حياة البخاري

رد فرية على البخاري

          ردُّ فِريةٍ على البخاري
          جاء في (شرح المنار) من كتب أصول الحنفية، المسمَّى (كشف الأسرار) ما مثاله في آخر خطبة الشرح: المُحَدِّثُ غير الفقيه يغلط كثيرًا، فقد روي عن محمَّد بن إسماعيل صاحب الصحيح أنَّه استُفتي في صبيين شربا من لبن شاةٍ، فأفتى بثبوت الحُرْمة بينهما، وأُخرج به من بخارى، إذ الأُختية تتبع الأُمِّيَّة، والبهيمة لا تصلح أُمًّا للآدميِّ. انتهى كلامه.
          أقولُ: أمَّا حاجة المُحَدِّثُ في الفقه فمُسلَّمةٌ وإلَّا فما يغنيه حفظه ولا فِقْهَ عنده، ولذا لم نجد مُحَدِّثًا غير فقيه بالاستقراء، فإنَّ أرباب دواوين السُّنَّةِ كُلُّهم فقهاء مجتهدون، دلَّ على ذلك تبويبهم الأحكام الفقهية في تراجم مؤلَّفاتهم، وعنونتهم لِمَا يُستنبط من الأحاديث في طليعة الأبواب والتراجم، ممَّا لا يَقْدِمُ عليه إلَّا مجتهد، مُستَدلٌّ، فقيه، مستنبط، وهكذا أرباب الموطآت، وأما أرباب المَسَانيد فاجتهادهم وفقههم دوَّنه أصحابُهم وغيرُ أصحابهم، فَقَلَّ مُحَدِّثٌ صاحب مسند إلَّا وفتاويه مأثورة محفوظة، ولا يمكن لأحدٍ أن يأتينا بمُحَدِّثٍ طارت شهرته في الآفاق وعرفه التاريخ وهو ليس بفقيه، كيف والمُحَدِّث فقيه وزيادة، لأنَّه فروعي أصولي، مستنبط ومستدل، ذو رأي وحجَّة، وهذا معروف في مثل طبقة أصحاب السُّنن فأحرى بإمام المُحَدِّثين كالبخاري الذي طار نبأ فقهه في الآفاق، وطأطأت لدِقَّة استنباطِهِ الأعناق، حتى أصبحت تراجمه في دقتها محار كبار العلماء، وموقف محور النُّبلاء، كما ذكره شيوخ العلم الذين خدموا صحيحه بالشرح والتعليق، وفلاسفة الإسلام أمثال ابن خلدون وأضرابه يعلم ذلك من طالع مثل (مقدمة فتح الباري) للحافظ ابن حجر وهي مجموعة من مؤلفات شتى فيما يتعلق بالصحيح، رجالًا، وأسانيد، وتعاليق، وتراجم، ومناسبات، وترتيبًا، وفقهًا، وقد أثرنا عنها في هذه الورقات شذرات.
          من عَلِمَ هذا أو شدا طرفًا مما نوَّه به مَن خَدَمَ هذا الصحيح لا يملك نفسه من الضحك والاستغراب إذا قرأ ما ذكره النَّسَفيُّ من حكاية هذه الفِرْيَةِ على هذا الإمام، وما كان بنا من حاجه للعناية بردِّها لأنَّ الباطل بنفسه أحقر من أن يُعَرَّف بطلانه / لولا خشية أن يستروح إليها بعض المُغَفَّلين أو المبتدئين، الذين لا يميَّزون بين الغثِّ والسَّمين، ونحن لا ندري ما الحامل لحكاية النَّسَفي لها، مع أنَّه حكاها بصيغة (رُوِي) وهي علامة التضعيف، والتمريض، هذا أولًا.
          وثانيًا: لم يَعْزُها لمن رواها حتَّى يُعلم مصدرها، ومعلوم ما للعزو من الاعتبار، إذ على المُسْنِدِ والمُخَرِّج قبول المروي أو ردَّه، وإذا كان الحديث المجهول رواته ومخرجه لا يقام له وزن، فأنَّى بالأقاصيص والحكايات.
          ثالثًا: إنَّ (صحيح البخاري) مفخر علماء المذاهب على الإطلاق، لا سيما إذا أخرج فيه ما وافق مذهبهم، ولم يبق فاضلٌ من علماء المذاهب إلَّا وعُنى به، ما بين شارح له وقارئ، وساع لتلقيِّه، وحريص على سماعه، ومفتخر بالإجازة به وبقرب السَّند إلى جامعه، حتَّى إنَّ أرباب الأثبات والمسلسلات، نوَّعوا الاتصال بجامعه بأسانيد غريبة ما بين شاميًّ وحجازيٍّ، ومصريٍّ وعراقيٍّ، وهنديٍّ ومغربيٍّ، ورووه مسلسلًا بالشافعية، والحنفية والمالكية، والحنابلة، ورأوا ذلك مِن التَّحدث بالنِّعمة، ولا يُحصى من خدمه بالشرح من أفاضل الحنفية كما يراه من راجع (كشف الظُّنون)، وهذه مَزِيَّة لم ينلها غيره من كل ما أُلِّف وصنَّف، حتى ولا الأئمة المتبوعون عليهم الرَّحمة والرِّضوان، إذ لم تخدم مؤلَّفاتهم كما خدم (صحيحه) من علماء المذاهب كافة.
          رابعًا: إنَّ مثل هذه الحكاية كان يمكن أنْ تُصدَّق لو لم يكن للإمام البخاريِّ من الآثار ما يكذبها بادئ [ذي] بدء، لأنَّ أثر الإنسان هو أكبر شاهد على علمه ومقدار ما أوتيه من العرفان، ومتى عهد أنْ يصدق دعوى جهل عالم أو ضلاله، وآثاره تتلى وتنشر، وكُلُّها جواهر علم، وكُنوز هدى، اللهمَّ إذا عميت البصائر {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46] وقد سمعتُ مرَّة مَن يرمي إمامًا مِن الأئمة المتأخرين بزَيغ في العقيدة مع أنَّ مؤلفاته في التوحيد والدِّين الخالص لم يبق دار إلَّا دخلتها، ولا دماغ كبير إلَّا وآوت إليه، فأَسِفْتُ وقلت: ما أشبه هذا بما حكاه اللهُ تعالى عن المشركين في نبزهم المؤمنين بقوله: {وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاء لَضَالُّونَ} [المطففين:32] ونبزُهم رسوله نوحًا ◙ بقولهم: {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ} [الأعراف:60] في آيات كثيرة.
          خامسًا: دعوى أنَّ البخاريَّ أُخرج من بخارى بسببها لم يذكرها أحدٌ مِن المؤرخين ولا مِن القُصَّاص الإخباريين، مع أنَّ مَن ترجم البخاري من أحرار الأفكار ونَقَدَة الرجال لم يغادروا نبأً له إلَّا وسطروه، ولا أمرًا من ماجرياته(1) إلَّا ودوَّنوه، وقد علمتَ ما حكوه من ماجرياته مع الذُّهْليِّ وأمير بلده في مسألة الكلام /
          سادسًا: مَن سمع هذه القصة وأعار نظره ما أورده البخاريُّ في كتاب النِّكاح من أبواب الرّضَاع من فقه السُّنَّة والأحكام يَعْجَبُ غاية العجب من كذبٍ لا يُعْقَل، وافتراءٍ لا يُقْبَل؛ لأنَّ من أجاب في الرَّضاع بما لم تجب به الصِّبْيَان ولا الأطفال، فأنَّى له أن يُزاحم الأئمة فيما يستنبط من أحكامه وفقهه ووجوه دلائل الأحاديث المأثورة فيه.
          سابعًا: لا يشكُّ النَّبيه بأنَّ الدَّافع لمُخْتَلِقِ هذه الحكاية ومفتريها هو الحسد على ما آتى اللهُ البخاريَّ من رِفعَة القَدْر، وسُمو الذكر، ونباهة صحيحه في السُّنَّة على كل مسند وكتاب، حتَّى صار مرويه فصل الخِطَاب، والفيصل بين ما تطمئن به النَّفس من الحديث وما فيه ارتياب، وأصبح ما لم يخرِّجه في صحيحه موضع الرِّيبة في تصحيحه، إذ لولا عِلَّة فيه لما تركه في الأصول، أو التعليقات، كما أشار النَّووي في (شرح مقدمة مسلم)، والسَّخاوي في (شرح الألفية).
          ثامنًا: يقول بعضهم: إنَّ مفتري هذه الحكاية أراد أنْ يثأر لأبي حنيفة من البخاريِّ ♦، إذ يقول عنه في (صحيحه): ((وقال بعض النَّاس)). ونحن نرى أنَّ البخاريَّ لم يُعَبِّر بهذا تنقيصًا من قَدْر الإمام أبي حنيفة، ولا حطًا من كرامته رحمه الله ورضي الله عنه، وإنَّما دعا البخاريَّ إلى هذا الأدبُ مع الإمام، واحترامُ مقامه لتذهب النَّفس في الإبهام إلى غير معين، وللتحاشي من صريح التسمية وتعقيب الردِّ، فآثر الإبهامَ لهذا الأدب والتكريم، فأحرى بمحبي الإمام أن يشكروا البخاريَّ على صنيعه ولا يَكْفروهُ، وقد يكون الإمام أبو حنيفة غير منفرد في تلك الأقوال التي ردَّها البخاريُّ، فيصدق قول البخاريِّ: ((قال بعض النَّاس)) بالإمام وبكلِّ مَن وافقه، سواء تقدَّم عليه، أو تأخر عنه، فلِمَ يحصرون ذلك بالإمام.
          وهكذا الواجب في أدب مناقشة أيِّ إمام أنْ يسلك مسلك البخاري في الإبهام؛ حفظًا للمهابة والاحترام، أين هذا من قول النَّسَفيِّ في آخر (المنار): ورابعها: جهل مَن خالف في اجتهاده الكتاب والسُّنَّة، وقول شارحه: كجهل الشافعيِّ، وجهل داود الظَّاهري، فتأمل الفرق!
          تاسعًا: تُشبه فرية هذه الحكاية على البخاري، بما اّْفتروه أيضًا على أبي حنيفة ☺ في حكايته أنَّ المنصور إنَّما حبسه على القضاء لأنَّه أراده عليه فامتنع، مع أنَّه أعقل من أن يحبس الإمام حبس الأبد على أمرٍ لم تمض سُنَّةٌ بالإكراه فيه، من إمام جائر ولا عادل، وإنَّما مختلقو هذه القصة أرادوا التمويه على المغفَّلين، ومَن ليس له إلمام بالحقائق، وقد أبان السَّبب الذي حُبس لأجله أبو حنيفة ☼حبس / الأبد العَلَّامة الزَّمَخْشَريُّ في تفسير آية: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيْمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنٍْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة:124]
          قال الزَّمَخْشَريُّ _وهو من كبار الحنفية_: وكان أبو حنيفة ☼يفتي سِرًّا بوجوب نُصرة زيد بن علي رضوان الله عليهما، وحمل المال إليه، والخروج معه على اللِّص المُتغلب المُسمَّى بالإمام والخليفة، كالدَّوَانيقي وأشباهه.
          وقالت له امرأة: أشرت على ابني بالخروج مع إبراهيم ومحمد ابني عبد الله بن الحسن حتَّى قتل، فقال: ليتني مكان ابنك. وكان يقول في المنصور وأشياعه: لو أرادوا بناء مسجد، وأرادوني على عدِّ آجُرِّهِ لما فعلت. انتهى كلام الزّمَخْشري.
          وبه يُعْلَمُ أنَّ حبسَ الإمام ☼إنَّما كان لأمرٍ سياسي لا تَغْتَفِرُ مثله السَّلاطين وهو الفتوى بالخروج عليهم، وموآزرة الخارجين عليهم، لا لكونه اّْمتنع عن قبول القضاء، وإنَّما حكوا ذلك تمويهًا وتكتمًا، كيما يُقال: إنَّ الإمام يتشيَّعُ لزيد بن علي، ويرى رأي الشيعة في ذلك، والحق لا يخفى مهما كُتم أو مُوِّه أمره؛ لأنَّ له الظهور والغلبة بطبعه، كما أنَّ الباطل والافتراء لا يلبث أن يضمحلَّ، لأنَّ زهوقه ذاتي له، وما بالذات لا يتخلف.


[1] الماجريات: الأحداث وما جرى له. (ل)