُ نَفْسٍ أَوْ أَكْثَرُ، وَلَمْ يَكُنْ عَلِمَ أَنَّهُ يَجْتَمِعُ ما اجْتَمَعَ، وَكُنَّا أَخْرَجْنَا مَعَهُ مِنْ فَـِرَبْرٍَ خُبْزًا بِثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ، وَكان الخُبْزُ إِذْ ذَاكَ خَمْسَةَ أَمْنَاءٍ بِدِرْهَمٍ، فَأَلْقَيْنَاهُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، فَأَكَلَ جَمِيعُ مَنْ حَضَرَ، وَفَضَلَتْ أَرْغِفَةٌ صَالحَةٌ.
          قَالَ : وَكان قَلِيلَ الأَكْلِ جِدًّا، كَثِيرَ الإِحْسَانِ إلى الطَّلَبَةِ، مُفْرِطَ الكَرَمِ.
          قُلْتُ: وَحَكَى أَبُو الحَسَنِ يُوسُفُ بْنُ أبي ذَرٍّ البُخَارِيُّ: أَنَّ البُخَارِيَّ مَرِضَ، فَعَرَضُوا مَاءَهُ على الأَطِبَّاءِ، فَقَالُوا: إِنَّ هَذَا المَاءَ يُشْبِهُ مَاءَ بَعْضِ أَسَاقِفَةِ النَّصَارَى؛ فَإِنَّهُمْ لا يَأْتَدِمُونَ. فَصَدَّقَهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، وَقَالَ: لَمْ أَئْتَدِمْ مُنْذُ أَرْبَعِينَ سَنَةً. فَسَأَلُوا عن عِلَاجِهِ، فَقَالُوا: عِلَاجُهُ الأُدْمُ . فَامْتَنَعَ حَتَّى أَلَحَّ عليه المَشَايِخُ وُأَهْلُ العِلْمِ إلى أَنْ أَجَابَهُمْ أَنْ يَأْكُلَ بَقِيَّةَ عُمُرِهِ في كُلِّ / يَوْمٍ سُكَّرَةً مَعَ رَغِيفٍ .
          وَقَالَ الحَاكِمُ: أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ خَالدٍ: حَدَّثَنَا مُسَبِّحُ بْنُ سَعِيدٍ؛ قَالَ: كان مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ البُخَارِيُّ إِذَا كان أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ يَجْتَمِعُ إِلَيْهِ أَصْحَابُهُ، فيصَلِّي بِهِمْ، ثُمَّ يَقْرَأُ في كُلِّ رَكْعَةٍ عِشْرِينَ آيَةً، وَكَذَلِكَ إلى أَنْ يَخْتِمَ القُرْآنَ، وَكان يَقْرَأُ في السَّحَرِ ما بَيْنَ النِّصْفِ إلى الثُّلُثِ مِنَ القُرْآنِ، فيخْتِمُ عِنْدَ السَّحَرِ في كُلِّ ثَلَاثِ لَيَالٍ، وَكان يَخْتِمُ بِالنَّهَارِ في كُلِّ يَوْمٍ خَتْمَةً، وَيَكُونُ خَتْمُهُ عِنْدَ الإِفْطَارِ كُلَّ لَيْلَةٍ، وَيَقولُ: عِنْدَ كُلِّ خَتْمَةٍ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ .
          وَقَالَ وَرَّاقُهُ : كان أَبُو عبد اللهِ إِذَا كُنْتُ مَعَهُ في سَفَرٍ يَجْمَعُنَا بَيْتٌ وَاحِدٌ إِلَّا في القَيْظِ أَحْيَانًا، فَكُنْتُ أَرَاهُ يَقُومُ في لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ خَمْسَ عَشْرَة مَرَّةً إلى عِشْرِينَ مَرَّةً، في كُلِّ ذَلِكَ يَأْخُذُ القَدَّاحَةَ، فَيُوْرِي نَارًا(7) بِيَدِهِ وَيُسْرِجُ، وَيُخْرِجُ أَحَادِيثَ فيُعَلِّمُ عَلَيْهَا، ثُمَّ يَضَعُ رَأْسَهُ، وَكان يُصَلِّي في وَقْتِ السَّحَرِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، يُوتِرُ مِنْهَا بِوَاحِدَةٍ، وَكان لا يُوقِظُنِي في كُلِّ ما يَقُومُ، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّكَ تَحْمِلُ على نَفْسِكَ كُلَّ هَذَا وَلَا تُوقِظُنِي!؟ قَالَ: أَنْتَ شَابٌّ، فَلَا أُحِبُّ أَنْ أُفْسِدَ عَلَيْكَ نَوْمَكَ. /
          وَقَالَ الحَافِظُ أَبُو الفَضْلِ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ السُّلَيْمَانِيُّ: سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ مَنْصُورٍ يَقولُ: سَمِعْتُ أَبِي يَقولُ: كُنَّا في مَجْلِسِ أَبي عَبدِ اللهِ البُخَارِيِّ، فَرَفَعَ إِنْسَانٌ مِنْ لِحْيَتِهِ قَذَاةً(8)، فَطَرَحَهَا إلى الأَرْضِ. قَالَ: فَرَأَيْتُ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ يَنْظُرُ إِلَيْهَا وَإلى النَّاسِ، فَلَمَّا غَفَلَ النَّاسُ رَأَيْتُهُ مَدَّ يَدَهُ، فَرَفَعَ القَذَاةَ مِنَ الأَرْضِ، فَأَدْخَلَهَا في كُمِّهِ، فَلَمَّا خَرَجَ مِنَ المَسْجِدِ رَأَيْتُهُ أَخْرَجَهَا فَطَرَحَهَا عَلَى الأَرْضِ .
          قُلْتُ: وَهذَا في نِهَايَة الوَرَعِ وَالاحْتِيَاطِ، فَكَأَنَّهُ تَوَرَّعَ أَنْ تُنَزَّهَ لِحْيَتُهُ مِنْ شَيْءٍ وَلَا يُنَزَّهَ عَنْهُ المَسْجِدُ.
          وَقَالَ وَرَّاقُهُ : كَانَ مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ شَعَـْرِ النَّبِيِّ صلعم في مَلْبُوسِهِ، أَظُنُّ في خُفِّهِ.
          قَالَ : وَسَمِعْتُهُ يَقولُ _وَقَدْ سُئِلَ عَن خَبَرِ حَدِيثٍ_: يَا أَبَا فُلَانٍ! تُرَانِي / أُدَلِّسُ؛ وَقَدْ تَرَكْتُ عَشْرَةَ آلَافِ حَدِيثٍ لِرَجُلٍ لِي فيه نَظَرٌ ؟! / ....... /
          وَقَالَ الحَسَــنُ بْنُ مُحَمَّدٍ السَّمَرْقَنْدِيُّ : كان مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ مَخْصُوصًا بِثَلَاثِ خِصَالٍ:
          كَانَ قَلِيلَ الكَلَامِ، وَكَانَ لَا يَطْمَعُ فيمَا عِنْدَ النَّاسِ، وَكَانَ لَا يَشْتَغِلُ بِأُمُورِ النَّاسِ.
          قُلْتُ: وَكَانَ صَاحِبَ فُنُونٍ وَمَعْرِفَةٍ بِاللُّغَةِ والعَرَبِيَّةِ وَالتَّصْرِيفِ، وَمِنْ /
          شِعْرِهِ :
اغْتَنِمْ في الفَرَاغِ فَضْلَ رُكُوعٍ                     فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مَوْتُكَ بَغْتَهْ
كَمْ صَحِيحٍ رَأَيْتَ مِنْ غَيْرِ سُقْمٍ                     ذَهَبَتْ نَفْسُهُ الصَّحِيحَةُ فَلْتَهْ
          رَوَاهَا الحَاكِم في «تَارِيخِهِ» .
          وَلَمَّا بَلَغَهُ مَوْتُ عَبدِ اللهِ بنِ عَبدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيِّ أَطْرَقَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ هُوَ يَبْكِي، وَأَنْشَدَ :
إِنْ عِشْتَ تُفْجَعْ بِالأَحِبَّةِ كُلِّهِمْ                     وَبَقَاءُ نَفْسِكَ لا أَبَا لَكَ أَفْجَعُ /


[1] في الأصل: (منه) بالإفراد، والتصويب من تغليق التعليق ومقدمة فتح الباري: ص 671.
[2] تحرَّفت في الأَصْلِ إلى: (نصر).
[3] بياضٌ في الأصل بقدر كلمة، رَمَّـمناه من مصادر الرواية.
[4] تصحَّفت في الأصل إلى: (فضربت)، والتصويب من مصادر الرواية موافقٌ لما في تغليق التعليق: 5/395، ومقدمة فتح الباري: ص 672.
[5] تصحَّفت في الأَصْلِ إلى: (الدَرْدنْدي)، والتصويب من مصدر الرواية موافقٌ لما في تغليق التعليق: 5/397، ومقدمة فتح الباري: ص 672- 673، وهو الحافظ الجَوَّال الحَسَن بن محمَّد بن علي البَلْخيُّ، توفي سنةَ ستٍّ وخمسين وأربعِ مئةٍ، ينظر لترجمته سير أعلام النبلاء: 18/298.
[6] تصحَّفت في الأصل إلى: (ستة)، والمثبَت من مصادر الرواية موافقٌ لِما في تغليق التعليق: 5/398، ومقدمة فتح الباري: ص 673، وسِياقِ القصة.
[7] تصحَّفت في الأصل إلى: (نوراً)، والمثبت من مصادر الرواية موافقٌ لما في تغليق التعليق: 5/399، ومقدمة فتح الباري: ص 673.
[8] تصحَّفت في الأصل إلى: (قذر)، والمثبَت من مصادر الرواية موافقٌ لما في تغليق التعليق: 5/399، ومقدمة فتح الباري: ص 673.