إضاءة الدراري شرح صحيح البخاري

المقدمة

          ♫
          الحمد لله الذي فتح خزائن المعاني بمفاتيح السنة النبوية، وكشف عن وجه مخدراتها قناع الاشتباه بمصابيح إشراق الفيوضات الإلهية، ورفع لأهل الحديث في القديم والحديث قدراً، ونضر وجوههم بدعاء خير البرية، وشرح لهم باقتباس مشكاة أنواره صدراً، ونصب في كل عصر لحفظ الشريعة المطهرة من العلماء أعلاماً، وأعلى مراتبهم بقوله جل شأنه: {يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11] تنويهاً بشرفهم وإعلاماً.
          أحمده أن ملأ عيون بصائرنا بنورها اللامع، وأنعم بجواهر أحاديثها منا أصداف المسامع، وجمع لنا ما روته الثقات الأثبات بالتحرير والتنقيح، وصح خَبَراً وخُبْراً فقل ما شئت في ((الجامع الصحيح)).
          وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة ينجلي بصبح يقينها كل مظلم، وتتلألأ أنوارها بالأدلة القاطعة التي لا يشك في صحيحها مسلم، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله خاتم الرسل، الهادي إلى أقوم السبل، الذي أوتي جوامع الكلم فرفع منارها، وجاء بملة حنيفيَّةٍ أعلى الله على سائر الملل مِقدارها، فصرفَ الوجوه عمَّا كانت عليه من القِيل المردودة، وأدخل الأعناق في ربقةٍ من الدين لم تكن لها معهودة، وأسْنِد عن سيرته الشريفة كل حديث صحيح وحسن، طالما نفت النقاد في ضبطه عن أجفانها الوسن، فكرعت الأفهام من مناهل سنَّته الصافية في أعذب مشرع، وجرت الأقلامُ من الصدر الأول إلى الآن تكتب عنه ما تأصَّل وما تفرَّع، وكلما أحصوه من ذلك فهو قطرة من سحاب قطْره، بل نقطة من عُباب بحره، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين اقتفوا آثاره واتبعوها، وسمعوا مقالته فوعوها فأدوها كما سمعوها صلاة على أيدي الإخلاص إلى حضرات القبول مرفوعة، عائدة من فضل الله تعالى بصلات غير مقطوعة ولا ممنوعة.
          وسلم عليه وعليهم أجمعين تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
          أما بعد:
          فيقول فقير رحمة ربه، وأسير وصمة ذنبه، غبار أقدام العلماء، والمستمد بافتقار عبوديته من ذي الطول والنعماء أحمد بن علي العثماني الشهير بالمنيني غفر الله ذنوبه، وملأ بزلال الرحمة ذنوبه:
          إنني لما قلدت وظيفة إقراء ((صحيح الإمام البخاري)) في الجامع الأموي تحت قبة النسر بدمشق الشام صانها الله تعالى عن حوادث الليالي وطوارق الأيام، من طرف علَّامة الزمان وخليفة أبي حنيفة النعمان، صدر العلماء الأعلام، وحسنة الليالي والأيام، صفوة آل بيت النبوة، والفرع الباسق من دوحة السيادة والفتوة، من خطت في صحائف الدهر له غر المآثر، وسجدت عند تلاوة آي مفاخره من الأكف الخناصر، وحاز من شرف المناقب والمآثر ما يقول كل واقف عليه: كم ترك الأول للآخر، شيخ الإسلام، وبركة الأنام، مولانا السيد مصطفى أفندي ابن المرحوم العلامة السيد فيض الله أفندي مفتي الدولة العلية العثمانية سابقاً. أمده الله بمدده، وبارك في أوقاته ومُدده، فإنه سلمه الله تعالى أحيى مآثر والده بدمشق الشام، وجدَّدها وسطَّرها على صحائف الأيام وخلَّدها.
          التمس مني بعض الكَمَلة من أرباب القلوب / والواردات الإلهية من علام الغيوب أن أقيِّد بالأرقام ما يحصل من التقرير بالفيض والإلهام، وما تنتجه المذاكرة مع من يحضرني من الفضلاء الكرام، فاعتذرت إليه بأني لست من فرسان هذا الميدان، وليس لي بالوفاء بما التمسه مني يدان، وأنى لمثلي مزجي البضاعة معدود من أرباب التقصير والإضاعة التصدي لهذا الأمر الخطير، الذي تقاعس عنه الجمَّاء الغفير، كيف لا وقد وقع عن بعض أهل التحقيق التصريح في شأن هذا ((الجامع الصحيح)) بأن أحداً لم يستصبح سراجه، ولم يستوضح سبيله ولا منهاجه، بل هو درة لم تثقب، ومهرة لم ترض ولم تركب على أنه من عصر التسعمائة قد سد هذا الباب، ولم يتجاسر أحد في هذه الأعصار لشرح هذا الكتاب إلا تعليقات على الأوائل وأين الثريا من يد المتناول
لعمرُ أبيك ما نُسب المُعلَّى                     إلى كرمٍ وفي الدُّنيا كريم
ولكنَّ البلاد إذا اقشعرَّتْ                     وصوَّح نبتُها رُعِي الهشيمُ
          هذا مع ما أنا عليه من تشتت البال بهموم وأوجال، وذهاب جملة من الأوقات في تحصيل ما تدعو إليه الضرورة من الأقوات، واضطراب الجأش بتدبير اختلال أمر المعاش، فالشكائم محلولة، والعزائم مغلولة، والقرائح قريحة، وجوارح الفطن جريحة، والأفهام كليلة بغيوم الأوهام، والأفكار سقيمة بتراكم الغموم والأكدار، فأنَّى يسند المرء مع ذلك حديثاً، أو يرفع سند متن متيناً كان أو رثيثاً.
          فلم تزده مدافعتي إلا إقداماً، ولا استقالتي إلى إلزاماً وإبراماً، فتيمنت بذلك، وعلمت الإذن من مفيض النور على القلوب فيما هنالك، وتلقيت إشارته بالقبول والامتثال متوكلاً على الكبير المتعال، مفوضاً أمري إلى اللطيف الخبير الذي بيده الخير وهو على كل شيء قدير، وقارعاً باب الفتوح من الكريم الفتاح، ومتشبهاً بأرباب الكمال فالتشبه بالكرام فلاح، كما قيل:
فتشبَّهوا إن لم تكونوا مثلهم                     إن التَّشبه بالكرام فلاح
          على أن من الظاهر الجلي أن ليس ذلك لي، بل مستمد من شروح أساطين العلماء التي أبرزتها يد الإتقان، تجلى على منصة أفهام الألباء، ومما التقطته من فوائد مشايخي الذي شاع صيت ذكرهم، وعطر الخافقين عرف نشرهم، مع فوائد سمح بها الفكر الفاتر، والذهن القاصر، وسميته:
          بـ((إضاءة الدراري على صحيح البخاري))
          ويحسن أن يسمى أيضاً:
          بـ((الزند الواري شرح صحيح البخاري)).
          والله تعالى هو المرغوب إليه في هبة إلهامٍ يسلك بي مسلك السداد، ومنحة توفيقٍ أُصان به عمَّا في سَرَعان القول من الفساد، وأن يجعله تالياً لخلوص النية، متلواً بحصول الفوز بالثواب والأمنية، وأن يوفقني فيه للإتمام، ويقرب علي الشاسع البعيد في نيل ذلك المرام.