إضاءة الدراري شرح صحيح البخاري

كتاب الإيمان

           (♫)
تيمناً وزيادة اعتناء بالتمسك بالسنة كأكثر كتب هذا الجامع كأنه نزل كل واحد منها منزلة تصنيف مستقل.
          قال في ((الفتح)): واختلفت الروايات في تقديم البسملة على كتاب وتأخيرها ولكل وجه والأول ظاهر، ووجه الثاني وعليه أكثر الروايات أنه جعل الترجمة قائمة مقام تسمية السورة والأحاديث المذكورة بعد البسملة كالآيات مستفتحة بالبسملة انتهى.
          ░░2▒▒ (كتاب الإيمان) أي: هذا كتاب الإيمان فهو خبر لمبتدأ محذوف، ويجوز العكس، ويجوز نصبه على إضمار فعل فإن أريد التعداد بني على السكون، وحرك بالكسر لالتقاء الساكنين، قال بعض المتأخرين(1): ويجوز فيه الفتح على النقل / والضم على الحذف انتهى.
          وفيه تكلف لا يخفى؛ لأن الأول لا يصح إلا إذا قطع المتكلم همزة الوصل بنية الوقف، وهذا لا ينقاس والأول لا يدرى ما المراد به، فإن أراد بالحذف حذف المبتدأ أو الخبر فهو رفع لا ضم، وإن كان قد أطلق الضم على الرفع فهو عين ما تقدم فليتأمل، وكتاب مصدر كالكتب، والكتابة بمعنى اسم المفعول كالحساب بمعنى المحسوب، وهذه المادة دالة على الضم والجمع، والضم فيه بالنسبة إلى المكتوب من الحروف والكلمات حقيقة.
          وأما بالنسبة إلى المعاني فمجاز ومنه الكتيبة وهي الجيش لاجتماع الفرسان فيها، وكتبت القربة إذا حرزتها، وكتبت البغلة إذا جمعت بين شفرتيها بحلقة أو سير، وكتبت الناقة تكتيباً إذا صررتها، ثم إن المختار في مسمى المؤلفات والكتب والأبواب والفصول من احتمالات سبعة، ذكرها السيد الشريف أنه اللفظ باعتبار دلالته على المعنى، والاحتمالات هي النقوش فقط، الألفاظ فقط، المعاني فقط، المركب من اثنين منها، المركب في مجموع الثلاثة، وقد جرت عادة المؤلفين بتمييز الأجناس بالكتب والأنواع بالأبواب نظراً إلى أن الكتاب أوسع دائرة من الباب في عرفهم، فناسب تصدير الأجناس بالكتب والأنواع بالأبواب.
          وقال الكرماني: ميز الأجناس بالكتب والأنواع بالأبواب إشعاراً بما به الاشتراك وما به الامتياز بين الأحاديث انتهى.
          وفي ((عمدة القاري)) أخذاً من ((الكرماني)): ثم إن البخاري شرع يذكر الكتب على طريقة أبواب الفقه، وقدم كتاب الإيمان؛ لأنه ملاك الأمر كله إذ الباقي مبني عليه مشروط به، وبه النجاة في الدارين، ثم أعقبه بكتاب العلم؛ لأن مدار الكتب التي تأتي بعده كلها عليه، وبه تعلم وتميز وتفصل، وإنما أخره عن الإيمان لأن الإيمان أول واجب على المكلف، أو لأنه أفضل الأمور على الإطلاق وأشرفها كيف لا وهو مبدأ كل خير علماً وعملاً ومنشأً كل كمال دق أو جل.
          فإن قلت: فلم قدم باب الوحي؟
          قلت: قد ذكرت لك أن باب الوحي كالمقدمة في أول الجامع، ومن شأنها أن تكون أمام المقصود، وأيضاً فالإيمان وجميع ما يتعلق به مبني عليه، وشأن الموقوف عليه التقدم، أو لأن الوحي أول خبر نزل من السماء إلى هذه الأمة، ثم ذكر بعد ذلك كتاب الصلاة؛ لأنها تالية الإيمان وثانيته في الكتاب والسنة، أما الكتاب فقوله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ} [البقرة:3].
          وأما السنة فقوله ◙: ((بني الإسلام على خمس)) الحديث، ولأنها عماد الدين والحاجة إليها متأتية لتكررها في كل يوم خمس مرات، ثم أعقبها بالزكاة؛ لأنها ثالثة الإيمان وثانية الصلاة فيهما، ولاعتناء الشارع بها لذكرها أكثر من الصوم والحج في الكتاب والسنة، ثم أعقبها بالحج؛ لأن العبادة إما بدنية محضة، أو مالية محضة، أو مركبة منهما، فرتبها على هذا الترتيب والمفرد مقدم على المركب طبعاً، فقدمه أيضاً وضعاً ليوافق الوضع الطبع، وأما تقدم الصلاة على الزكاة فلما ذكرنا ولأن الحج، ورد فيه تغليظات كثيرة بخلاف الصوم، ولعدم سقوطه بالبدل لوجوب الإتيان به إما مباشرة أو استنابة بخلاف الصوم.
          ثم أعقب الحج بالصوم لكونه مذكوراً في الحديث المشهور مع الأربعة المذكورة، وفي وضع الفقهاء الصوم مقدم على الحج نظر إلى كثرة دورانه بالنسبة إلى الحج، وفي بعض النسخ يوجد كتاب الصوم مقدماً على كتاب الحج كأوضاع الفقهاء، ثم إنه توج كل منهما بالكتاب، ثم قسم الكتاب إلى الأبواب؛ لأن كل كتاب منها تحته أنواع، فالعادة أن يذكر كل نوع بباب، وربما يفصل كل باب بفصول كما في بعض الكتب الفقهية، والكتب تجمع الأبواب؛ لأنه من الكتب وهو الجمع والباب / هو النوع، وأصل موضوعه المدخل ثم استعمل في المعاني مجازاً انتهى.
          والإيمان أفعال من الأمن يقال أمنته، ثم يقال: أمنه إذا صدقه، وحقيقته أمنه التكذيب والمخالفة، وأما تعديته بالباء فلتضمينه معنى أقر وأعترف كما في قوله تعالى: {يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة:3].
          قال ابن كمال باشا: هذا ما ذكره الزمخشري في ((الكشاف))، ويفهم من ظاهره أن الإيمان بمعنى التصديق مجاز لغوي، والحق أنه حقيقة نص عليه البيضاوي حيث قال: والإيمان في اللغة عبارة عن التصديق مأخوذ من الأمن، وبه يشعر كلام الزمخشري في((الأساس))، وقصده في ((الكشاف)) إلى زيادة التحقيق والتدقيق في الوضع واللغة على ما هو دأبه يعني أن الأمن متعد إلى مفعول، فإذا نقل إلى باب الأفعال صار متعدياً إلى مفعولين تقول: أمنت زيداً عمراً بمعنى جعلته آمناً منه، ثم نقل إلى معنى التصديق، ووضع له لغة ثم إنك إذا صدقت زيداً فقد اعترفت به، فعدي بالباء على تضمين معنى الاعتراف، وقد يستعمل باللام كما في قوله تعالى: {وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا} [يوسف:17] وهو في عرف الشرع عبارة عن ثلاثة أمور التصديق، والتسليم، والاعتراف، والكفر عدمها كلاً أو بعضاً انتهى.
          وقال التوربشتي: الإيمان يرد على صيغتين:
          إحداهما: الإيمان بالله، والأخرى: الإيمان لله.
          والاسمان وإن اتفقا في اللفظ فإن افتراق الصلتين يدل على اختلاف المعنيين قال تعالى: {يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} [التوبة:61] فلا يمكن أن يقال: اللام في قوله: {لِلْمُؤْمِنِينَ} بمعنى الياء، وكذلك في قوله: {لَن نُّؤْمِنَ لَكَ} [الإسراء:90]، وفي قوله: {وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ} [آل عمران:73] كل ذلك يدل على الموافقة، وإظهار الطاعة والتسليم للأمر.
          فالإيمان بالله هو التصديق بإثباته على النعت الذي يليق بكبريائه، والإيمان لله هو الخضوع له، والقبول عنه، والاتباع لما يأمر، والانتهاء عما ينهى، والإيمان بالنبي تصديق بإثباته، واعتراف بنبوته، والإيمان له الاتباع والموافقة له فيما يقول ويأمر، وينهى ويحكم به، ومن الدليل على هذا القول أن اسم الإسلام يقع موقع الإيمان لله، ولا يقع موقع الإيمان بالله، فلو قلت: آمنت بالله مكان أسلمت لله، أو قلت: أسلمت بالله لم يستقم انتهى.
          قال ابن كمال باشا: وبهذا تبين أن من قال الإيمان في اللغة عبارة عن التصديق قال الله تعالى: {وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا} [يوسف:17] أي: بمصدق لنا لم يصب انتهى؛ أي: لأنه إذا عدي باللام كان بمعنى الاتباع والموافقة، فمعنى الآية على هذا وما أنت بموافق لنا على دعوانا فتأمله.
          وفي ((شرح المشكاة)) للمحقق منلا علي القاري: اختلف العلماء في معنى الإيمان على أقوال أولها وعليه الأكثرون والأشعري، والمحققون أنه مجرد تصديق النبي صلعم فيما علم مجيئه به بالضرورة تفصيلاً في الأمور التفصيلية، وإجمالاً في الإجمالية، تصديقاً جاء بها، ولو لغير دليل حتى يدخل إيمان المقلد فهو صحيح على الأصح، وما نقل عن الأشعري في عدم صحته رد بأنه كذب عليه.
          والحاصل: أن من اعتقد أركان الدين من التوحيد والنبوة ونحو الصلاة فإن جوز ورود شبهة تفسد اعتقاده فهو كافر، وإن لم يجوز ذلك فهو مؤمن لكنه فاسق بترك النظر، وهذا مذهب الأئمة الأربعة والأكثرين؛ لأنه صلعم قبل الإيمان من غير تفحص عن الأدلة العقلية، كذا ذكره ابن حجر(2) ، لكن في كونه فاسقاً بترك النظر نظر ظاهر فتدبر، ثم فهم من قيد مجرد التصديق / أنه لا يعتبر معه أعمال الجوارح، ومن الضرورة أن ما ليس كذلك ككونه تعالى عالماً بذاته، أو بالعلم الذي هو صفة زائدة على الذات، أو مرئياً لا يكفر منكره إجماعاً، ومن الجزم بأن التصديق الظني لا يكفي في حصول مسمى الإيمان.
          وثانيها: أنه عمل القلب واللسان معاً فقيل: الإقرار شرط لإجراء الأحكام لا لصحة الإيمان فيما بين العبد وربه.
          قال حافظ الدين النسفي: وهذا هو المروي عن أبي حنيفة، وإليه ذهب أبو منصور الماتريدي والأشعري في أصح الروايتين عنه، وقيل: هو ركن، لكنه غير أصلي بل زائد، ومن ثم يسقط عند الإكراه والعجز، ولهذا من صدق ومات فجأة على الفور، فإنه مؤمن إجماعاً.
          قال بعضهم:
          والأول مذهب المتكلمين.
          والثاني مذهب الفقهاء والحق أنه ركن عند المطالبة وشرط لإجراء الأحكام عند عدمها، ويدل عليه قوله تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56] الآية، حيث أجمع المفسرون على أنها نزلت في أبي طالب والله أعلم بالطالب، وبهذا يلتئم القولان والخلافان لفظيان، وأما ما نقل عن الغزالي من أن الامتناع عن النطق كالمعاصي التي تجامع الإيمان فهو بظاهره خلاف الإجماع فيحمل على الامتناع عند عدم المطالبة، غاية ما في الباب أنه جعل الإقرار من الواجبات لا شرطاً ولا شطراً.
          وثالثها أنه فعل القلب واللسان مع سائر الأركان.
          ونقل عن أصحاب الحديث، ومالك، والشافعي، وأحمد، والأوزاعي، وعن المعتزلة والخوارج لكن المعتزلة على أن صاحب الكبيرة بين الإيمان والكفر بمعنى أنه لا يقال له مؤمن ولا كافر، بل يقال له: فاسق مخلد في النار، والخوارج على أنه كافر، وأهل السنة على أنه مؤمن فاسق داخل تحت المشيئة؛ لقوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} [النساء:48].
          ولا تظهر الفائدة بين قول أصحاب الحديث وبين سائر أهل السنة، لأن امتثال الأوامر واجتناب الزاوجر من كمال الإيمان اتفاقاً، لا من ماهيته، فالنزاع لفظي لا على حقيقته، وكذلك اختلافهم في نقصان الإيمان وزيادته، وكذا اقتران الإيمان بالمشيئة، وكذلك الاختلاف في أن الإيمان مخلوق أو غير مخلوق، وكذا التفصيل بين الملك والبشر، ومحل بسط هذا المرام كتب الكلام انتهى.
          وقال العلامة التفتازاني: في شرحه لعقائد ما نصه النسفي عند قوله وهو؛ أي: الإيمان التصديق والإقرار باللسان إلا أن التصديق ركن لا يحتمل السقوط أصلاً، والإقرار قد يحتمله كما في حالة الإكراه، ثم قال: فإن قلت: قد لا يبقى التصديق كما في حالة النوم والغفلة، أجيب بأن التصديق باقي في القلب، والذهول إنما هو عن حصوله انتهى.


[1] في هامش المخطوط: هو الشيخ علاء الدين في شرحه لملتقى الأبحر.
[2] في هامش المخطوط: مراده ابن حجر المكي.